[رسائل النور سانحات قلبية]

إن مسائل رسائل النور ليست نابعة من العلم، وإعمال الفكر، وبالنية والقصد والإرادة، بل هي -بالأكثرية المطلقة- سانحات وظهورات قلبية وتنبيهات وإخطارات على القلب.

* * *

[كيف نجوتُ من ألم الشفقة؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد شعرتُ -بدافع العطف الإنساني- بحزن أليم جدا للبشرية المضطربة في هذا الشتاء القارس، والشتاء المعنوي الرهيب الذي يلطخ البشرية بالدماء، فأمدّت حكمةُ الخالق الكريم ورحمتُه تعالى قلبي المحزون، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين -كما بينته ذلك في كثير من الأماكن- فورد هذا المعنى إلى القلب:

إن تألّمك هذا الشديد، يجرى مجرى الانتقاد لحكمة ذلك الحكيم ورحمة ذلك الرحيم سبحانه وتعالى. فلا رأفة -في دائرة الإمكان- تسبق الرحمة الإلهية، ولا حكمةَ أكمل من حكمته الربانية. فكّر: أن العصاة ينالون جزاءهم والأبرياء والمظلومون سينالون ثوابَهم بعشرة أضعاف مما قاسوا. فعليك النظر إلى الحوادث الواقعة خارج دائرة اقتدارك من زاوية رحمته وحكمته وعدالته وربوبيته تعالى.

وهكذا نجوتُ من الألم الشديد النابع من الشفقة بفضل الله.

يُنقل أدناه جواب سعيد القديم حول سؤال أورده في مؤلَّفه «المناظرات» المطبوعِ قبل ثلاثين سنة.

لقد سئل قبل ثلاثين سنة أثناء تجواله بين العشائر:

سؤال: أمَا تكون الشكوى من الزمان والاعتراضُ على الدهر اعتراضا على بدايع صنعة الصانع جل جلاله؟

الجواب: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:

كأن الشاكي يقول: إن ماهية العالم المنظمةَ بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لإنجاز الأمر الذي أطلبه، والشيءِ الذي أبغيه، والحالةِ التي أشتهيها، ولا يسمح به قانونُ الفَلَك المنقش بيد العناية الأزلية، ولا توافقه طبيعةُ الزمان المطبوعةُ بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمةُ الإلهية المؤسِّسة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمراتِ التي نطلبها بهندسةِ عقولنا وتَشَهِّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطَتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم، لا يمكن أن تسكن دائرةٌ عظيمة عن حركاتها المهمة لأجل هوى شخص…

هذا وتُلحِق رسائل النور هامشا في بحث الزلزلة، كالآتي:

بينما لكل عنصر من العناصر وكل حادثة من الحوادث المادية والمعنوية -كالشتاء والزلزال- مئات من النتائج والغايات الخيرة. فإن إيقافَه لئلا يأتي شرٌّ ونتيجةٌ ذات ضرر وشر، ارتكابٌ لمئات الشر، بترك تلك المئات من النتائج الخيرة، وهذا منافٍ للحكمة والحقيقة والربوبية.

ولكن الأفراد الذين يتضايقون من القوانين الكلّية، يُمدّ الرحمنُ الرحيم سبحانه كلَّ فرد عاجز ضعيف منهم بالعنايات الخاصة والإمدادات الخصوصية والاحسانات المخصوصة ويُسعفهم بدواءٍ لدائهم. ولكن ليس وفق هوى ذلك الفرد، بل وفق منفعته الحقيقية، وقد يُعطى له ألماسا في الآخرة على ما طلبه من زجاج في الدنيا.

* * *

[هموم العيش الثقيلة]

كنتُ شديد القلق لاحتمال انفراطِ تساند طلاب رسائل النور -وأكثرهم فقراء- وتزعزعِهم أمام هذه الحالات الرهيبة من هموم العيش التي أثقلت كاهلَ الفقراء والقحط الذي ألمّ بالناس -ضمن الوفرة- حيث بلغ الغلاءُ مبلغه في هذا الشتاء المادي والمعنوي. فأنتم يا إخوتي محتاجون ومكلّفون في هذه العواصف الهوج أكثر من أي وقت آخر بالحفاظ على ترابطكم واتحادكم وغض النظر عن تقصيرات إخوانكم وعدم نشر الانتقاد فيما بينكم. حذار حذار أن يمتعض أحدُكم من الآخر… فلا ينتقدنّ أحدكم الآخر… وبخلاف ذلك فإن إظهاركم ولو قليلا من ضعف يستغلّه أهل النفاق فيلحقون بكم أضرارا بليغة.

وتجاه ضرورة هموم العيش، عليكم الالتزام بالاقتصاد والقناعة. وحيث إن المصالح الدنيوية ساقت كثيرا من أهل الحقيقة وأهل الطريقة إلى نوع من المنافسة، فأنا قلقٌ من هذه الجهة التي لم تُزعزع طلابَ رسائل النور إلى الآن، ونسأل الله ألّا تزعزعهم في المستقبل أيضا. ولكن ليس الجميع على النمط نفسه من الأخلاق. وإذا ما أراد البعضُ راحته ضمن الدائرة المشروعة فلا تعترضوا عليه. والطالبُ الذي يعاني حالة الضرورة يمكنه أن يَقبل الزكاة. وأنه لَيعدّ نوعا من خدمة رسائل النور أيضا، مدُّ يد العون بالزكاة إلى الأركان -من طلاب النور- الذين نذروا وقتهم لخدمة رسائل النور وإلى الساعين في الخدمة. بل يجب معاونتهم. ولكن يجب ألاّ يكون بالحرص والطمع؛ والسؤال بلسان الحال. وإلّا يفتح الميدان لتعرّض أهل الضلالة الذين يقولون: هؤلاء ضحّوا بدينهم في سبيل الحرص والطمع؛ إذ يقيسونكم على أنفسهم ويتهمونكم بقولهم: إن قسما من طلاب رسائل النور أيضا قد جعلوا دينهم أداةً لدنياهم.

عليكم بقراءة رسالة «الإخلاص والاقتصاد» فيما بينكم تارة، وتارة أخرى رسالة «الهجمات الست».

إن ثباتكم الخارق وصلابتكم المتينة وتساندكم التام واتفاقكم العظيم سيكون مدار فخر لهذه البلاد بل هي بدرجة تستطيع أن تنقذ مستقبلها. احذروا ألّا تُفسد تساندَكم العاصفةُ الجديدة المقبلة.

* * *

[حقيقة تتعلق بأرباب العلم]

باسمه سبحانه

إخواني الأعزاء!

إن لرسالة «الحزب النوري» كرامةً معنوية تعود إلى شخصي، والآن جاء دور بيانها:

عندما انقلب سعيدٌ القديم إلى سعيد الجديد قبل ثلاثة وعشرين عاما، واختار مسلك التفكر، بحثتُ عن سرِّ «تفكرُ ساعةٍ خير من عبادة سنة»، وفي كل عام أو عامين كان ذلك السرّ يغيّر من شكله فينتج إما رسالة عربية أو رسالة تركية. وقد دامت تلك الحقيقة وهي تتلبّس الأشكالَ المختلفة ابتداء من رسالة «قطرة» العربية، وانتهاء إلى رسالة «الآية الكبرى»، حتى أخذت شكلها الدائم في «الحزب النوري». ومنذ عشرين عاما، ما كان يتملّكني الضيق وأصاب الفكرَ والقلبَ إرهاقٌ، ولجأتُ إلى قراءة قسم من ذلك الحزب بتأمل، إلّا وكان يزيل ذلك الضيقَ والسآمة والإرهاق. وقد تكرر ألف مرة أنه لم يبق أي أثر للملل والتعب -الناتجين عن الانشغال طوال خمس أو ست ساعات من الليل- بقراءة سُدس ذلك الحزب قبيل الفجر. نعم، إن هذه الحال تدوم حتى الآن.

ولمناسبة هذه الحقيقة أُبين مسألة وحقيقة عظيمة تتعلق في الوقت الحاضر بأرباب المدرسة الشرعية والعلماء:

لقد انقادت طائفةُ المدارس الشرعية لطائفة التكايا والزاويا الصوفية منذ سالف العصور، أي سلّموا لهم القياد وراجعوهم للحصول على ثمار الولاية. وتحرّوا عندهم أذواقَ الإيمان وأنوار الحقيقة. حتى كان عالم كبير من علماء المدرسة الشرعية يقبّل يدَ شيخ ولي صغير من أولياء الزاوية الصوفية ويتبعه، فطلبوا ذلك النبع الفياض بالماء الباعث على الحياة في التكايا والزوايا.

بينما أظهرت رسائل النور بالمعجزة المعنوية للقرآن الكريم -كما هو ماثل أمامكم- أن في المدارس الشرعية أيضا طريقا قصيرة توصل إلى أنوار الحقيقة، وفي العلوم الإيمانية ينبوع ثرّ هي أصفى وأنقى من غيرها. وأنه في العلم الشرعي، وفي الحقائق الإيمانية وعلم كلام أهل السنة، طريقا للولاية هي أسمى وأحلى وأقوى من العمل والعبودية والطريقة الصوفية.

بينما يلزم -بل الألزم- سعيُ علماء المدرسة الشرعية لموالاة رسائل النور باعتزاز وشوق، فإن أكثرهم لا يعرفون -يا للأسف- أن هذا الكنـز العظيم الباقي، وهذا النبع الفياض الباعث على الحياة، مُلك مدرستهم نفسها، ولا يبحثون عنه، ولا يحاولون الحفاظ عليه.

ولكن الآن ولله الحمد بدأت تباشيرُ ذلك حيث جَذبت مجموعةُ «الكلمات» العلماءَ والمعلمين معا إلى الأنوار.

* * *

[الحاجة إلى الحقائق الإيمانية ماسة]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

حمداً لله وشكراً له بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ جعل ولاية إسبارطة مدرسةَ الزهراء والجامع الأزهر والذي كان هدف خيالي منذ مدة. فأقلامكم تُغني رسائلَ النور عن المطبعة ونشرُكم بالرونيو هذا العدد الكبير من النسخ المضبوطة المتسمة بالتوافق في وقت قصير أثبت دعواي الذي قلته صباحا. ثم أتى «أمين» بهذه النسخ -ثمرات رياض الجنة- قبيل الظهيرة. والدعوى هي أن الحقائق الإيمانية التي تخدمها رسائل النور هي أجلّ من كل شيء، والحاجة إليها على أشدها في الوقت الحاضر، ولكن الملحدون أماتوا قلوبَهم وأطاشوا نفوسَهم بالأهواء، فينكرون الحاجة إلى حقيقة الإيمان، فيقولون: إن الذي يحرك أهل الدين والعلم نابع من مقاصد دنيوية وحاجاتها. وهكذا يتهمونهم ويعرّضونهم لظلم شديد بموجب ذلك الاتهام. إن إسكات هؤلاء الملحدين التعساء إسكاتا تاما وفعليا يتطلب وجود مضحّين لا تُشبع حاجاتِهم إلى الحقائق الإيمانية أعظمُ مشاغل الدنيا، بل حتى أضرارُها الجسيمة لا تشغلهم عنها.

– تُرى هل هناك أحد من هذا القبيل؟

– نعم، وها هي ولاية إسبارطة وحواليها أمامكم…

* * *

[نفس أمارة ثانية]

مسألة دقيقة كُتبتْ تنبيها لأحد إخواننا ممن لم يرَ تقصيره، نرسلها لكم علّها تنفعكم كذلك.

رأيت -في وقت ما- لدى عدد من الأولياء العظام، ممن نجوا من أوضار نفوسهم الأمارة بالسوء مجاهدات نفسية، وشكايات منها. فكنتُ أحار في الأمر كثيرا، ولكن بعد مدة طويلة رأيت أن هناك نفسا أمارة معنوية -غير دسائس النفس الأمارة الحقيقية- هي أشد عصيانا من الأولى وأكثر نفورا من الطاعة، وأكثر إدامة للأخلاق الذميمة، هي النفس الثانية.

وهي مزيج من الهوس والمشاعر والطبائع، وهي موغلة في الأعصاب والعروق، وهي الحصن الأخير الذي تحتمي به النفسُ الأمارة، وهي التي تتولى القيام بوظيفة النفس الأمارة السيئة السابقة -التي تزكّت منها- فتجعل المجاهدة تستمر إلى نهاية العمر.

وأدركتُ حينها أن أولئك الأفذاذ الميامين ما كانوا يشكون من النفس الأمارة الحقيقية، بل من نفس أمارة مجازية. ثم شاهدت أن الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي أيضا يخبر عن هذه النفس المجازية.

ولما كانت حواس هذه النفس الأمارة الثانية عديمة الشعور، عمياءَ لا تبصر، فلا تَفهم أقوال العقل ولا تدرك نصائح القلب، ولا تُعير لها سمعا كي تنصلح وتدرك تقصيراتها، لذا لا ترتدع عن السيئات إلّا بلطمات التأديب وصفعاتها وبالآلام، أو بالتضحية التامة بحيث يضحي المرءُ بمشاعره وحواسه كلِّها للهدف الذي يصبو إليه فيترك أنانيته كليا، بل كلَّ ما يملكه لذلك الهدف، كما تركه طلاب النور الخواص.

وفي هذا العصر العجيب، تتفق النفسان الأمارتان -الحقيقيةُ والمجازيةُ- معا بتلقينات رهيبة، حتى تدفعا الإنسانَ ليَدخل في السيئات والآثام طوعا وبرغبةٍ منه، تلك السيئات التي ترتعد من شناعتها الكائنات.

حتى إنني في غضون دقيقة واحدة، وبضيق قليل جدا فَوَّتُّ حسنةً عظيمة جدا. وقد حدث أيضا ضمن مجاهدة معنوية عظيمة خلال عشر دقائق، عندما كان أحدُهم وهو في صفي يخترق صفوف أعدائي ويشقهم شقا كمن يرميهم بمدافع ثقيلة عظيمة. فتحيّنَتْ تلكما النفسان الأمارتان فرصةَ الغفلة موقتا، إذ شَعرتُ بميلٍ للتفوق وبأثَرة مظلمة إلى أقبح رياء وحسد بدلا من الشكر والحمد العظيمين حيث قلت: «لِمَ لمْ أرم القذائف أنا؟».

فألف شكر وشكر للبارئ الكريم سبحانه أن رسائل النور ولاسيما رسائل «الإخلاص» أزالت -كليا- دسائسَ كلتا النفسين وضمدت الجراحات التي ولدتاها، مثلما أزالت الحالاتِ التي حدثت في دقيقة واحدة وفي عشر دقائق إزالة تامة والحمد لله. فعرفتُ تقصيري -تلك المعرفة التي هي استغفار معنوي- ونجوت بفضله تعالى من العذاب والآلام المضمَرة التي هي جزاء معجل لذلك الخطأ.

* * *

قلق ساور قلبي فجأة

أبينه لكم:

لقد شعرتُ وأدركت أن أهل الضلالة لعجزهم عن صد السيوف الألماسية لرسائل النور يريدون زعزعة رابطة الطلاب الوثيقة مستفيدين من عروق واهية نابعة من اختلاف المشارب أو المشاعر مستغلين متطلبات العيش ولوازمه والغفلة التي تخيّم في الربيع. إياكم وإياكم أن تجد الفرقةُ فرجةً فيما بينكم. احذروا؛ فالإنسان لا يخلو من خطأ. إن باب التوبة مفتوح. فإذا ما دفعتكم النفسُ والشيطان إلى الاعتراض على أخيكم وانتقاده على حق، قولوا:

إننا مكلفون بالتضحية بحياتنا وكرامتنا وسعادتنا الدنيوية في سبيل الحفاظ على التساند الذي هو الرابطة الوثقى لرسائل النور، فضلا عن مثل هذه الأمور الجزئية. فوظيفتُنا التضحية بكل ما يمتّ بصلة بالدنيا والأنانية، لما تكسبنا رسائل النور من نتائج جليلة.

وبهذا تُسكتون النفسَ الأمارة. وإن دار حول مسألةٍ نقاشٌ ونزاع، فشاوروا بعضَكم بعضا. لا تتشددوا، أوغلوا برفق، الناسُ ليسوا سواسية في المشارب. ينبغي أن يتسامح بعضُكم مع البعض الآخر في الوقت الحاضر.

سلامنا إلى الإخوة جميعا فردا فردا.

* * *

[لا تفسحوا المجال للانتقاد]

إخوتى الأعزاء الأوفياء!

حذار حذار.. لا تفسحوا المجال لانتقاد بعضكم البعض الآخر، فيستغلَّ أهل الضلالة اختلاف مشاربكم وعروقكم الضعيفة وحاجاتكم المعيشية. صونوا آراءكم من التشتت بإقامة الشورى الشرعية بينكم، اجعلوا دساتير رسالة الإخلاص نصب أعينكم دائماً. وبخلاف هذا فإن اختلافاً طفيفاً في هذا الوقت يمكن أن يُلحق أضراراً بليغة برسائل النور.

* * *

[ما الذي يمنعنا عن السياسة؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد أتاني اليوم صلاح الدين ومسؤول من الأمن (المَباحث) يتعقبه، دخل عليّ من ورائه.

قلت لذلك الجاسوس الحكومي:

إن رسائل النور -ونحن الذين نتلقى الدرس منها درسا كاملا- لن نجعلها أداةً للدنيا قاطبة ناهيك عن سياستها، ونحن لا نتدخل بدنيا أهل الدنيا، فمن البلاهة توقّع الأضرار منا، وذلك:

أولا: أن القرآن الكريم قد منَعنا من السياسة، لئلا تسقط -في نظر أهل الدنيا- الحقائقُ التي هي بنفاسة الألماس إلى مستوى القطع الزجاجية التافهة.

ثانيا: إن الشفقة والضمير والحقيقة تمنعنا من السياسة. لأنه لو كانت نسبة المنافقين الملحدين الذين يستحقون العقاب اثنين من عشرة، فهناك سبعٌ أو ثمان من الأبرياء من أقاربهم وذويهم. وهناك الأطفال والعوائل والشيوخ والمرضى. فإذا نزلت المصيبةُ والبلاء فإن أولئك الأبرياء الثمانية سيسقطون في أتون المصيبة. ولربما سيلحق بالمنافقَين الاثنين والملحدَين ضرر طفيف. ولهذا فإن ما في ماهية رسائل النور من الشفقة والرحمة والحق والحقيقة قد حالت دون الدخول في السياسة بوسائل الإخلال بالإدارة والنظام فضلا عن أن نتائجها مشكوك فيها.

ثالثا: إن هذا الوطن وهذه الأمة والحكومة -مهما كان شكلها- فهي بحاجة ماسة إلى رسائل النور. فينبغي لأعتى الملحدين منهم أن يميل إلى دساتيرها المتسمة بالدين والحق ناهيك عن الخوف منها والعداء لها، اللهم إلّا إذا كانت خيانة فاضحة للأمة والوطن والحاكمية الإسلامية. لأن هناك خمسة أسس ضرورية لإنقاذ هذه الأمة وهذا الوطن في حياتها الاجتماعية والسياسية ونجاتها من الفوضى والإرهاب ومن المخاطر العظيمة:

الأول: الرحمة. الثاني: الاحترام. الثالث: الأمن والثقة. الرابع: اجتناب المحرمات والتمييز بين الحرام والحلال. الخامس: الطاعة وترك التسيب.

وهكذا فرسائل النور عندما تنظر إلى الحياة الاجتماعية تُحقق هذه الأسس الخمسة وتثبّت بها ركائز النظام في البلاد.

ألَا فليعلم الذين يتعرضون لرسائل النور، أنّ تعرضهم هذا إنما هو عداء -في سبيل الفوضى والإرهاب- للوطن والأمة والنظام.

هذا ما قلته باختصار لذلك الجاسوس الحكومي. وقلت له: قل هذا لمن أرسلك هنا. وقل لهم أيضا: إن الذي لم يراجع الحكومة لتأمين راحته طوال ثماني عشرة سنة.. والذي لا علم له بالحرب الدائرة التي قلبت العالم رأسا على عقب منذ أحد عشر شهرا.. والذي يستغني عن أن يَقبل إيجاد علاقةِ صداقةٍ مع من يشغل مراتب رفيعة في الدولة. فالذي يتوجس خيفةً من مثل هذا الرجل ويساوره الشكوك وكأنه سيتدخل بأمور دنياهم ومن ثم مضايقته وشدّ الخناق عليه، ماذا يعني عمله هذا؟ وما المصلحة فيه؟ وأي قانون يجيز هذا؟ حتى البلهاء يعرفون أن التعرض له جنون وبلاهة! قلنا له هذا، ثم غادرنا.

* * *

[لا تنشغلو بلسعات البعوض]

إخواني الأعزاء!

لا داعي إلى درس وتوجيه جديد، إذ شاهدتُ بين رسائلكم رسائل «الإخلاص» هذه المرة. فأحيلكم إلى دروس تلك الرسائل. إلّا أنني أنبّه إلى ما يأتي:

لما كان مسلكُنا يستند إلى الإخلاص، ومبنيا على الحقائق الإيمانية فإننا مضطرون -وفق مسلكنا- إلى عدم التدخل في أمور الحياة الاجتماعية والحياة الدنيوية، مالم نضطر إليها. وعلينا التجرد والابتعاد عن تلك الحالات التي تؤدي إلى التنافس والتحيّز والتنازع.

فأسفا، وألف أسف، لأهل العلم ولأهل التقوى الضعفاء الذين يتعرضون -في الوقت الحاضر- إلى هجومِ ثعابين مرعبة، ثم يتحججون بهفوات جزئية شبيهة بلسع البعوض، فيعاوِنون -بانتقاد بعضهم البعض- تلك الثعابينَ الماردة، ويُمدّون المنافقين الزنادقة بأسبابٍ لتدميرهم وتحطيمهم، بل يساعدونهم في هلاك أنفسهم بأيدي أولئك الخبثاء.

يَذكر أخونا المخلص جدا «حسن عاطف» في رسالته: أن عالما واعظا شيخا قد اتخذ طورا يُلحق الضرر برسائل النور، حيث حاول التعرض لها بالتهوين من شخصي الضعيف، بحجة تَركي لسنة نبوية (إطلاق اللحية) علما أن ذلك الترك مبني على عذرين مهمين.

أولا: ليعلم ذلك الشخص -واعلموا أنتم كذلك- أنني خادمُ رسائل النور، ودلّالُ ذلك الدكان. أما رسائل النور فهي تفسير حقيقي للقرآن الكريم وهي وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل.

ثانيا: بلّغوا ذلك العالم الواعظ عني السلام. فإنني أقبَل انتقاده لشخصي واعتراضه عليّ بتقدير وبرحابة صدر. وأنتم بدوركم لا تسوقوا ذلك العالم الفاضل ولا أمثاله من العلماء إلى المناقشة والمناظرة. ولو حدَثَ تعدّ وتجاوز علينا، فلا تقابلوه حتى بالدعاء عليهم. إذ إن ذلك المتجاوز أو المعترض أيا كان، هو أخونا من حيث الإيمان لأنه مؤمن. حتى لو عادانا، فلا نستطيع أن نعاديه بمثل عدائه، حسب ما يرشدنا إليه مسلكُنا. لأن هناك أعداء شرسين وحيّات لاذعة ونحن لا نملك سوى النور، لا الصولجان. والنورُ لا يؤلم، بل يلاطف بضيائه، ولاسيما الذين هم ذوو علم فلا تثيروا غرورَهم العلمي إن كانوا على غرور وأنانية، بل استرشِدوا ما استطعتم بدستور الآية الكريمة: ﴿وَاِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان:72).

ثم إن ذلك الشخص المحترم، كان داخلا في دائرة رسائل النور، واشترك في استنساخ الرسائل، فهو إذن ضمن تلك الدائرة، فاصفحوا عنه حتى لو كان يحمل خطأ فكريا.

فليس مثل هذا الشخص الفاضل من ذوي الدين والتقوى المنسوبِين إلى الطرق الصوفية، بل حتى من المؤمنين المنسوبين إلى فرق ضالة، لا ينبغي أن نثير معهم نزاعا وخصاما في هذا العصر العجيب، بل لا نجعل نقاطَ الاختلاف والنزاع موضعَ نقاش مع المؤمنين بالله واليوم الآخر حتى لو كانوا من النصارى.

هذا ما يقتضيه هذا العصر العجيب، وما يقتضيه مسلكنا الذي نسلكه، وما تقتضيه خدمتنا المقدسة.

ولأجل الحيلولة دون ظهور عوائق اجتماعية وسياسية أمام انتشار رسائل النور في العالم الإسلامي، ينبغي لطلاب رسائل النور اتخاذ سلوك المصالحة. إياكم وإياكم أن تتعرضوا لصلاة الجماعة والجمعة للعلماء، فلا تنتقدوا المشتركين فيها. أما قول الإمام الرباني: «لا تدخلوا مواضع البدع» فالمقصود منه لا ثواب فيها، وليس معناه بطلان الصلاة، لأن قسما من السلف الصالحين قد صلّوا خلف يزيد والوليد. ولكن إذا كان المرء يتعرض للكبائر في أثناء ذهابه إلى المسجد وإيابه منه، فالأولى أن يظل في معتكفه.

يذكر أخونا في رسالته عن إخواننا الجدد الشجعان الثابتين. فنحن نقبلهم بكل مهجنا وأرواحنا. ولكن الداخلين في دائرة رسائل النور لأجل أن يقدروا شجاعتهم الشخصية حق قدرها يبذلون شجاعتهم في ثبات لا يتزعزع ومتانة لا تلين وترابط لا ينفصم مع إخوانه. فيجب تحويل تلك الشجاعة الشخصية التي هي بحكم قطع زجاجية متكسرة إلى ألماس التضحية الصدّيقية الناشدة للحقيقة.

نعم، إن أهم أساس في مسلكنا بَعد الإخلاص التام هو الثبات والمتانة. وبهذه المتانة حدثت وقائع كثيرة أثبتت أن أمثال هؤلاء الذين نذروا حياتهم في خدمة النور يقابل كلٌّ منهم مائة شخص، فالشخص الاعتيادي الذي لا يتجاوز عمره الثلاثين قد فاق أولياءً يتجاوزون الستين من العمر.

ثم إن شخصا حتى لو كانت شجاعته حسنة، فإنه بعد دخوله جماعة متساندة، لا يستطيع أن يستعمل شجاعته تلك، حفاظا على راحة جماعته وصيانةً لعدم زعزعتهم، فلابد من العمل وفق الحديث الشريف: «سيروا على سير أضعفكم». ويلزم عدم الخوض في مسائل النـزاع، وعدمُ طَرق مسائل القبعة والأذان واستعمالِ عناوين الدجال والسفياني مع الغرباء، حيث يُسبب هذا اتخاذَ العلماءِ وأهلِ السياسة تجاه رسائل النور موقف المجابهة والتعدي عليها. فالحذرُ هو الألزم.. والواجب ضبط النفس، حتى إن عدم الأخذ بالحذر ولو جزئيا يؤثر إلى هاهنا.

وإن رسائل النور ليست دائرة واحدة، بل لها طبقات كالدوائر المتداخلة. فهناك طبقة الأركان والمالكين والخواص والناشرين والطلاب والموالين وأمثالها من الطبقات.

فمن لم يكن أهلا للدخول في طبقة الأركان لا يُطرد خارج الدائرة، بشرط عدم موالاته لتيار يخالف رسائل النور، والذي ليست له ميزات الخواص يمكن أن يكون طالبا، بشرط عدم الدخول في مسلك مضاد، والذي يعمل بالبدعة يمكن أن يكون صَديقا بشرط عدم موالاته قلبا لها.

ولهذا لا تُخرجوا أحدا من جراء خطأ طفيف خارج الدائرة، لئلا يلتحق بصف الأعداء. ولكن لا يُشرَك هؤلاء في التدابير الدقيقة التي يتخذها أركان رسائل النور ومالكوها.

* * *

[طلاب النور يُفضلون الخدمة على القطبية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن حادثتين وقعتا في اليومين السابقين أوردتا إلى الخاطر مسائل عدة منها:

أولاها: يكتب أخونا صلاح الدين من أنقرة: لقد بدأوا بالتعدي على أهل الطرق الصوفية. وهناك اعتقالات في أنقرة وفي الشرق حول هذه المسألة. وطلابُ رسائل النور محفوظون في كل جهة بالعناية الربانية، فإخلاصهم المتين وترابطهم الوثيق وأخذهم بالحذر تُديم عليهم تلك العناية الربانية.

ثانيها: يشكو الناس كلهم في هذه الأيام من الضيق الذي ينتابهم، وكأن فساد الهواء المعنوي قد أورث مرضَ ضيقٍ مادي شامل. حتى سرى فيّ هذا المرض يوما. وحيث إن رسائل النور دواء لكل ما ينتابنا، فإن المنشغلين بها إما لا ينتابهم ذلك المرض أو يمسهم مسا طفيفا.

…….

رابعها: لقد شاهدتُ في بعض الرسائل المرسلة أوصافا مفرطة بحق أستاذهم، ونظرت إلى نفسي فرأيتها لا تستحق حتى زكاةَ تلك الأوصاف، وليس من حقي امتلاكها. فقلت: تُرى ما المصلحة والفائدة التي يحصل عليها إخواني هؤلاء الناشدون للحق في غلوّهم في حسن الظن واستمرارِهم عليه مع تنبيهاتي المستمرة لهم؟.

فخطر على القلب:

إن هؤلاء، وبلدتهم ولاية إسبارطة وحواليها يرون يُمْنَ حسن ظنهم العظيم اقتداءً بالأولياء من أمثال عثمان الخالدي وشكري طوبال، فلم يبالغوا إذن بالنظر من هذه الزاوية فقد شاهدوا حقيقةً. ولكن كما أن الكشفيات تحتاج إلى تأويل والرؤى إلى تعبير، فالأحكام الخاصة إذا عُمِّمت يظهر خطأٌ في جهة. وكذلك هؤلاء؛ قد أَعطوا الفائدة التي أسداها الشخصُ المعنوي لرسائل النور لهم ولبلدتهم إلى أحد ممثلي ذلك الشخص المعنوي وهو أخوكم هذا الذي دعوه «الأستاذ». فعمموا حادثة تلك البلدة ونظروا إليها حادثة عامة فأظهروا غلوا في حسن الظن.

السادس: قبل حوالي ثلاثة أيام استمعت إلى الكلمة الثانية والعشرين أثناء تصحيحها، ورأيت أن فيها: ذكراً كلياً، وفكراً واسعاً، وتهليلاً كثيراً، ودرساً إيمانياً قوياً، وحضوراً بلا غفلة، وحكمة سامية، وعبادة فكرية رفيعة وأمثالها من الأنوار. وأدركتُ الحكمة في قيام قسم من الطلاب بكتابة الرسائل أو قراءتها أو الاستماع إليها بنية العبادة، فباركتُ عملهم وصدّقتهم.

* * *