الفصل الأول

مولد سعيد الجديد

ملاحظة

يجد القارئ الكريم أننا استرجعنا التسلسل التاريخي إلى سنة 1919م، وذلك ليسهل عليه متابعة هذه الفترة التي تبدأ بعد عودة الأستاذ النُّورْسِيّ من الأسر والتي تمثل مراحل المخاض لظهور «سعيد الجديد» الذي وضعت على كاهله مهمة دعوة الإيمان والقرآن في أحلك فترة مرت بها الأمة. وفي الحقيقة أننا لو استرجعنا سيرته من بدايتها لشاهدنا أن القدر الإلهي قد ساق سعيداً الطفل منذ نعومة أظفاره وهيأه لحمل هذه الأمانة؛ فنرى اللقمة الحلال ومخايل النبوغ منذ صباه، وانكشاف مواهبه عن ذكاء حاد، وقوة ذاكرة مذهلة، مع الإباء والشمم، وتشرفه ببشارة الرسول ﷺ واغترافه العلوم بشتى أنواعها، وسلوكه مسلك الزهد والورع، وانقلابه الفكري لدى سماعه بمؤامرة خبيثة تحاك حول القرآن الكريم وتوجهه الكلي نحوه، ثم جهاده الفعلي لإنقاذ دولة الخلافة آنذاك وما أعقبه من مكابداته النفسية في الأسر، وصحوته الروحية هناك وعودتها بعد فكاكه من الأسر ثم ما حدث في وجدانه من تحول عظيم بنذير الشيخوخة والتفكر بالموت وتوحيد قبلة توجّهه إلى القرآن الكريم بعد قراءته لكتاب الشيخ الكيلاني والإمام الرباني، وظهور بوادر تحول هائل في حياته حتى رغب في الانزواء عن الناس فانسحب إلى تل يوشع ودخل مسلك التفكر والتأمل نافضاً ما علق في فكره من لوثات الفلسفة فكتب معاناته النفسية وانقلابه الروحي وانكشافه القلبي في «مثنويّه» حتى اكتمل سعيداً جديداً في طريق قرآني هو: العجز والفقر والشفقة والتفكر، علماً أنه لم ينس واجبه في التبليغ في هذه الفترة إذ تصدى لدسائس الإنكليز وسعى سعياً حثيثاً في أنقرة لتوجيه دفة الانقلاب لصالح الإسلام إلا أنه شاهد علامات الدجال والسفياني على من بيده السلطة فتيقن أنه لا يمكن المواجهة إلا بإعجاز القرآن فاعتزل أمور السياسة كلياً متوجها إلى «وان» ليستعد لحمل الأمانة الثقيلة.. وهكذا نشاهد كيف أمرّته العناية الإلهية من مرحلة إلى أخرى لينصرف «سعيد الجديد» كلياً إلى مهمة إنقاذ الإيمان.

سنة 1919م/1336هـ

عودة الصحوة الروحية

«عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن» في قصر على قمة «ﭼاملجة» في إسطنبول. ويمكن أن تعتبر هذه الحياة التي كنت أحياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة أمامي في «دار الحكمة الإسلامية» وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا استحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من إسطنبول «جاملجة»، وكل شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث إن ابن أخي «عبد الرحمن» -رحمه الله- معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم، نظرت إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع «قوصتورما» تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت أظنها أنها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلّا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حميم، يُعدّ من أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر لي على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي: ياتُرى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً فناءَ ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة للفناء والزوال!

ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وقد تشبثت بالأشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخَتْ من أعماقها:

مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟

وما دمتُ عاجزة فماذا أنتظر من العاجزين؟..

فليس لدائي دواء إلّا عند الباقي السرمدي، عند القدير الأزلي.

فبدأت أبحث وأستقصي.. راجعت أول ما راجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبحث فيها عن السلوة والرجاء. ولكن كنت -ويا للأسف- إلى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني -ظناً خطأ جداً- أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك المسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيراً، بل أصبحت عائقة أمام سموي المعنوي». ([1])

إزالة العوائق عن طريق القلب

«قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في ازدياد المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالأمراض المعنوية توصِلُ إلى علوم عقلية، كما أن العلوم العقلية تولّد أمراضاً قلبية. إذ حينما سار «سعيد الجديد» في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الأوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة إلى حدٍّ ما في أفكار «سعيد القديم» إلى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من «سعيد الجديد» إلّا القيام بتمخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة المزخرفة ولوثات الحضارة السفيهة. حيث إن سعيداً القديم والمفكرين، قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية، أي يقبلون شيئاً منها، ويبارزونها بأسلحتها، ويعدّون قسماً من دساتيرها كأنها العلوم الحديثة فيسلّمون بها. ولهذا لا يتمكنون من إظهار القيمة الحقيقية للإسلام على تلك الصورة من العمل، إذ يطعّمون شجرة الإسلام بأغصان الحكمة التي يظنونها عميقة الجذور. وكأنهم بهذا يقوّون الإسلام. ولكن لما كان الظهور على الأعداء بهذا النمط من العمل قليلاً، ولأن فيه شيئاً من التهوين لشأن الإسلام،فقد تركتُ ذلك المسلك. وأظهرت فعلاً أن أسس الإسلام عريقة وغائرة إلى درجة لا تبلغها أبداً أعمق أسس الفلسفة، بل تظل سطحية تجاهها..

ففي المسلك السابق؛ تُظن الفلسفة عميقة، بينما الأحكام الإسلامية ظاهرية سطحية، لذا يُتشبث بأغصان الفلسفة للحفاظ على الإسلام. ولكن هيهات! أنّى لدساتير الفلسفة من بلوغ تلك الأحكام».

انتصار القلب

«وبينما كنت في هذه الحالة، إذا بحكمة القرآن المقدسة تسعفني، رحمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبحانه، فغسلتْ أدران تلك المسائل الفلسفية، وطهرت روحي منها -كما هو مبين في كثير من الرسائل- إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية، يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجه بنظري في تلك المسائل فلا أرى نوراً ولا أجد قبساً، ولم أتمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريم الذي يلقن «لا إله إلا هو» فمزّق ذلك الظلام وبدده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك بما أخذاه من تعليمات وتلقياه من دروس من أهل الضلالة والفلسفة. فبدأت المناظرة النفسية في هذا الهجوم حتى اختتمت ولله الحمد والمنّة بانتصار القلب وفوزه».

نذير الشيخوخة وتذكّر الموت

«حينما أفقت على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت إلى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر سعياً من علٍ إلى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي المصري:

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الأيام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة إلى الدنيا بدأت أوثاقها تنفصم وتنقطع. فدب فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لا يحصى من الأحبة والأصدقاء، فأخذت أبحث عن ضماد لهذا الجرح المعنوي الغائر، الذي لا يرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لم أستطع أن أعثر له على علاج، فقلت أيضاً كما قال نيازي المصري:

حكمة الإله تقضي فناء الجسد          والقلب توّاق إلى الأبد

لهف نفسي من بلاء وكمـد           حار لقمان في إيجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الحالة إذا بنور الرسول الكريم ﷺ الذي هو رحمة الله على العالمين، ومثالها الذي يعبّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، وإذا بشفاعته، وبما أتاه من هدية الهداية إلى البشرية، يصبح بلسـماً شافياً، ودواءً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويـبدل ذلك اليأس القـاتم الذي أحاطني إلى نور الرجاء الساطع.

وحينما وطأتْ قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخة والمرض معاً على شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت أن عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلما صاح نيازي المصري:

 ذهب العُمر هباءً، لم أفز فيه بشيء

ولقد جئتُ أسير الدرب، لكنْ

 رحل الرّكبُ بعيداً

 وبقيتْ

 ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، وأسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من أعماقي أطلب إمداد العون، وضياء الرجاء.. وإذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدّني، ويسعفني، ويفتح أمامي باب رجاء عظيم، ويمنحني نوراً ساطعاً من الأمل والرجاء يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه ان يبدد تلك الظلمات القاتمة من حولي.

نعم، إنني مصداق لما قيل:

وعينيَ قد نامت بليلِ شبـيبـتي  ولم تنتبه إلّا بصبح مَشيب

إذ أشد أوقات انتباهي في شبيبتي رأيته الآن أعمقَ طبقات نومي!…

فحينما خالط بعض شعرات رأسي البياض الذي هو علامة الشيخوخة، وكانت أهوال الحرب العالـمية الأولى وما خلفه الأسر لدى الروس من آثار عميقة في حيـاتي عمّقت فيّ نوم غفلة الشباب. وتلا ذلك استقبال رائع عند عودتي من الأسر إلى إسطنبول، سواء من قبل الخليفة أو شيخ الإسلام، أو القائد العام، أو من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريم وحفاوة أكثر مما أستحق بكثير.. كل ذلك ولّد عندي حالة روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمّقتْ فيّ ذلك النوم أكثر، حتى تصورت معها أن الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

ففي هذا الوقت، ذهبت إلى جامع بايزيد في إسطنبول، وذلك في شهر رمضان المبارك لأستمع للقرآن الكريم من الحفاظ المخلصين ([2]) فاستمعت من لسان أولئك الحفاظ ما أعلنه القرآن المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الإنسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران:185).

نفذ هذا الإعلان الداوي إلى صماخ أذني مخترقاً وممزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في أعماق أعماق قلبي.

خرجت من الجامع، فرأيت نفـسي لبضـعة أيام، كأن إعصـاراً هائلاً يضـطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم العميق المستقر فيّ منذ أمد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت أنظر إلى المرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!.

نعم، إن الأمور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت أن الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً بأذواقه يقول لي: الوداع! وأن الحياة الدنيا التي كنت أرتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت أتشبث بها، بل كنت مشتاقاً إليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع! الوداع! مشعرة إياي، بأنني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها – أي الدنيا – هي الأخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل.

وانفتح إلى القلب من كلية هذه الآية الكريمة ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ ومن شموليتها ذلك المعنى الذي يتضمنها، وهوأن البشرية قاطبة إنما هي كالنفس الواحدة، فلا بد أنها ستموت كي تبعث من جديد، وأن الكرة الأرضية كذلك نفسٌ فلا بد أنها سوف تموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الخلود، وأن الدنيا هي الأخرى نفسٌ وسوف تموت وتنقضي كي تتشكل بصورة «آخرة».

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت أن الشباب الذي هو مدار الأذواق واللذائذ ذاهب نحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الأحزان، وأن الحياة الساطعة الباهرة لفي ارتحال، ويتهيأ الموت المظلم المخيف -ظاهراً- ليحل محلها.

ورأيت الدنيا التي هي محبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة ويُظن أنها دائمة، رأيتها تجري مسرعة إلى الفناء. ولكي أنغمس في الغفلة وأخادع نفسي ولّيت نظري شطر أذواق المنـزلة الاجتماعية ومقامها الرفيع الذي حظيت به في إسطنبول والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدي وطوقي من حفاوة وإكرام وسلوان وإقبال وإعجاب.. فرأيت أن جميعها لا تصاحبني إلّا إلى حد باب القبر القريب منى، وعنده تنطفئ.

ورأيت أن رياءً ثقيلاً، وأثرة باردة وغفلة مؤقتة، تكمن تحت الستار المزركش للسمعة والصيت، التي هي المثل الأعلى لأرباب الشهرة وعشاقها، ففهمت أن هذه الأمور التي خدعتني حتى الآن لن تمنحني أي سلوان، ولا يمكن أن أتلمس فيها أي قبس من نور.

ولكي أستيقظ من غفلتي مرة أخرى وأنتبه منها نهائياً، بدأت بالاستماع كذلك لأولئك الحفاظ الكرام في «جامع بايزيد» لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريم.. وعندها سمعت بشارات ذلك الإرشاد السماوي من خلال الأوامر الربانية المقدسة في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا﴾ (البقرة: 25).

وبالفيض الذي أخذتُه من القرآن الكريم تحريت عن السلوة والرجاء والنور في تلك الأمور التي أدهشتني وحيّرتني وأوقعتني في يأس ووحشة، دون البحث عنها في غيرها من الأمور. فألف شكر وشكر للخالق الكريم على ما وفقني لأن أجد الدواء في الداء نفسه، وأن أرى النور في الظلمة نفسها، وأن أشعر بالسلوان في الألم والرعب ذاتهما.

فنظرت أول ما نظرت إلى ذلك الوجه الذي يُرعب الجميع ويُتوهم أنه مخيف جداً.. وهو وجه «الموت» فوجدت بنور القرآن الكريم، أن الوجه الحقيقي للموت بالنسبة للمؤمن صبوح منور، على الرغم من أن حجابه مظلم والستر الذي يخفيه يكتنفه السواد القبيح المرعب. وقد أثبتنا وأوضحنا هذه الحقيقة بصورة قاطعة في كثير من الرسائل وبخاصة في «الكلمة الثامنة» و«المكتوب العشرين» من أن الموت ليس إعداماً نهائياً، ولا فراقاً أبدياً، وأنما هو مقدمة وتمهيد للحياة الأبدية وبداية لها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة وإعفاء، وهو تبديل مكان بمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الأحباب الذين ارتحلوا إلى عالم البرزخ.. وهكذا، بمثل هذه الحقائق شاهدت وجه الموت المليح الصبوح. فلا غرو لم أنظر إليه خائفاً وجلاً، وإنما نظرت إليه بشيء من الاشتياق -من جهة- وعرفت في حينها سراً من أسرار «رابطة الموت» التي يزاولها أهل الطرق الصوفية.

ثم تأملت في «عهد الشباب» فرأيت أنه يُحزن الجميع بزواله، ويجعل الكل يشتاقون إليه وينبهرون به، وهو الذي يمر بالغفلة والآثام، وقد مرّ شبابي هكذا! فرأيت أن ثمة وجهاً دميماً جداً بل مسكراً ومحيراً تحت الحلة القشيبة الفضفاضة الملقاة عليه، فلو لم أكن مدركاً كنهه لكان يبكيني ويحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تمضي بنشوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بحسرة مريرة:

فيا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً فأُخبرَه بما فَعلَ المَشيبُ

نعم، إن الذين لم يتبينوا سر الشباب وماهيته من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالحسرة والنحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر. والحال أن فتوة الشباب ونضارته إذا ما حلت في المؤمن المطمئن الحصيف ذي القلب الساكن الوقور، وإذا ما صُرفت طاقة الشباب وقوته إلى العبادة والأعمال الصالحة والتجارة الأخروية، فإنها تصبح أعظم قوة للخير وتغدو أفضل وسيلة للتجارة، وأجمل وساطة للحسنات بل ألذها.

نعم، إن عهد الشباب نفيس حقاً وثمين جداً، وهو نعمة إلهية عظمى، ونشوة لذيذة لمن عرف واجبه الإسلامي ولمن لم يسئ استعماله. ولكن الشباب إن لم تصحبه الاستقامة، ولم ترافقه العفة والتقوى، فدونه المهالك الوبيلة، إذ يصدّع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الأبدية، وحياته الأخروية، وربما يحطم حياته الدنيا أيضاً. فيجرعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لما تنعم به من مذاقات ولذائذ في بضع سنين.

ولما كان عهد الشباب لا يخلو من الضرر عند أغلب الناس، فعلينا إذن نحن الشيوخ أن نشكر الله شكراً كثيراً على ما نجّانا من مهالك الشباب وأضراره. هذا، وإن لذات الشباب زائلة لا محالة، كما تزول جميع الأشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة أبدية.

ثم نظرت إلى «الدنيا» التي عشقها أكثر الناس، وابتُلُوا بها، فرأيت بنور القرآن الكريم أن هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

الأولى: هي الدنيا المتوجهة إلى الأسماء الإلهية الحسنى، فهي مرآة لها.

الثانية: هي الدنيا المتوجهة نحو الآخرة، فهي مزرعتها.

الثالثة: هي الدنيا المتوجهة إلى أرباب الدنيا وأهل الضلالة فهي لعبة أهل الغفلة ولهوهم.

ورأيت كذلك أن لكل أحد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك إذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير أن دنيا كل شخص قائمة على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسم شخص فإن دنياه تتهدم وقيامته تقوم. وحيث إن الغافلين لا يدركون انهدام دنياهم الخاصة بهذه السرعة الخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة المستقرة من حولهم.

فتأملت قائلاً: لا شك أن لي أيضاً دنيا خاصة -كدنيا غيري- تتهدم بسرعة فما فائدة هذه الدنيا الخاصة إذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم أن هذه الدنيا -بالنسبة لي ولغيري- ما هي إلّا متجر مؤقت، ودار ضيافة تملأ كل يوم وتخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارئ المصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهّبة، وكل صيف فيها قصيدة منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تجليات الأسماء الحسنى للصانع الجليل، وهي مزرعة لغراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحمة الإلهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات الربانية الخالدة التي ستظهر في عالم البقاء والخلود. فشكرتُ الله الخالق الكريم أجزل شكر على خلقه الدنيا بهذه الصورة. بيد أن الإنسان الذي مُنح حباً مقبلاً إلى وجهَيِ الدنيا الحقيقيَين المليحين المتوجهين إلى الأسماء الحسنى وإلى الآخرة، أخطأ المرمى وجانب الصواب عندما استعمل تلك المحبة في غير محلها، فصرفها إلى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الحديث الشريف «حب الدنيا رأس كل خطيئة»».

سنة 1921م/1339هـ

إرشاد القرآن الكريم

«بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلةُ عليّ مرة أخرى طوال سنتين من حياتي في إسطنبول، حيث الأجواء السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وأحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الآفاق المحيطة بإسطنبول، إذا بي أرى كأن دنياي الخاصة أوشكت على الوفاة، حتى شعرت -خيالاً- كأن الروح تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعتني إلى هذا الخيال؟

أشحتُ نظري عن الخارج وأنعمت النظر في المقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي: أن هذه المقبرة المحيطة بك تضم مائة إسطنبول! حيث إن إسطنبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى أنت وحدك من حكم الحاكم القدير الذي أفرغ جميع أهالي إسطنبول هنا، فأنت راحل مثلهم لا محالة..!

غادرت المقبرة وأنا أحمل هذا الخيال المخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في محفل جامع أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه والتي كنت أدخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: «إنما أنا ضيف! وضيف من ثلاثة أوجه؛ إذ كما أنني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فأنا ضيفٌ كذلك في إسطنبول، بل أنا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى المسافر أن يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما أنني سوف أخرج من هذه الغرفة وأغادرها، فسوف أترك إسطنبول ذات يوم وأغادرها، وسوف أخرج من الدنيا كذلك».

وهكذا جثمت على قلبي وفكري وأنا في هذه الحالة، حالةٌ أليمة محزنة مكدّرة. فلا غرو إنني لا أترك أحباباً قليلين وحدهم، بل سأفارق أيضاً آلاف الأحبة في إسطنبول، بل سأغادر إسطنبول الحبيبة نفسها وسأفترق عن مئات الآلاف من الأحبة كما أفترق عن الدنيا الجميلة التي ابتلينا بها.

ذهبتُ إلى المكان المرتفع نفسه في المقبرة مرة أخرى، فبدا لي أهالي إسطنبول جنائز يمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الأفلام السينمائية، فقد كنت أتردد إليها أحياناً للعبرة! فقال لي خيالي: ما دام قسم من الراقدين في هذه المقبرة يمكن أن يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكّر في هؤلاء الناس كذلك، إنهم سيدخلون هذه المقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

وبينما كنت أتقلب في تلك الحالة المحزنة المؤلمة إذا بنور من القرآن الحكيم وبإرشاد من الشيخ الكيلاني قدس سرّه يقلب تلك الحالة المحزنة ويحولها إلى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكّرني النور القادم من القرآن الكريم ونبهني إلى ما يأتي:

«كان لك صديق أو صديقان من الضباط الأسرى عند أسرك في «قوصترما» في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان إلى إسطنبول. ولو خَيّرك أحدهما قائلاً: أتذهب إلى إسطنبول أم تريد أن تبقى هنا؟ فلا جرم أنك كنت تختار الذهاب إلى إسطنبول لو كان لك مسكة من عقل، بفرح وسرور حيث إن تسعمائة وتسعة وتسعين من ألف حبيب وحبيب لك هم الآن في إسطنبول، وليس لك هنا إلّا واحد أو اثنان، وهم بدورهم سيرحلون إلى هناك. فالذهاب إلى إسطنبول بالنسبة لك إذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت إليها، ألم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الأعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت إسطنبول الزاهية الجميلة، كأنها جنة الدنيا! وهكذا الأمر حيث إن تسعاً وتسعين من مائة شخص ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا إلى المقبرة. تلك التي تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا إلّا واحد أو اثنان، وهم في طريقهم إليها كذلك. فوفاتك في الدنيا إذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وإنما هي وصال ولقاء مع أولئك الأحبة الأعزاء.

نعم، إن أولئك -أي الأرواح الباقية- قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الأرض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ».

وهكذا ذكّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الحقيقة إثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريم، والإيمان، بحيث مَن لم يفقد قلبه وروحه، أو لم تغرقه الضلالة لا بد أن يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيّن هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتحد وبأشكال آلائه التي لا تُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الأشياء الصغيرة الجزئية جداً -كالبذور مثلاً- ذلك الصانع الكريم الرحيم، لا بد -بل بالبداهة- لا يُفني هذا الإنسان الذي هو أكمل مخلوقاته وأكرمها وأجمعها وأهمّها وأحبها إليه، ولا يمحوه بالفناء والإعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة -كما يبدو ظاهراً- ولا يضيّعه أبداً.. بل يضع الخالق الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثماره في حياة أخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الأرض.

وبعد أن تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرة عندي مؤنسة أكثر من إسطنبول نفسها، وأصبحت الخلوة والعزلة عندي أكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي أن أجد مكاناً للعزلة في «صَاري يَرْ» على البسفور. وأصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه أستاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه «فتوح الغيب»، وصار الإمام الرباني رضي الله عنه  كذلك بمثابة أستاذ أنيس ورؤوف شفيق بكتابه «مكتوبات» فأصبحت راضياً كلياً وممتنّاً من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البراقة ومتعها الزائفة، ومن انسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيراً».

أزمة روحية حادة

«ففي سنة 1339هـ مررت بأزمة روحية حادة، واعتراني قلق قلبيّ رهيب وانتابنى اضطراب فكرى مخيف. فاستمددت حينها من الشيخ الكيلاني مدداً قوياً جداً، فأمدني بهمته وبكتابه «فتوح الغيب» حتى جاوزت ذلك القلق والاضطراب».


[1]  اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الحادي عشر. لا بد أن نذكّر «أن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسم الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهّد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمة لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة.

    أما القسم الثاني من الفلسفة، فكما أصبح وسيلة للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع الآسـن للفلسفة الطبيعية، فإنه يسوق الإنسان إلى الغفلة والضلالة بالسفاهة واللهو. وحيث إنه يعارض بخوارقه التي هي كالسحر الحقائق المعجزة للقرآن الكريم، فإن رسائل النور تتصدى لهذا القسم الضال من الفلسـفة في أغلب أجزائها وذلك بنصبها موازين دقيقة، ودساتير رصينة، وبعقدها موازنات ومقايسات معززة ببراهين دامغة. فتصفعها بصفعاتها الشديدة، في حين أنها لا تمس القسم السديد النافع من الفلسفة». الملاحق، ملحق أميرداغ 1.

[2]  وللأستاذ النورسي خواطر قيّمة في جامع بايزيد جديرة بالتذكير، لم ندرجها هنا خشية الإطالة، نذكر منها: بيانه الإعجاز في «ن» نعبد، لدى إثباته أنه لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة حقيقية. (المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرون، القسم الأول). ومحاورة مع الشيطان، لدى إثباته أن القرآن الكريم كلام الله (المكتوبات، المكتوب السادس والعشرون).