ما الملاحق؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد

لا يخفى على القارئ الكريــم أن «الملاحق» تعني الرســـائل الملحقة بالكتاب بعد الفراغ منه. إلّا أن هذه «الملاحق» واكبت رسائل النور منذ شروع الأستاذ سعيد النورسي بتأليفها في «بَارلَا» سنة 1927، واستمرت معها لحين ارتحال المؤلف إلى رحمة الرحمن
سنة 1960.

فهذه «الملاحق» عبارة عن مجموعة مكاتيب جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه الأوائل. وطابعُها العام توجيهيّ إرشادي يبين أهميةَ رسائل النور ومنهجَها في الدعوة إلى الله في هذا العصر. تكتنفُها مكاتيب ودّية يبيّن فيها الطلابُ مدى استفاضتهم الروحية من رسائل النور واستفادِتهم العقلية منها، وكيف أنها حوّلت مجرى حياتهم وفتحت أمامَهم آفاقا معرفية واسعة. وتتضمن أيضا خواطر وردت على قلب الأستاذ النورسي يَذكرها لطلابه بصدق وإخلاص. فضلا عن توجيهات لتقويم السلوك وكيفيةِ التعامل مع الآخرين والحثّ على الإيمان العميق والعمل المتواصل والترابط الوثيق والاعتصام بالكتاب والسنة، مع التأكيد على العبادة وشحن القلب بالذكر والدعاء والتفكر الإيماني، ودوام الاستغفار والانطراح بين يدي المولى القدير عاجزا فقيرا… وأمثالها من الأمور التي تهم كل داعية إلى الله، بل كل مسلم.

وتتضمن «الملاحق» ثلاثة كتب مستقلة هي: ملحق بَارلَا، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ. والحقيقة أن هذه الملاحق الثلاثة تشكلت تدريجيا، وذلك بضم المكاتيب المتبادلة بعضها ببعض، ثم عرضِها على الأستاذ النورسي، واختياره ما يصلح للنشر من بينها.

هذا، وإن كل ملحق من هذه الملاحق الثلاثة يبين مرحلة معينة من مراحل حياة الأستاذ النورسي، مثلما يبين مرحلة مميزة أيضا من تاريخ دعوة النور منذ انبثاقها في تركيا. علما أن كل مرحلة من المراحل تبدأ بامتحان عسير وتمحيص إيمانيّ دقيق للعاملين في حقل الإيمان ودعوة القرآن من سجنٍ وتشريد ونفي وتعذيب. ثم تعقبها المرحلة الأخرى وهكذا.

فملحق بَارلَا: يضم المكاتيب التي تبدأ منذ نفيِ الأستاذ النورسي إلى ناحية «بَارلَا» سنة 1927 وإقامته الإجبارية هناك إلى أن اقتيد مع طلابه إلى محكمة الجزاء الكبرى في «أسكي شهر» ثم أُودع سجنَها سنة 1935.

أما ملحق قسطموني: فيتضمن المكاتيب التي جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه بعد قضائه مدة محكوميته في سجن «أسكي شهر» ونفيه إلى قسطموني سنة 1936 وإقامته الإجبارية هناك لحين سَوقه مع طلابه النور إلى محكمة دنيزلي سنة 1944.

أما ملحق أميرداغ: فعلى جزأين:

الأول: عبارة عن مكاتيب الأستاذ النورسي بعد براءته من محكمة «دنيزلي» سنة 1944 وإقامته الإجبارية في «أميرداغ» بقرار من مجلس الوزراء، وينتهي هذا القسم أواخر سنة 1947 أي حتى الدخول في السجن الثالث الرهيب، سجن «أفيوُن».

والقسم الثاني منه: يبدأ من سنة 1948 أي من بعد الإفراج عن الأستاذ النورسي وطلابه من سجن «أفيوُن» ورجوعه إلى أميرداغ وإقامته الإجبارية فيها لحين وفاته، تتخللها مكاتيبه التي أرسلها إلى طلابه في أثناء اعتقاله وتوقيفه في «أفيوُن» لمدة عشرين شهرا، ثم إقامته لمدة شهرين في «أسكي شهر» وثلاثة أشهر في إسطنبول لمرتين (1952-1953) عند قدومه إليها لأجل الدعوى المُقامة على رسالةِ «مرشد الشباب».

أما الرسائل القيمة التي كتبها الأستاذ النورسي في أثناء سجن «أسكي شهر» و«دنيزلي» و«أفيوُن» فقد نشرت ضمن مجموعة «الشعاعات» على وفق ما ارتآه المؤلف نفسه.

ومن الجدير بالذكر أن «الملاحق» هذه امتازت بطابع دعوي خاص في مخاطبة المحبين والمناصرين للدين بل حتى المعارضين له، وحثّهم جميعا للذود عن الإسلام وعقيدته وتاريخه، لمـا واجه المجتمعُ التركي وقتئذ من ملابسات سياسية قاسية شاذة، وحرمانٍ من أبسط المفاهيم الإسلامية في مرحلة لم يكن هناك عمل إسلامي جاد يحمل على عاتقه مسؤولية النهوض بحمل الأمانة وإرشاد أبناء الأمة.

ولكي يجني القارئ الكريم الثمرات الطيبة لهذه «الملاحق» نضع بين يديه الخطوط العريضة للأوضاع السائدة في تلك الفترة والقسمات البارزة لأوضاع كل مرحلة، لتكتمل لديه صورة المرحلة، وليلمس بنفسه أهمية الأمور التي يتطرق إليها الأستاذ النورسي في «الملاحق».

كانت تركيا في تلك الفترة (1920-1950) تعيش في ظلام قاتم من الظلم والطغيان والعداء السافر للدين؛ فالسلطة الحاكمة آنذاك أرادت قطع الأمة عن عقيدتها، فحظرت تداول القرآن الكريم، وألغت المدارس الدينية، ومنعت أداء فريضة الحج بحجج مختلفة، وحرمت أداء الأذان وإقامة الصلاة وخطبة الجمعة بالوجه الشرعي وبدّلتها إلى التركية، وفرضت الزي الأوروبي والسفور على النساء، وألغت الحروف العربية المستعملة إلى اللاتينية، وفرضت يوم الأحد عطلة رسمية بدلا من يوم الجمعة، ووضعت القوانين الأوروبية موضع التنفيذ بدلا من أحكام الشريعة، وألّفت المحاكم في طول البلاد وعرضها لتطبيق هذه القوانين، فزرعت الإرهاب والذعر في قلوب الناس ونصبت المشانق للعلماء ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة. ومن جهة أخرى كانت تُروّج للقومية التركية وامتيازها على غيرها من القوميات، وتُقدّس الزعماء إلى حد التأليه، وتدرّس الفلسفة المادية وإنكار الخالق والآخرة في المدارس مع بث روح الإعجاب بحضارة أوروبا إلى حد التميع.

ومن هنا نرى أن مرحلتي «بَارلَا» و«قسطموني» خاصة (1927-1944) -وكذا أميرداغ- تتميزان بالعمل السري التام والتأسيس الصامت، والتأكيد على الحذر الشديد لإرساء القواعد، وتربية طلاب يتحلون بالإخلاص الكامل والتفاني في العمل والوفاء الخالص والشغف بالدعوة والارتباط المتين بها، وبُعد الهمة في سبيل نشر رسائل النور التي هي تفسير للقرآن الكريم والعمل المتواصل في ترسيخ حقائق الإيمان في النفوس ودفع الشبهات عنها، في الفترة التي تعدّ أقسى الفترات التي مرت على تركيا حيث الحرب الضروس على الإسلام قائمة تشتد كلما مرّ الزمان، فضلا عن مصائب الحرب العالمية الثانية -في مرحلة قسطموني- التي أذاقت الناس الجوع والفقر مع الخوف والهلع رغم بقاء تركيا في الحياد منها.

استمرت هذه السنوات العجاف والأجواء الحالكة حتى هيأ الله سبحانه ثلة من الطلاب الميامين من الرعيل الأول من طلبة النور شمروا عن ساعد الجد في العمل الدؤوب، قلوبهم تفيض بالإيمان، أرواحهم مشبوبة نضرة ملآى بحب الله ورسوله ﷺ، صدورهم مفعمة بالدعوة إلى الإيمان والقرآن، حتى كان أحدهم يسير ليلا إلى مطلع الفجر بين الجبال ليوصل الرسالة إلى من يستنسخها باليد.

وطوال هذه السنين والأستاذ النورسي دائم الاتصال مع طلابه بالمراسلة سرا رغم بُعده عنهم ورغم الترصد الدائم والمراقبة الشديدة. فالتوجيهات مستمرة إلى العمل مع أخذ الحيطة والحذر والجدّ في العمل وملازمة التقوى والزهد والقناعة والغيرة على الإيمان في تواضع جمّ وانقطاع كامل إلى دعوة الإيمان والقرآن.

ومما يلفت النظر أن الأستاذ النورسي ضمّ بين مكاتيبه في «الملاحق» مكاتيبَ وردت إليه من طلابه يفصحون فيها عن جيشان مشاعرهم القلبية وفيضهم الروحي وتزودهم العقلي لدى قراءتهم رسائل النور التي كلما قرؤوها عملت على تزكية نفوسهم وتنقية فكرهم من الشوائب والشبهات ودفَعتهم إلى الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ يحدوهم الشوق إلى العمل في سبيل إعلاء كلمة الله. فمكاتيبهم هذه إنما هي نوع من عرفان للجميل الذي قدمته لهم رسائل النور.

أما في ملحق «أميرداغ» فنجد الأمر قد تغيّر قليلا حيث أتيحت حرية نسبية للمسلمين وذلك بعد سنة 1950. لذا نرى فيه موازين سياسية وقواعد اجتماعية، ولاسيما في القسم الثاني منه، ورسائل موجهة إلى المسؤولين في البلاد بدءا من مدير الأمن للولاية إلى مدير الأمن العام إلى محكمة التمييز والمحاكم الأخرى إلى رئاسة الوزارة فرئيس الجمهورية، بل إلى خارج تركيا بل حتى إلى البابا في الفاتيكان، مع ردود على الصحف المأجورة التي ما فتئت تحرض على المسلمين وتشيع الفتن وتبث الإشاعات.

وحيث إن الأستاذ النورسي نفسه قد اختار من المجموعة الهائلة للمكاتيب المتبادلة بينه وبين طلاب النور ما يصلح للنشر، فقد انتقينا كذلك في أثناء الترجمة من المكاتيب التي اختارها الأستاذ النورسي تلك التي لها فاعليتها في التوجيه والإرشاد وتعبّر عن أساليب الدعوة في مراحلها المختلفة أو العمل مع الموالين والمعارضين بأصنافهم كافة، أو فيها دروس بليغة وحكم رصينة وقواعد سديدة وموازين صائبة يحتاج إليها كل صاحب دعوة. ذلك لأن أمور الدعوة إلى الله تتكرر في كل مكان وزمان بعُسرها ويُسرها وفي منشطها ومكرهها. لذا تعدّ هذه المكاتيب نماذج حيّة وموفّقة في حقل دعوة الإيمان والقرآن لا يمكن الاستغناء عنها.

ولأهمية «الملاحق» هذه وضعها الأستاذ النورسي ضمن رسائل النور الإيمانية وجَعَلها «المكتوب السابع والعشرين» من مجموعة «المكتوبات».

والملاحَظ أن من يقرأ «المباحث الإيمانية» في رسائل النور بتأمل عميق، يصفو ذهنُه وتشرق روحُه ويصقل إيمانُه، فيرقى في مدارجه.. وأنّ من يديم قراءة «الدفاعات» المندرجة في ثنايا الرسائل يتجهّز بأعتدة تُعِينه في الدفاع عن دعوته تجاه شياطين الجن والأنس.. وأنّ من يَدرس «الملاحق» دراسة متقنة تصبح حركاتُه وأطواره ونظراته للأحداث والوقائع منسجمةً مع منظور رسائل النور القرآني، فتتوسع مداركُ عقله ويتنور فهمُه ويفيض قلبُه وتستجيش عواطفه ويَنْفُذ نظره إلى البعيد، فلا تزيغ به الأهواء بإذن الله.

ويجمُل بنا أن ننقل هنا نص رسالة الأستاذ النورسي إلى أحد طلابه الأوائل (خسرو) والتي يبيّن فيها ماهية هذه «الملاحق» ليكون مسك الختام لهذه المقدمة:

«إن هذه الرسالة (أي المكتوب السابع والعشرين) مجلس نوراني عظيم، يتدارس فيه طلاب القرآن الكريم الميامين، ويتداولون فيما بينهم -ضمنا- الأفكارَ الدائرة ووجهاتِ النظر، ويدلي كلٌ بدَلوه فيما تعلّمه من دروس القرآن الكريم.

وهي أيضا منـزل عظيم، ومعرض واسع لعرض الرسائل التي هي صناديقُ مجوهراتِ الخزينة القرآنية المقدسة؛ فكل طالب يعرض ما أخذه من الجواهر النفيسة على الزبائن الكرام. فبارك الله فيكم يا أخي خسرو، فلقد جمّلتم ذلك المنـزل أيّ «تجميل».

وتسهيلا للقارئ الكريم وضعنا بدايةَ كلِّ مكتوب عنوانا صغيرا حصرناه بين قوسين مركّنين وهو غير موجود في النص التركي.

والله نسأل أن يوقفنا إلى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إحسان قاسم الصالحي