مقدمة أُلحقت مؤخراً للدفاع الأخير

لقد أُخطر على قلبي فجأة في اليوم الثالث من الحمّى الشديدة الثقيلة عليّ، من جراء التسمم. فمنعتني من تناول شيء خلال ثلاثة أيام إلّا كأساً من لبن وكأساً من حليب، فكتبت تلك الخاطرة -تبركاً- كمقدمة لدفاعي في المحكمة، فإن كانت فيها شدة ونقص فتعود إلى مرضي، وقد حاولت أن أبيّن الحقيقة صائباً ما وسعنى ذلك وأُظهرها كما هي بهذا القدر حيث إنني اضطررت إلى الدفاع عن مائة شخص، مع الإرهاق الذي أصاب الدماغ والبؤس الذي نعانيه والأحوال المزعجة التي نعايشها.

إن قصدي من أسلوبي الذي ينطوي على مبارزة منظمةٍ سرية رهيبةٍ في جميع صفحات دفاعي هي الآتي:

إن الحكومة الجمهورية التي قبلت «فصل الدين عن الدولة» لا ينبغي لها أن تتعرض للمتدينين بسبب دينهم كما لا تتعرض للملحدين بسبب إلحادهم.

وكذا أريد أن أميّز حكومة الجمهورية التي ينبغي أن تكون حيادية وهي متحررة، عن المنظمات السرية الرهيبة المنحازة للإلحاد والتي تحيك المؤامرات وتستغفل موظفي الحكومة. فأريد أن تظل الحكومة بعيدة كل البعد عن هذه المنظمات. فأنا -في الحقيقة- إنما أجاهد أولئك المتآمرين الذين تسلل بعض منهم إلى وظائف الدولة، فهؤلاء يتعقبون بجد المتدينين، ولديهم تهمتان جاهزتان، يلصقونهما بالمتدينين الذين يحقدون عليهم، ويسعون لاستغفال الحكومة بهما.

إحداها: الرجعية التي تعني عدم الميل إلى إلحادهم.

والأخرى: استغلال الدين أداة للسياسة، بمعنى اتباع هذه الحكومة الإسلامية الإلحاد حاشا ثم حاشا.([1])

نعم، إن الحكومة الجمهورية لا تروّج أفكار تلك المنظمات السرية المفسدة المضرة بالوطن والشعب ولا تنحاز إليها بلا شك. بل مقتضى قانون الجمهورية منعها، إذ الانحياز إلى أمثال هؤلاء المفسدين لا يحقق تنفيذ الأسس الحقيقية للجمهورية حيث يكون بالضد منها. فعلى الحكومة أن تظل حَكَماً عدلاً بيننا وبين أولئك المفسدين. فأيّ منا كان ظالماً ومتعدياً فلتحكم بيننا بالعدل.

نعم، لا ينكر أن الكفر والإيمان يتصارعان منذ بدء الخليقة وسيبقيان هكذا إلى يوم القيامة. فكل من يقف على كنه قضيتنا هذه يدرك أن الهجوم الذي شُن علينا تعدٍّ صارخ من الكفر على المتدينين مباشرة، ليس إلّا.

إن ظهور أكثر الفلاسفة والحكماء من الغرب وأوروبا وبعثة أكثر الأنبياء في الشرق وآسيا رمز من القدر الإلهي، أن المهيمن على آسيا هو الدين. ولا شك أن الحكومة الجمهورية التي هي في مقدمة آسيا ستستفيد من هذه الناحية الفطرية لآسيا. وتجعل قاعدتها في الحياد تميل إلى جهة التدين أكثر من ميلها إلى الكفر.

المادة الثانية: ربما تطرح مسألة، وهي وجود مسائل في أجزاء رسائل النور تعارض القانون. فهذه الجهة تخص المحكمة. ولكن الرسائل نفسها تضم أكثر من مائة من الكشفيات المعنوية فينبغي صيانة حق الكاشف وعدم ضياع حق كشف واحد منها. ذلك لأن هذه الكشفيات لها أهميتها لدى أهل الحقيقة وأهل العلم والأدباء، فلا يمكن أن يتملك أحد كشف الكاشف، وإذا ما ادّعى تملكه فعلى الكاشف أن يقيم عليه الدعوى. وهذا قانون جار في الدول كلها.

إن رسائل النور التي أرغب في نشرها باستحصال موافقة الحكومة في المستقبل، قد سعيت منذ ما يقرب من ثلاثين سنة على تأليفها وكشفها، فهي نتيجة مساعيّ وثمرة تدقيقاتي ومجاهداتي الفكرية وتحرياتي الجارية في منابع مختلفة منذ خمسين سنة، فهي تُظهر مائة من الكشفيات المعنوية الحاوية على أُلوف من الحقائق، كل ذلك في أجزاء يفوق عددها على مائة رسالة. لذا فطرح خمس عشرة نقطة منها -لا توافق بعض القوانين- وجعلها في صورة اتهام، تهيئ المجال لسرقتها وتملكها من قبل الآخرين. حيث يسبب ضياعَ هذه الحقائق وضياع حقوقي المتعلقة بها. ومن هنا فإني أطالب -قبل كل شيء- بصيانة حقي باسم الحقيقة والحقوق وأرجو أن تكون هذه أول جهة تنظر إليها محكمتكم العادلة.

إن الحقائق التي تتضمنها رسائلي المصادرة نتيجة توهمها أداة جرم يجب أن تكون بين يديّ، لأنها مصدر إثباتي تجاه أهل العلم والفلسفة ومحققي الدراسات الأكاديمية، فأطلب إعادتها لي لإجراء تثبيت الكشفيات والمناظرات العلمية التي فيها. وحتى لو حكمتم عليّ فلا تكون تلك الرسائل محكومة. ولا بد أن تكون رفيقتي في السجن. ولا شك أن المحكمة العادلة تترفع عن الإنصات إلى أقوال الحاقدين والذي يخدش كرامة المحكمة وشرفها وعدالتها وستجعل إن شاء الله مؤامراتهم عقيمة بائرة.

فأنا لا أقول باسمي وحده، بل باسم الحقيقة السامية التي ترتبط بها حقائق كثيرة وحقوق أبرياء كثيرين مستنداً إلى أن المحكمة لا تعرف مقاماً أسمى من إحقاق الحق والعدل. بل إن إنقاذ العدالة والبعد عن أي تأثير خارجي هو مقتضى العدالة التي تنفذها. فينبغي الإسراع في دفع هذه الأوهام الباطلة بإعلان الحرية لرسائل النور.

المادة الثالثة: يفهم من الذنب الموهوم الذي يسند إلينا استلزام محكوميتي، حيث يراد أن يمسنا ظاهر «المادة 163»  من قانون الجزاء وعموميتها، وبتعبيرها العام من دون أخذ القيود الاحترازية بنظر الاعتبار. رغم أن دفاعاتي المسجلة في المضابط الرسمية لديكم تضم أجوبة حقيقية قاطعة لما أُسند إلينا. فتُنتقد وتُعاقب رسائل النور بسبب عشر أو خمس عشرة نقطة بدلاً من أن تُكافأ وتقدّر حق قدرها لاحتوائها على مائة من الكشفيات المعنوية ومئات من الحقائق المهمة وهي في أكثر من مائة جزء. أليس من حقي أن أطالب بحقي هذا، وحق حرية رسائل النور؟ بل هذا أمر ضروري.

المادة الرابعة: إن الذين يهاجمونني إلى الآن ويثيرون الحكومة علينا، أصحاب أغراض وأحقاد بلا شك. إذ ما تركوا باباً إلّا وطرقوه لأجل ضربنا. فبدؤوا أولاً باتهامنا بـأننا «أصحاب طريقة صوفية» ولم يعثروا على شيء يثبت اتهامهم، ثم تهمة «تأسيس جمعية» ثم تهمة «معارضة قوانين الانقلاب وتشكيل تنظيمات سرية معارضة للدولة والقيام بنشريات دون إذن حكومي».. وأمثالها من الاتهامات الكثيرة، ومع هذا لم يجدوا شيئاً لإدانتنا. وفي النهاية يريدون سحب مادة قانونية علينا -بما لا يقبله عاقلٌ ولا يعطي لهم الحق منصفٌ- من دون اعتبار بقيودها الاحترازية، مستفيدين من عمومية ظاهرها.

نعم، لا يقبَل من له ذرة من عقل وله ذرة من إنصاف في الدنيا كلها المادة التي سنبحثها بل سيقول حتماً إنه افتراء وبهتان محض؛ تلك هي «أن سعيداً الكردي يستغل الدين لأجل السياسة» فالدلائل التي تفند هذا الزعم تبلغ أكثر من عشرين دليلاً، وما يقرب من عشرة منها أدرجت في المضابط الرسمية لدفاعاتي. أذكر أحد الأدلة فقط بشهادة مئات الشهود:

بمشاهدة أهالي قرية «بارلا» التي مكثت فيها تسع سنوات، وبشهادة أخلائي في إسبارطة التي أقمت فيها تسعة أشهر، وبإشهاد أخلائي الذين يعرفونني عن كثب، إني لم أقرأ ولم أستمع ولم أطلب أية جريدة التي هي لسان حال السياسة منذ ثلاث عشرة سنة. بل لم أرغب في الاطلاع على الجرائد التي تطرقت إلى وقائع يظن أن لها مساساً مع شخصي وتثير الفضول لدى الناس، ولم أقرأها ولم أستقرئها. أيُقال لسعيد: إنه «يجعل الدين أداة للسياسة» والذي يعني أن الدين الحق الذي آمن به وهو الحقيقة السامية المقدسة والإيمان الحقيقي يجعله آلة للسياسة، أي آلة لمقصد دنيء عقيم تضيع فيه حقوق الكثيرين، لمقصد مختلطٍ فيه الإثمُ الكثير، بماذا؟ بـرسائل النور التي تبينت بعد التدقيقات العميقة التي أجرتها الحكومة، أنها متوجهة للآخرة والإيمان وإلى الحقيقة لا غير، فيما عدا خمس عشرة مادة فيها.. ألا يَفهم من يتفوه بهذا الكلام أنه أبعد من العقل والوجدان؟ فلا ريب أن المحكمة العادلة ستدفع بمثل هذه الأوهام الباطلة والإسنادات الظالمة وتحق الحق في حقنا.

فعلى الرغم من أن الجهل بالقوانين لا يشكل عذراً لدى الأكثرية، فإن من كان في قرية نائية، تحت الترصد والمراقبة، وفي بلد غير بلده، عازفاً عن الدنيا، ومقيماً إجبارياً منفياً هناك، وتتوالى عليه الإزعاجات باستمرار، لا شك أن جهله بالقوانين يشكل عذراً لدى المنصفين.

فذاك الرجل هو أنا، فلم أكن أعلم أية مادة قانونية التي يؤاخذونني بها بوهم خاطئ. بل لم أكن أستطيع التوقيع بالحروف الجديدة. وقد لا ألتقي أحداً طوال عشرة أيام سوى من يعينني في أموري الخاصة، فالجميع يهربون من أن يمدّوا إليّ يد التعاون. علاوة على ذلك لا أتمكن من توكيل محام يدافع عني. وقد اتخذت دستور «إنما الحيلة في ترك الحيلة» دستوراً طوال حياتي، فمازلت أقول الصدق والحق والحقيقة والصواب في المحاكمات. وبناء على ما ذكر فمن مقتضى العدالة النظر بالتسامح إلى تعابيري التي لا توافق القوانين الحاضرة والأصول الرسمية في دفاعاتي أو في عدد من رسائل النور.

إن النقاط التي ظلت مجملة في دفاعاتي موضّحة في رسالة الاعتراض على لائحة الادعاء، وما جاء في الاعتراض من مواد مجملة موضحة في الدفاعات، فالواحدة تكمل الأخرى.

إن ما تضمنته «المادة 163» مع القيود الاحترازية من معنى، وما قصد بها واضع القانون هو ألّا يكون مبعثاً للإخلال بالأمن. وحيث إنه ليس هناك إشارة ولا أمارة ولا ترشح يومئ إلى الإخلال بالأمن، لا فيّ ولا في رسائلي، فهذه المادة إذن لا علاقة لها بقضيتنا إطلاقاً وليس هناك جهة تستلزم العقوبة. وقد أثبتنا هذا إثباتاً قاطعاً كما في المضابط الرسمية. لذا لا يليق بجلال العدالة إبراز هذه المادة القانونية ومؤاخذتنا بها بتأثير الأوهام المذكورة في البداية. فأنا أطالب ببراءتي وأقول كلمتي الأخيرة:

 ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ﴾ (آل عمران:173)

﴿فَاِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُۘ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَۜ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظ۪يمِ﴾ (التوبة:129)

اعتراض على لائحة الادعاء

أيتها الهيئة الحاكمة ويا أيها المدعي العام!

إن كل مادة وردت في لائحة الادعاء العام حول سبب اتهامي أجيب عنها في دفاعاتي المسجلة في المضابط الرسمية لدى دائرة التحقيق. و«دفاعي الأخير» البالغ خمساً وثلاثين صفحة أقدمه بدلاً من الاعتراض، ولكن لأجل أن ألفت نظر العدالة والإنصاف إلى نقطة مهمة أقول:

أيّ إنصاف أو وجدان يقبل اتهامي بمحاولة الإخلال بالأمن والنظام، رغم عدم وجود أية أمارة أو ترشّح حول الإخلال بالأمن والنظام منذ عشر سنوات صادر مني، وأنا المظلوم وتحت المضايقات في ولاية إسبارطة؟

فلو فسّر وجه تنفيذ «المادة القانونية 163» بحقنا فيجب أن يشمل أولاً رئاسة الشؤون الدينية، وجميع الأئمة والخطباء والوعاظ، لأننا مشتركون معهم في الإرشاد والتوجيه إلى الحياة الدينية. إذ لو فسّر هذا المفهوم الخطأ الواضح، أي إن الإرشاد الديني يخل بالأمن والنظام الداخلي فعندئذ يصبح شاملاً للجميع.

نعم، إن لي جهة تفوق عليهم وهي إيضاح الحقائق الإيمانية إيضاحاً قاطعاً لا شبهة فيه ولا ريب. ولو فرض -فرضاً محالاً- ورود اعتراض على أهل الدين عموماً فإن هذه الحالة تكون وسيلة لإنقاذنا من الاعتراض.

إنه بلا شك لا يليق بنظر العدالة إلقاء عشرين من الأبرياء في السجن وجعلهم في حالة بؤس وشقاء بعيدين عن أهليهم وذويهم وعن مساعيهم وشغلهم بسببـي أنا، وبناء على مادة لم يثبت منها شيء عليّ بعد إجراء التحقيقات بشأني إلى هذا الحد، بل حتى لو ثبت فلا يشكل ذنباً من وجهة نظر العدالة الحقة، وحتى لو كان ذنباً فأنا المسؤول عنه. نعم، فلقد تضرر ضرراً بالغاً -بالتوقيف والحجز- كثيرون جداً من الأبرياء بسبب أدنى علاقة معي.

ورد في لائحة الادعاء حول نفيي ما ينمّ عن الاشتراك في حوادث الشرق «الشيخ سعيد».

فأنا أجيب: «إنني نفيت من قبيل الأخذ بالحيطة والحذر ليس إلا،ّ وتوجد تفاصيل حول الموضوع في سجلي لدى الحكومة. فلقد كنت آنذاك -وكما هو الآن- منـزوياً عن الناس. إذ لما كنت وحيداً فريداً في مغارة على جبل، مع خادم، أخذوني وفرضوا عليّ الإقامة الإجبارية لمدة عشر سنوات، تسع منها في قرية وسنة واحدة في «إسبارطة». وفي النهاية ابتلوني بهذه المصيبة».

لائحة الادعاء الثالثة

وردت الفقرة الآتية في اللائحة:

«حينما كان في بارلا أنشأ علاقات مع الناس، البعيد والقريب، وضمن منهم المعونات المادية والمعنوية، وبدأ نشاطَه مؤلِّفاً رسائل عدة سماها رسائل النور واستكتب جزءاً جزءاً منها بالتتابع وكثّرها بنسخ كثيرة ونشرها بصورة خفية بدلالة رجاله وبوسائل شتى حتى نشرها في كل من أنطاليا وأيدن وميلاس وأغريدر ودينار ووان وأمثالها من المناطق، ووضع على بعض هذه الرسائل التي تؤثر في الأمن الداخلي أنها رسائل سرية خاصة أو شبه خاصة، وبهذا أظهر ما كان يستهدفه من هذه الرسائل…»

أقدم الجواب الآتي القاطع الواضح، مع «الدفاع الأخير» المسجل في المضابط الرسمية والبالغ خمساً وثلاثين صفحة، على صورة رسالة اعتراض فأقول:

«حاشا ومائة ألف مرة حاشا لله.. لا ولن أجعل علم الإيمان أداة لشيء قط سوى مرضاة الله. ولا يحق لأحد كائناً من كان أن يجعله.. وقد ألفت مائة وخمساً وعشرين رسالة تحت اسم رسائل النور خلال عشرين سنة.. والتي عليها «رسائل خاصة سرية» ثلاثة منها. وجعلناها خاصة لئلا تكون مدار غرور ورياء.

والآن أضطر إلى نزع ستار السرية عن تلك الرسائل فأقول: إن إحدى تلك الرسائل الخاصة هي «الكرامة الغوثية». والثانية «الكرامة العلوية» والثالثة «رسائل تخص الإخلاص». والرسالتان في الكرامة عبارة عن إشارات الإمام على رضي الله عنه والشيخ الكيلاني قدس سره إلى تقدير خدمتي القرآنية وتثمينها بما يفوق حدي مائة مرة. أما الرسالة الخاصة بسر الإخلاص فهي تنجي -بإذن الله- من الرياء والغرور والأنانية وهي تخص إخوتي الخواص. فما علاقة هذه الرسائل بالأمن الداخلي حتى تكون موضع اتهام.

أما القسم الثاني من الرسائل الخاصة فهو بضع رسائل كتبتها قبل تسع سنوات عندما كنت في «دار الحكمة الإسلامية» رداً على اعتراضات أوروبا والهجوم الكفري السافر لـ«عبد الله جودت»  ورسالتين كتبتهما على صورة شكوى من التعدي الظالم الشنيع عليّ من قبل بعض الموظفين. وهما مذكورتان في دفاعي.

وبعد تأليف هذه الرسائل الأربع بمدة، منعتُ نشرها لئلا تمس قوانين التحرر وشؤون الحكومة بأي شكل من الأشكال، وقلت إنها رسائل خاصة. فانحصرت في واحد أو اثنين من إخوتي الخواص. ودليلي هو عدم وجود هذه الرسائل في أي مكان كان رغم تحرّياتكم الكثيرة. إلّا أنكم حصلتم على «الفهرست» لجميع الرسائل، وفي ضوئها استلزم استيضاح هذه النقاط. وقد أجبت عنها وسُجلت في مضابطكم الرسمية.

ترد في لائحة الادعاء أسماء مناطق عديدة ومحاولتي نشر رسائل النور بوساطة رجالي هناك. أقول جواباً: إني أعيش غريباً وبلا نصير في قرية نائية، ولا أجيد الكتابة، يتجنب الناس عن معاونتي لكوني تحت المراقبة والترصد الدائم. فكم هو خلاف الحقيقة إطلاق الكلام جزافاً: «إنه يحاول النشر وتعميم الرسائل».. لإرسالي بعض الخواطر الإيمانية إلى عدد محدود جداً من أحبتي-كذكرى جميلة- لا يتجاوزون خمسة أشخاص؟.. قدّروا الموقف.. إذن فكيف يقال: إنها نشرياتٌ إرسال رسالة أو رسالتين إيمانيتين إلى صديق في «وان» علماً أنني انشغلت بالتدريس هناك خمس عشرة سنة ونلت توجه الناس وإقبالهم عليّ أكثر من حدّي بكثير. لا شك أنى لا أستطيع النشر حيث لا مطبعة لي ولا كتّاب ولا أجيد الكتابة، ولكن رسائل النور لها جاذبية تنتشر بنفسها. إلّا الكلمة العاشرة التي تخص الحشر قد طبعناها، قبل إقرار الحروف الجديدة، وحصل عليها مسؤولو الحكومة والنواب والولاة، ولم يعترض أحد منهم عليها. ونُشرت منها ثمانمائة نسخة. ولمناسبة انتشارها حصل بعض الناس على رسائل مشابهة لها من الرسائل الإيمانية الأخروية الخالصة، ولا جرم أني قد انشرحتُ بهذا الانتشار الذي حصل بنفسه، ودون اختيارنا. وقد كتبت تقديري هذا على صورة حث في بعض مكاتيبي الخاصة، وبنتيجة التحريات الدقيقة منذ ثلاثة شهور عثروا على كتبي لدى خمسة عشر أو عشرين شخصاً في هذه البلاد الواسعة. ترى كيف تكون «نشرياتٍ» وجدانُ رسائلَ لدى عشرين من أصدقاءِ مَن قضى ثلاثين سنة من عمره في التأليف والنشر؟ وكيف يقال: إنه يستهدف شيئاً وراء هذه النشريات؟

أيها السادة! لو كنت أبتغي دنياً أو سياسة لكانت علاقتي تظهر بمائة ألف شخص وليس بخمسة عشر أو عشرين شخصاً.

وعلى كل حال ففي «دفاعي» لديكم تفاصيل أكثر وإيضاح بخصوص هذه النقطة.

* * *

جاء في لائحة الادعاء اعتراض على حقيقة وهي الجواب العلمي وفي غاية الوضوح على اعتراض المدنية الحديثة حول الآيتين الجليلتين ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْاُنْثَيَيْنِ﴾ (النساء:11) ﴿فَلِاُمِّهِ السُّدُسُ﴾ (النساء:11) علماً أن تلك الحقيقة وردت في جميع التفاسير.

وورد في لائحة الادعاء -نقلاً من «الفهرست» أيضاً- انتقاد العبارة الآتية: «لا تحل الترجمة محل الألفاظ القرآنية والأذكار المأثورة».

هذه المسألة حدثت قبل ثماني سنوات وهي حقيقة علمية لا تقبل الاعتراض قطعاً. ولكن الحكومة بعد مدة طويلة قبلت -حسب بعض متطلبات الوقت الحاضر- ترجمتها. فكيف تستعمل إذن تلك الحقيقة العلمية ضدي؟

ورسالة شكوى عبارة عن أربع نقاط لم أسلّمها لأحد من الناس. ولهذا لم يعثر عليها، تبحث عن التعدي الظالم الوحشي على مسجدي من قبل مدير الناحية وثلة من أصدقائه، وسوء تصرف القائمقام ومأموريه معه.

وورد في لائحة الادعاء بحث في التوافقات اللطيفة أن عدد سطور «رسالة الحشر» يوافق تاريخ تأليفها، وتاريخ إعلان الجمهورية اللادينية العلمانية التي تفصل الدين عن الدنيا والذي هو أمارة إنكار الحشر… وهذا يعني أنه من المحتمل أن يُظهر أهل الضلالة والإلحاد إنكار الحشر مستفيدين من حياد الجمهورية التي لا تتعقب الدين ولا الكفر، وتظل على الحياد. وليس في ذلك اعتراض على الحكومة، بل إشارة إلى حياد الحكومة.

نعم، لقد أخرسَتْ «الكلمة العاشرة» بنسخها الثمانمائة أهلَ الضلالة، فلم يطيقوا أن يخرجوا أضغانهم، فدفنتْ إنكارَهم الحشرَ في قلوبهم ولم تُتح لهم فرصة كي ينطقوا به، فكمّت أفواههم ببراهينها الدامغة.

نعم، إن الكلمة العاشرة التي تبحث عن ركن إيمانيّ عظيم وهو الحشر أصبحت كالسور الفولاذي حول الإيمان. وأسكتت أهل الضلالة. فلا جرم أن الحكومة الجمهورية قد سُرّت ورضيت بها حتى تناقلتها أيدي المسؤولين الكبار بحرية تامة..

أيتها الهيئة الحاكمة!

لو كان هدف رسائل النور الدنيا أو قُصد بها قصدٌ دنيويٌ لكانت عشراتُ الألوف من مواضع النقد في مائة وعشرين رسالة تلفت إليها الأنظار.. فهل يجوز منع بستان طيب وإدانة صاحبه بوجود خمس عشرة فاكهة مُرة بالنسبة لكم من بين مائة وعشرين ألف فاكهة طيبة لذيذة.. أُحيلُ ذلك إلى وجدانكم العادل.

ولقد بينتُ في دفاعي الأخير أنني منذ ثلاثين سنة أجبتُ ومازلت أجيب على اعتراضات فلاسفة أوروبا ومن يعمل على حسابهم في داخل البلاد من الملحدين الذين يحيكون مؤامرات المكر السيء. فكل من يدقق رسائلي يدرك أن مخاطبي فيها بعد نفسي هم أولئك.

والآن أسألكم: بأي صورة تكون اللطمات العلمية التي أُنزلها على فلاسفة أوروبا وأضرب بها وجه كل ملحد يعمل لحساب الأجانب، أنها ضد الحكومة؟ إننا لا نستوعب هذا، إذ كيف يكون هذا الأمر ضد الحكومة بل لا نورد احتمالاً له قط! بل نرى أن حكومة الجمهورية الداعية إلى الحرية ترحب بهذه اللطمات العلمية المحقة، ترحب بها باسمها وباسم القانون، فلا تعتبرها مواد مسؤولية واتهام.

اعتذار: كتب هذا الاعتراض خلال ثلاثة أيام بعد تبليغ لائحة الادعاء، ففي اليوم الأول أتت اللائحة متأخرة وقرئت حتى المساء. وفي اليوم الثاني تُرجم القسم الأعظم منها. فكتب هذا الاعتراض الطويل بسرعة حيث لم أجد مجالاً لكتابته إلّا حوالي ست ساعات.

ولما كنت قد مُنعت من الاختلاط بالناس، فإني أجهل القوانين والأصول الرسمية الحاضرة -كما ورد في دفاعي- لذا فهذا الاعتراض الذي كتبته في خلال أربع أو خمس ساعات سيكون غير منتظم ومشوشاً بلا شك، أرجو أن تنظروا له بنظر التسامح.


[1]  أي إنهم يقولون «إن سياسة الحكومة هي الإلحاد، وفق نظرهم وإن خدمتنا لتحقيق الإيمان برسائل النور المترشحة من نصوص القرآن الحكيم، سياسة تخالف سياسة الحكومة. فيفترون افتراءً عظيماً جداً».