الفصل الثاني

في أنقرة

سنة 1922م/1340هـ

الدعوة إلى أنقرة

«حينما تبدلت نشوة «سعيد القديم» وابتساماته إلى نحيب «سعيد الجديد» وبكائه، وذلك في بداية المشيب، دعاني أرباب الدنيا في «أنقرة» إليها، ظناً منهم أنني «سعيد القديم» فاستجبت للدعوة. حيث أرسل مصطفى كمال رسالتين برقيتين بالشفرة إلى صديقي تحسين بك الذي كان سابقاً والياً على مدينة «وان» يستدعيني إلى «أنقرة» لكي يكافئني على قيامي بنشر رسالة «الخطوات الست» فذهبت إليها،  سنة 1338(1922م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلّا أنني أبصرتُ -خلال موجة الفرح هذه- زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من أعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسُورِ هذه الآية الكريمة  من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن يتعرض لأركان الإيمان، فكتبت برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وأفكارها من نور هذه الآية الكريمة لإثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة «يَنِي كُون» في أنقرة.. إلّا أنني لم ألمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها إلى أذهان الناس. وسبب ذلك كونه مختصراً ومجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة المهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت أوهام ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد…

«أجل، إن الهدف الذي كان يصبو إليه بديع الزمان منذ نعومة أظفاره والأمل الذي كان يحدوه وهو في طريقه إلى أنقرة هو حصول صحوة إسلامية تعم العالم الإسلامي، هذه الروح العظيمة توضحت في مباحثاته مع مئات العلماء في شرقي الأناضول قبل مجيئه إلى إسطنبول بل توضحت أكثر عند قدومه إليها حتى حيّر السياسيين. ولم تغادره هذه المسؤولية الجسيمة والمهمة الثقيلة والشوق الدائم قط. فكان يأمل أن يكون الإعلان عن الحرية والمشروطية في خدمة الشريعة الغراء، ويكون ذلك تباشير سعادة الأناضول والعالم الإسلامي قاطبة، حتى إنه ألقى الخطب في ضوء ذلك الأمل وكتب المقالات بغية تحقيقه، وظهر ذلك أيضاً في مؤلفاته ولاسيما في «سنوحات، لمعات وغيرها» مما ألفه في تلك المرحلة. وكان لا يتواني من التصريح أن أعظم صوت مدوٍ في المستقبل هو صوت القرآن العظيم.

ولكن سقوط الدولة العثمانية التي أخذت على كاهلها خدمة الإسلام بعد العباسيين، وطوال ما يقرب من ألف سنة هزّ العالم الإسلامي هزاً عنيفاً. فأصبح أعداء الإسلام الألداء مستولين على مركز الخلافة وبدؤوا باجتثاث جذور الإسلام من الأعماق. إلّا أن القدرة الإلهية تجلت بإحسانه سبحانه وتعالى على بديع الزمان ليحمل الراية في مثل هذه الظروف الحالكة الحرجة». «فأتى أنقرة أملاً من أن يحظى بشيء لصالح الإسلام من المسؤولين فيها وليقدم معاونته لهم، إذ كما كانت حرب التحرير حرباً إيمانية لطرد الأعداء إلى خارج البلاد بعون الهي كان يأمل أن تستند الحكومة الجديدة إلى القرآن مباشرة في دفع عجلة الأمور في البلاد وتجعل وحدة العالم الإسـلامي مرتكزاً لها وتظهر الحضارة الإسلامية الكامنة في حقيقة الإسلام بأجلى مظاهرها مادةً ومعنىً» ولكن «عندما وصل أنقرة واستقبل استقبالاً حافلا من قبل المسؤولين -من نواب ووزراء- والأهلين، شاهد ما لم يأمله، حيث لمس عدم الاهتمام بالدين في البرلمان وعدم اكتراثهم بالشعائر الإسلامية، فدعاهم ببيانٍ إلى ضرورة العبادة ولاسـيما الصلاة ووزع البيان على أعضاء المجلس وقرأه على مصطفى كمال الجنرال كاظم قره بكر».

«كان من تأثير هذا البيان أن استقام على إقامة الصلاة ستون نائباً، حتى إن الغرفة التي كانوا يؤدون فيها الصلاة لم تعد تسعهم فاتخذوا غرفة أوسع منها لإقامة الصلاة».

[وفيما يلي نص البيان]:

خطاب إلى مجلس الأمة

بسمِ الله الرّحمنِ الرّحِيمِ

﴿اِنَّ الصَّلٰوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِن۪ينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ (النساء:103)

يا أيها المبعوثون! إنكم لمبعوثون ليوم عظيم.

أيها المجاهدون! ويا أهل الحل والعقد!

أرجو أن تعيروا سمعاً إلى مسألة يُسديها إليكم هذا الفقير إلى الله في بضع نصائح وفي عشر كلمات:

أولاً: إن النعمة الإلهية العظمى في انتصاركم هذا تستوجب الشكر، لتستمر وتزيد، إذ إن لم تُستقبل النعمة بالشكر تزول وتنقطع. فمادمتم قد أنقذتم القرآن الكريم من إغارة العدو -بفضل الله تعالى- فعليكم إذن الامتثال بأمره الصريح وهو الصلاة المكتوبة، كي يظل عليكم فيضهُ وتدوم أنواره بمثل هذه الصورة الخارقة.

ثانياً: لقد أبهجتم العالم الإسلامي بهذا الانتصار، وكسبتم ودّهم وإقبالهم عليكم، ولكن هذا الودّ والتوجّه نحوكم إنما يدومان بالتزام الشعائر الإسلامية؛ إذ يحبكم المسلمون ويودّونكم لأجل الإسلام.

ثالثاً: لقد توليتم قيادة مجاهدين وشهداء في هذا العالم وهم بمثابة أولياء صالحين، فمن شأن أمثالكم من الغيارى السعيُ والجدّ لامتثال أوامر القرآن الكريم لنيل صحبة أولئك النورانيين، والتشرف برفقتهم في ذلك العالم. وإلّا فستضطرون إلى التماس العون والمدد من أبسط جندي هناك، في حين أنتم قادة هنا. فهذه الدنيا بما فيها من شهرة وشرف لا تستحق أن تكون متاعاً ترضي كراماً أمثالكم، ولا تكون لكم غاية المنى ومبلغ العلم.

رابعاً: إن هذه الأمة الإسلامية مع أن قسماً منهم لا يؤدون الصلاة، إلّا أنهم يتطلعون أن يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة. بل إن أول ما يبادر أهل كردستان -الولايات الشرقية- مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم؛ فإن كانوا مقيمين لها، فبها ونِعمَت ويثقون بهم، وإلّا فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته. ولقد حدثتْ في حينه اضطرابات في عشائر «بيت الشباب» فذهبتُ لأستقصي أسبابها، فقالوا: إن كان مسؤولنا «القائمقام» لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين؟ هذا علماً أن الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة، بل كانوا قطاع طرق!.

خامساً: إن ظهور أكثر الأنبياء في الشرق وأغلب الفلاسفة في الغرب رمزٌ للقدر الإلهي بأن الذي يستنهض الشرق ويقوّمه إنما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة.. فمادمتم قد أيقظتم الشرق ونبهتموه، فامنحوه نهجاً ينسجم مع فطرته. وإلّا فستذهب مساعيكم هباءً منثوراً، أو تظل سطحية موقتة.

سادساً: إن خصومكم وأعداء الإسلام الإفرنج -ولاسيما الإنكليز- قد استغلوا ولا يزالون يستغلون إهمالكم أمور الدين، حتى أستطيعُ أن أقول: إن الذين يستغلون تهاونكم هذا يضرون بالإسلام بمثل ما يضرّ به أعداؤكم فينبغي لكم باسم مصلحة الإسلام وسلامة الأمة تحويل هذا الإهمال إلى أعمال. ولقد تبيّن لكم كيف لاقى زعماء الاتحاد والترقي نفوراً وازدراءً من الأمة في الداخل رغم ما بذلوه من تضحية وفداء وعزم وإقدام حتى كانوا سبباً -إلى حدٍ ما- في هذه اليقظة الإسلامية، وذلك لعدم اكتراث قسم منهم بالدين وبشعائره، بينما المسلمون في الخارج قد منحوهم التقدير والاحترام لعدم رؤيتهم تهاونهم وإهمالهم في الدين.

سابعاً: على الرغم من تمكن عالم الكفر في الإغارة على العالم الإسلامي منذ مدة مديدة فإنه لم يتغلب عليه دينياً مع جميع إمكاناته وقدراته ووسائله الحضارية وفلسفته وعلمه ومبشريّه. فبقيت الفِرَق الضالة جميعها -في الداخل- أقلية محكومة. لذا ففي الوقت الذي حافظ الإسلام على صلابته ومتانته بأهل السنة والجماعة لن يتمكن تيار بدعي مترشح من الجانب الخبيث للحضارة الأوروبية، أن يجد سبيلاً إلى صدر العالم الإسلامي. أي إن القيام بحركة انقلابية جوهرية لا يمكن أن تحدث إلّا بالانقياد لدساتير الإسلام، وإلّا فلا. علماً أنه لم يحدث مثل هذه الحركة في السابق، ولو كانت قد حدثت فلقد تلاشت سريعاً وأفَلَت.

ثامناً: ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بنّاء مع التهاون في الدين، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور وأوشكت الحضارة الأوروبية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار. أما القيام بعمل سلبي فليس الإسلام بحاجة إليه، كفاه ما تعرض له من جروح ومصائب.

تاسعاً: إن الذين يولونكم الحب قلباً وروحاً، ويثمنون خدماتكم وانتصاراتكم في حرب الاستقلال هذه، هم جمهور المؤمنين، وبخاصة طبقة العوام، وهم المسلمون الصادقون. فهم يحبونكم بجد، ويعتزون بكم بصدق، ويساندونكم بإخلاص، ويقدّرون تضحياتكم، ويمدّونكم بأضخم ما تنبه لديهم من قوة. وأنتم بدوركم ينبغي لكم الاتصال بهم والاستناد إليهم اتباعاً لأوامر القرآن الكريم ولأجل مصلحة الإسلام، وإلّا فإن تفضيل المتجردين من الإسلام والمبتوتي الصلة بالأمة من مقلدي أوروبا المعجبين بها، وترجيحهم على عامة المسلمين منافٍ كلياً لمصلحة الإسلام؛ وسيولي العالم الإسلامي وجهه إلى جهة أخرى طلباً للمساعدة والعون.

عاشراً: إن كان في طريقٍ تسعة احتمالات للهلاك، واحتمال واحد فقط للنجاة، فلا يسلكها إلّا مجنون طائش لا يبالي بحياته.. ففي أداء الفرائض الدينية نجاة بتسع وتسعين بالمائة، علما أنه لا يستغرق -هذا الأداء- إلّا ساعة واحدة في اليوم، مقابل ما قد يمكن أن يكون احتمال ضرر واحد فقط يصيب الدنيا ومن حيث الغفلة والكسل. بينما إهمال الفرائض وتركها فيه احتمال تسع وتسعين بالمائة من الضرر مقابل واحد بالمائة من احتمال النجاة من حيث الغفلة والضلالة.. فيا ترى أي مسوّغٍ وأيّ مبرر يمكن ابتداعه في ترك الفرائض الذي يصيب ضرره الدين والدنيا معاً؟ وكيف تسمح حميّة الفرد ونخوته بذلك التهاون؟

إن تصرفات هذه القافلة المجاهدة من أعضاء هذا المجلس العالي بالغة الأهمية، إذ إنها سوف تُقلّد.. فالأمة إما أنها تقلّد أخطاءهم أو تنتقدها، وكلاهما مليء بالأضرار والأخطار. لذا فإن تمسكهم بحقوق الله وتوجههم لأداء الفرائض يتضمن حقوق العباد أيضاً.

إن عملاً جاداً لا ينجز مع أولئك الذين يرضون بأوهام براقة نابعة من سفسطة النفس ووسوسة الشيطان ويصمّون آذانهم عن البلاغ المبين والبراهين الساطعة بالتواتر والإجماع.. ألا إن الحجر الأساس لهذا الانقلاب العظيم يجب أن يكون متيناً صلداً.

إن الشخصية المعنوية لهذا المجلس العالي قد تعهدت معنى «السلطنة» بما تتمتع به من قوة، فإن لم يتعهد -هذا البرلمان- معنى «الخلافة» وكالةً أيضاً ولم يقم بامتثال الشعائر الإسلامية ولم يأمر الآخرين بالقيام بها، أي إذا أخفق في تقديم «معنى الخلافة» ولم يستوف حاجة الأمة الدينية -هذه الأمة التي لم تفسد فطرتها والمحتاجة إلى الدين أكثر من حاجتها لوسائل العيش- والتي لم تَنس حاجتها الروحية تحت كل ضغوط المدنية الحاضرة ولهوها، فإنها تضطر إلى منح معنى الخلافة إلى ما ارتضيتموه -تماماً- من اسم ولفظ. فتمنح له القوة والإسناد أيضاً لإدامة ذلك المعنى. والحال أن مثل هذه القوة التي ليست بيد المجلس ولا تأتي عن طريقه تسبب الانشقاق، وشق عصا الطاعة يناقض أمر القرآن الكريم الذي يقول:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَميعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران:103).

إن هذا العصر عصر الجماعة، إذ الشخصية المعنوية -التي هي روح الجماعة- أثبتُ وأمتن من شخصية الفرد، وهي أكثر استطاعة على تنفيذ الأحكام الشرعية؛ فشخصية الخليفة تتمكن من القيام بوظائفها استناداً إلى هذه الروح المعنوية. إن الشخصية المعنوية تعكس روح العامة فإن كانت مستقيمة فإن إشراقها وتألقها يكون أسطع وألمع من شخصية الفرد، أما إن كانت فاسدة فإن فسادها يستشري وفق ذلك. فالشر والخير محددان في الفرد، بينما لا يحدهما حدود في الجماعة. فإياكم أن تمحقوا المحاسن التي نلتموها تجاه الخارج بإبدالها شروراً في الداخل.

أنتم أعلم بأن أعداءكم الدائمين وخصومكم يحاولون تدمير شعائر الإسلام، مما يستوجب عليكم إحياء هذه الشعائر والمحافظة عليها. وإلّا فستُعينون -بغير شعورٍ منكم- العدو المتحفز للانقضاض عليكم.

إن التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يُغرى العدو فيكم ويشجعه عليكم ولا يوقفه عند حدّه.

حسبنا الله ونعم الوكيل.. نعم المولى ونعم النصير.  

مع رئيس الجمهورية

على الرغم من قراءة البيان إلى النواب إلّا أنه سبّب نقاشاً مع مصطفى كمال.. حيث قال له أمام ما يقرب من ستين نائباً: «إننا لا شك بحاجة إلى عالم قدير مثلكم، فقد دعوناكم إلى هنا للاستفادة من آرائكم السديدة، فاستجبتم الدعوة، إلا ان أول عمل قمتم به هو كتابة أمور حول الصلاة فبذرتم الخلاف فيما بيننا».

فأجابه بأجوبة شافية ثم قال له محتداً مشيراً بإصبعه إليه: «باشا.. باشا.. إن أعظم حقيقة في الإسلام -بعد الإيمان- هي الصلاة، والذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود».

فاضطر الباشا إلى كظم غيظه وإلى إعطاء بعض الترضية له.

يقول: «فقد عرض عليّ -مصطفى كمال- تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي  وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية. وكذلك تعييني نائباً في مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في «دار الحكمة الإسلامية»، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة..

ولكني عندما لاحظت أن قسماً مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة «الشعاع الخامس» ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط..

ولما سألني بعض الموظفين المرموقين: «لماذا لم تقبل ما عرضه عليك مصطفى كمال حول جعلك واعظاً عاماً ومسؤولاً عن عموم «كردستان» والولايات الشرقية بدلاً عن الشيخ السنوسي براتب قدره ثلاثمائة ليرة ذلك، لأنك لو كنت قبلت هذا العرض منه لكنت سبباً في إنقاذ أرواح مئات الآلاف من الرجال الذين ذهبوا ضحية الثورة؟».

قلت لهم جواباً على سؤالهم هذا: «بدلاً من قيامي بإنقاذ عشرين أو ثلاثين سنة من الحياة الدنيوية لهؤلاء الرجال، فإن رسائل النور كانت وسيلة وسبباً لإنقاذ ملايينِ السنين للحياة الأخروية لمئات الآلاف من المواطنين، أي إنها قامت بعمل يكافئ أضعاف تلك الخسارة بآلاف المرات، فلو أنني قبلت ذلك العرض لما ظهرت رسائل النور التي تحمل في طياتها سر الإخلاص والتي لا تكون تابعاً لأي أحد ولا وسيلة استغلال لأي شيء كان. حتى إنني قلت لأصدقائي المحترمين في السجن: لو أن الحكام الموجودين في أنقرة الذين آلمتْهم صفعات رسائل النور الشديدة فحكموا عليّ بالشنق، ثم استطاعت رسائل النور أن تنقذ إيمانهم وأن تنقذهم من الإعدام الأبدي، فاشهدوا بأنني أصفح عنهم من كل قلبي «.

وحيث إنه أدرك الفتنة التي بدأت تعم العالم الإسلامي، والتي استعاذت منها الأمة منذ ألف وأربعمائة سنة وشاهد مَن هم مسعرو نارها.. تناقش مع مصطفى كمال في أحد الأيام طوال ساعتين وأفهمه أن القيام بإزالة الشعائر الإسلامية ابتغاءَ الحصول على شهرة لدى أعداء الإسلام دمار وأيّ دمار لهذه الأمة وفساد للبلاد والعباد، فإن كان لا بد من انقلاب فليكن بالاستناد إلى القرآن الكريم وجعله دستوراً للدولة الحديثة.

من أقواله في المحاكم

«إننا لسنا مع زعيم أصدر حسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل «جامع أياصوفيا» إلى دار للأصنام، وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات، لسنا معه فكراً ولا موضوعاً، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية. ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا.

يقول: «ولما اعترضت بكلمات قاسية على ذلك الشخص المعروف الذي تولى رئاسة الحكومة بأنقرة، لم يقابلني بشيء، بل آثر الصمت. إلّا أن بعد موته أظهرت حقيقةُ حديث شريف خطأه -كنت قد كتبته قبل أربعين سنة- فتلك الحقيقة والانتقادات التي كانت فطرية وضرورية واتخذناها سرية، وعامة غير خاصة على ذلك الشخص قد طبقها المدعى العام بحذلقة على ذلك الشخص، وجعلها مدار مسؤولية علينا. فأين عدالة القوانين التي هي رمز الأمة وتذكارها وتجل من تجليات الله سبحانه من محاباة شخص مات وانقطعت علاقته بالحكومة.

إنه ضروري جداً لصالح الأمة ولنفع البلاد أن تحافظ الحكومة عليّ حفاظاً تاماً وتمدّ يد المعاونة إليّ. إلّا أنها تضيق الخناق عليّ، مما يومئ إلى أن الذين يحاربونني هم منظمة الزندقة السرية وقسم من منظمة الشيوعية الذين التحقوا بهم، هؤلاء قد قبضوا على زمام الأمر في عدد من المناصب الرسمية المهمة في الدولة، فيهاجمونني ويجابهونني. أما الحكومة فإما أنها لا تعرفهم أو تسمح لهم. ويا ترى أي ذنب وأي جريرة في أن تنتقد أو تضمر عدم المحبة لرجل حوّل جامع أياصوفيا الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرة الساطعة لخدماتها وجهادها في سبيل القرآن، وهدية تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات؟.

إن تعصب المدعي العام لمصطفى كمال وصداقته له -وهو يشغل مثل هذا المقام- أدّى إلى أسئلة واعتراضات غير قانونية وغير ضرورية وخاطئة مما ساقني إلى تقديم هذه الإيضاحات الخارجة عن الصدد، وأنا أبين هنا أحد أقواله كمثال على كلامه المشوب بالمزاج الشخصي الخارج عن القانون.

قال: ألم تندم من قلبك على ما أوردته في «الشعاع الخامس»؟ ذلك لأنك قمت بإهانته وتحقيره عندما قلت عنه: إنه أصبح مثل قربة الماء من كثرة شربه الخمر والشراب؟

وأنا أقول جواباً على تعصبه الذميم والخاطئ تماماً الناشئ من صداقته له:

لا يمكن إسناد شرف انتصار الجيش البطل إليه وحده، ولكن تكون له حصة معينة فقط من هذا الانتصار. فمِن الظلم ومن الخروج على العدالة بشكل صارخ إعطاء غنائم الجيش وأمواله وأرزاقه إلى قائد واحد.

وكما قام ذلك المدعي العام البعيد عن الإنصاف باتهامي لكوني لا أحب ذلك الشخص ذا العيوب الكثيرة، إلى درجة أنه وضعني موضع الخائن للوطن، فإنني أتهمه أيضاً بعدم حبه للجيش، ذلك لأنه عندما يعطي إلى صديقه ذاك كل الشرف وكل المغانم المعنوية فإنه يكون بذلك قد جرد الجيش من الشرف، بينما الحقيقة هي وجوب توزيع الأمور الإيجابية والحسنات والأفضال على الجماعة وعلى الجيش، أما الأمور السلبية والتقصيرات والتخريبات فيجب توجيهها إلى القيادة وإلى الرأس المدبر وإلى الممسك بزمام الأمور. ذلك لأن وجود أي شئ لا يتحقق إلا بتحقق جميع شرائطه وأركان وجوده، والقائد هنا شرط واحد فقط من هذه الشروط. أما انتفاء أي شيء وفساده فيكفي له عدم وجود شرط واحد أو فساد ركن واحد فقط. لذا يمكن عزو ذلك الفساد إلى الرأس المدبر وإلى الرئيس لأن الحسنات والأمور الجيدة تكون عادة إيجابية ووجودية. فلا يمكن حصرها على من هم في رأس الدولة. بينما السيئات والتقصيرات عدمية وتخريبية ويكون الرؤساء هم المسؤولين عنها. ومادام هذا هو الحق وهو الحقيقة، فكيف يمكن أن يقال لرئيس عشيرة قامت بفتوحات: «أحسنت يا حسن آغا»؟ وإذا غُلبت تلك العشيرة، وجّهت إلى أفرادها الإهانة والتحقير؟.. إن مثل هذا التصرف يكون مجانباً للحق تماماً ومعاكساً له.

وهكذا فإن ذلك المدعي العام الذي قام باتهامي قد جانب الحق والحقيقة وجانب الصواب، ومع ذلك فهو بزعمه قد حكم باسم العدالة».

أما قضية الصفعة الموجهة من رسائل النور إلى مصطفى كمال فقد عرفتْ بها ست محاكم وكذلك المراجع الرسمية في «أنقرة» فلم يعترضوا عليها وأصدروا قرارهم بتبـرئتنا وأعادوا لنا جميع كتبنا ومن ضمنها «الشعاع الخامس». ثم إن قيامي بإظهار سيئاته ليس إلّا من أجل صيانة كرامة الجيش. أي إن عدم محبة شخص فرد ليس إلّا من أجل كيل الثناء إلى الجيش بكل حب.

ولو فرضنا أن قائداً رهيباً وعبقرياً استطاع بذكائه أن ينسب لنفسه جميع حسنات الجيش، وأن ينسب سيئاته وسلبياته الشخصية للجيش، فإنه يكون بذلك قد قلل عدد الحسنات التي هي بعدد أفراد الجيش إلى حسنة شخص واحد، وعندما نسب سيئاته وأخطاءه إلى الجيش يكون قد كثّر هذه السيئات بعدد أفراد الجيش، وهذا ظلم مخيف ومجانب للحقيقة، لذا فقد قلت للمدعي العام في إحدى محاكماتي السابقة عندما هاجمني لكوني وجهت صفعة تأديب لذلك الشخص عندما قمت قبل أربعين سنة بشرح حديث نبوي، قلت للمدعى العام: حقاً إنني أقلل من شأنه بإيراد أخبار من الأحاديث النبوية، إلّا أنني أقوم في الوقت نفسه بصيانة شرف الجيش وحفظه من الأخطاء الكبيرة، وأما أنت فتقوم بتلويث شرف الجيش الذي يعد حامل لواء القرآن، وقائداً مقداماً للعالم الإسلامي، وتلغي حسناته لأجل صديق واحد لك. فخضع ذلك المدعى العام للإنصاف، بإذن الله، ونجا من الخطأ. ومع أن الرئيس الكبير حرض بعض أفراد وزارة العدل وموظفيها مدفوعاً إلى ذلك بأوهامه وبحقده الشخصي، إلا أن رسائل النور بُرئت من تهمة تشكيل أية جمعية وأية طريقة صوفية».

[وقال في المحكمة أيضاً]:

«أجل، إن رجلاً دافع بكل شدة وصلابة دفاعاً مؤثراً ودون خوف أو وجل أمام المحكمة العرفية العسكرية التي انعقدت بسبب أحداث 31 مارت، وفي مجلس المبعوثان دون أن يبالي بغضب مصطفى كمال وحدّته.. كيف يتهم هذا الشخص بأنه يدير سراً خلال ثماني عشرة سنة ودون أن يشعر به أحد مؤامرات سياسية؟ إن من يقوم بمثل هذا الاتهام لا شك أنه شخص مغرض.

مادام مصطفى كمال نفسه لم يستطع أن يكسر هذا العناد، ومادامت محكمتان ومحافظ ثلاث ولايات لم يكسروه فمن أنتم حتى تحاولوا مثل هذه المحاولة العقيمة، ولماذا تحاولون هذا عبثاً مع أنها لا تأتي بخير للأمة ولا لهذه الحكومة؟.

[وفي رسالة له إلى طلابه:]

إن في تأخير مسألتنا هذه خير، والخير فيما اختاره الله. لأن محبة ذلك الرجل الميت الرهيب يُلقَّن في جميع المدارس والدوائر الحكومية وفي أوساط الشعب عامة. وستؤثر هذه الحالة تأثيراً أليماً وفجيعاً جداً في العالم الإسلامي وفي المستقبل».

اعتراضه على رئيس الجمهورية ([1])

«إن السبب الأساس لهجوم الحاقدين عليّ هو أنهم يريدون سحقي متذرعين بمودّتهم وموالاتهم لمصطفى كمال. وأنا أقول لأولئك الحاقدين:

لقد قلت في حق شخص مات وانتهى أمره وانقطعت علاقته بالحكومة: إنه سيظهر في آخر الزمان شخص يلحق الأضرار بالقرآن الكريم. قلته قبل ثلاثين سنة استنباطاً من حديث شريف. ثم أظهر الزمان أن ذلك الرجل هو مصطفى كمال. وإن الحاقدين الذين يوالونه يعذبونني بحجج واهية منذ عشرين سنة، حيث إنني لا أُسند إلى مصطفى كمال -خلافاً للحقيقة- شرف هذا الجيش ومجد انتصاراته الذي تحدّى العالم ببطولته وتفانيه في الحق منذ خمسمائة سنة.

نعم، وكما أثبتُّ في المحكمة: أن الشرف والحسنات والغنائم المادية والمعنوية تسند إلى الجماعة وتوزع عليهم، بينما تسند الذنوب والإجراءات الخاطئة إلى الرئيس. ففي ضوء هذه القاعدة الحقيقية، فإن أمجاد الجيش والشرف الذي أحرزه بانتصاراته -ولا سيما الضباط الأشاوس الذين تولوا إدارته- لا تسند إلى مصطفى كمال، وإنما الأخطاء والذنوب والنقائص هي التي تُسند إليه وحده. فالذين يتهمونني بعدم محبتى له إنما يقومون بإهانة كرامة الجيش وثلم شرفه، لذا أنظر إلى هؤلاء أنهم خونة الأمة؛ وإني على استعداد لإثبات هذه الحقيقة لأولئك العنيدين الموالين له كما أثبتّها أمام المحكمة.

إنني أكنّ حباً لأفراد الجيش المقدام وضباطه الذين يعدون بالملايين والذين هم جيش هذه الأمة الطيبة وأسعى لصيانة عزته وكرامته وتوقيره ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ بينما معارضيّ الحاقدون الذين يواجهونني يهوّنون ضمناً من شأن ملايين الأفراد بل يعادونهم في سبيل محبة شخص واحد.

نعم، لقد أدركنا بأمارات عديدة أن الذي يحرّض الحاقدين عليّ بالهجوم، هو معارضتي لمصطفى كمال، وعدم مودّتي له. أما الأسباب الأخرى فهي حجج واهية ومجرد اختلاق. ولهذا اضطررت إلى أن أقول لأولئك المعارضين:

لقد استدعاني مصطفى كمال إلى أنقرة لأجل تكريمي وجعلي واعظاً عاماً لجميع الولايات الشرقية. فذهبت إلى أنقرة، إلّا أن المواد الثلاث الآتية جعلتني أتخلّى عن محبته ومودته. فعانيت العذاب طوال عشرين سنة في حياة الانزواء ولم أتدخل في أمورهم الدنيوية.

المادة الأولى: لقد أظهر بأفعاله أنه هو الذي أخبر عنه الحديث الشريف الوارد حول ظهور شخص في آخر الزمان يسعى للإضرار بالأعراف الإسلامية. وفسرت هذا الحديث الشريف قبل ست وثلاثين سنة، ثم ظهر معناه مطابقاً في هذا الشخص. وله إيضاح في المادة الثالثة في دفاعاتي أمام المحكمة.

المادة الثانية: إن وجود شيءٍ ما وتعميره وحياته قائم بوجود جميع أركان ذلك الشيء أو شروطه، بينما عدمه وتخريبه وموته يكون بفساد شرط واحد. هذه قاعدة حقيقية حتى أصبحت مضرب الأمثال في ألسنة الناس: «التخريب أسهل من التعمير».

فبناء على هذه القاعدة الرصينة فإن النقائص الفاضحة والدمار الرهيب الظاهر نابعة من أخطاء ذلك القائد، أما الانتصارات الباهرة فهي صادرة من بطولة الجيش. فبينما ينبغي أن تُسند السيئات إليه وتُمنح الحسنات إلى الجيش، إلّا أن الأمر أصبح بخلاف هذا كلياً، إذ تُسند حسنات الجماعة إلى من في رأس الأمر ويسند شر ذلك الشخص إلى الجماعة. وهذا ظلم شنيع.

المادة الثالثة: إن إسناد حسنات الجماعة وانتصارات الجيش إلى القائد الآمر، وإعطاء ذنوب ذلك الآمر إلى الجماعة بأكملها يعني التهوين من شأن ألوف الحسنات وجعلها حسنة واحدة، وجعل الخطأ الواحد ألوف الأخطاء؛ إذ كما أن فوجاً من الجيش لو قتلوا عدواً شرساً فإن كل فرد من أفراد ذلك الفوج يُمنحون مرتبة المجاهد، ولكن لو أعطي آمرهم فقط تلك الرتبة فإن ألف رتبة من رتب «المجاهد» تنـزل إلى رتبة واحدة فقط. فلو حصلت جريمة قتل نتيجة خطأ ارتكبه قائد ذلك الفوج ثم أُسندت هذه الجريمة إلى الفوج كله، فإن تلك الجريمة الواحدة تتضاعف وتكون في حكم ألوف الجرائم، فيصبح ألف جندي مثلاً مسؤولين عنها، ومستحقين العقاب عليها.

كذلك الأمر هنا؛ فإن الأخطاء الجسيمة واضحة أمام الأعين، فإن لم تسند إلى ذلك الرجل الميت الذي ارتكبها، وأحيلت إلى جيش عظيم كريم أظهر جهاده في سبيل إحقاق الحق في العالم أجمع وصدّق بسيوفه ودمائه شهادة عزته وكرامته وإعلائه لراية القرآن منذ خمسمائة سنة بل منذ ألف سنة، فإن تلك الذنوب تزداد إلى الألوف بعدد أركان ذلك الجيش. فيلطخ الماضي المجيد لذلك الجيش ويشوهه تشويهاً رهيباً مسوّداً تاريخه بلون قاتم مما يجعل جيش هذا العصر مسؤولاً ويذوب خجلاً أمام الجيش البطل للعصور السابقة. وكذلك لو أسندت الانتصارات الباهرة والمفاخر المستحصلة الحاضرة إلى رجل واحد فإنها تبقى جزئية، وتصبح الحسنات والمجاهدات التي هي بعدد الأركان والأفراد في حكم شخص واحد. وينطفئ ذلك الضياء الساطع ويزول ولا يصبح كفارة للذنوب.

فلأجل هذه الأسباب تركتُ مودّة ذلك الرجل، وكسبت مودة ذلك الجيش الذي خدمتُ في صفوفه خدمة فعلية مؤثرة، وفي زمان دقيق حرج، وسعيت برسائل النور للمحافظة على شرف ذلك الجيش الذي هو أسمى ألف مرة من أي شخص كان».

حالته الروحية في أنقرة

«ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة قلعة أنقرة، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة، ومن شيخوخة الدنيا. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط. ([2])

فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من أن تسلّيني.

ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من أن يؤنسني.

ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.

فلما يئست من هذه الجهة أيضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلّا رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داء من دون أن يمنحاني دواءً.

ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.

ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلّا الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الأحزان ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوال والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألّا جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتوالى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدني وتضئ تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الأنوار كافية ووافية لإحاطتها.

فبدّلتْ -تلك الأنوار- السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحولّت كل المخاوف إلى أنس القلب، أمل الروح الواحدة تلو الأخرى.

نعم، إن الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها إلى مجلس منوّر أنوس وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة كقبر واسع كبير ما هو إلّا مجلس ضيافة رحمانية أعدّت في قصور السعادة الخالدة.

ثم إن الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.

ثم إن الإيمان قد بصّرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي -التي هي أهل للحياة الأبدية ومرشحة للسعادة الأبدية- من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.

ثم إن الإيمان قد بيّن بأسراره؛ أن رميم عظامي وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.

ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أن أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم -كما ظنّ في بادئ الأمر- بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.

ثم إن الإيمان قد أوضح لي بنور القرآن أن ذلك القبر الذي أحدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وإنما هو باب لعالم النور، وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سوي إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثم إن الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من الجزء الاختياري الذي يملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري. ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني وإن كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، إلّا أنه إذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبذل في سبيله ولأجله، يمكن أن ينال به -بمقتضى الإيمان- جنة أبدية بسعة خمسمائة سنة. مَثَلُ المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي أعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.

وكما أن الإيمان يمنح الجزء الاختياري وثيقة، فإنه يسلب زمامه من قبضة الجسم الذي لا يستطيع النفوذ في الماضي ولا في المستقبل، ويسلمه إلى القلب والروح، ولعدم انحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الحاضر كما هو في الجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من المستقبل في دائرة تلك الحياة، فإن ذلك الجزء الاختياري ينطلق من الجزئية مكتسباً الكلية. فكما أنه يدخل بقوة الإيمان في أعمق أودية الماضي مبدداً ظلمات الأحزان، كذلك يصعد محلقاً بنور الإيمان إلى أبعد شواهق المستقبل مزيلاً أهواله ومخاوفه».

الخلاصة

وهكذا لما أراد الرئيس استمالته ليستفيد من نفوذه في شرقي البلاد، وعرض عليه أن يكون نائباً في البرلمان، مع الاحتفاظ بعضوية دار الحكمة الإسلامية، ويتولى منصب الواعظ العام في شرقي البلاد بدلاً من الشيخ السنوسي مع تخصيص مسكن فاخر (فِيلَا) له وأمثالها من العروضات… فإن بديع الزمان شاهَدَ أوصاف ما ورد في حديث شريف حول أشخاص آخر الزمان «الدجال والسفياني» -والذي أوّله قبل عهد الحرية في إسطنبول- وتيقن أنه لا يمكن مجابهة أولئك الأشخاص إلّا بأنوار إعجاز القرآن وليس بمسالك السياسة… لذا ردّ جميع عروضات مصطفى كمال وغادر أنقرة بعد أن بيّن وجهة نظره في الحكومة الجديدة للنواب الذين حضروا لتوديعه وألحّوا عليه بالبقاء في أنقرة متعاوناً مع الحكومة الجديدة.


[1]  ذيل العريضة المقدمة إلى رئيس الجمهورية اضطررت إلى كتابتها (المؤلف)

[2]  وردت هذه الحالة الروحية على صورة مناجاة إلى القلب باللغة الفارسية، فكتبتها كما وردت، ثم طبعت ضمن رسالة (حباب) في أنقرة. (المؤلف).