عريضة مقدمة إلى مجلس الوزراء

يا أهل الحل والعقد!

لقد تعرضت لظلم يندر وجوده في الدنيا. ولما كان السكوت على هذا الظلم يعدّ استهانة بالحق وعدم احترام له فقد اضطررت إلى إفشاء حقيقة مهمة جداً، فأقول:

إما قوموا بإعدامي وببيان ذنبي الذي استلزم حكماً مقداره مائة سنة وسنة ضمن دائرة القانون وإطاره، أو برهِنوا على أنني مجنون وفاقد للعقل، أو أعطوا لرسائلنا ولنا ولأصدقائنا الحرية الكاملة وحاسِبوا الذين تسببوا في إيقاع الأذى بنا.([1])

أجل، لا بد أن يكون لكل حكومة قانون واحد، وأصول واحدة، حيث تُعطى العقوبات على أساس ذلك القانون، فإذا لم يكن في قوانين الحكومة الجمهورية ما يبرر إيقاع الأذى الشديد بي وبأصدقائي فإن من المفروض ومن الواجب تقديم الترضية الضرورية والتقدير والمكافأة لنا مع إعطائنا كامل الحرية، ذلك لأنه لو كانت خدمتي القرآنية تعدّ عملاً عدائياً موجهاً ضد الحكومة، فإنه يلزم إصدار حكم عليّ بالسجن لمدة مائة سنة وسنة أو بالإعدام، وكذلك إصدار عقوبات قاسية على الذين ارتبطوا معي في هذه الخدمة بشكل جدي بدلاً من الحكم عليّ بسنة واحدة وعلى أصدقائي بستة أشهر. فإن لم تكن خدماتنا هذه موجهة ضد الحكومة، فعليها أن تقابلنا بالتقدير والمكافأة بدلاً من العقاب والسجن والأذى والاتهام. ذلك لأن مائة وعشرين رسالة، أصبحت ترجماناً لهذه الخدمة، واستطاعت أن تتحدى فلاسفة أوروبا وأن تهدم كل أسسهم الفكرية وتجعلها أثراً بعد عين.

لا شك أن هذه الخدمة الفعالة والمؤثرة ستؤدي إما إلى نتيجة مخيفة، أو إلى ثمرة علمية راقية ونافعة جداً، لذا لا يمكن إصدار قرار بحبسي سنة واحدة وكأننا نلعب لعب الأطفال من أجل ذر الرماد على العيون واستغفال العامة والتستر على مؤامرات الظالمين ضدنا، ذلك لأن أمثالي إما أن يصعدوا على المشنقة بكل فخر ويعدموا، وإما أن يكونوا أحراراً في الموقع الذي يستحقونه.

أجل، إن اللص الماهر الذي يستطيع أن يسرق ألماسات بقيمة آلاف الليرات، إن قام بسرقة قطع زجاجية بقيمة عدة قروش وتم الحكم عليه بنفس الحكم من سرقة ألماسات ثمينة، فإنه ما من لص أو ذي عقل وشعور يفعل ذلك. لأن أمثال هذا اللص يكون ذكياً وحاذقاً ولا يتورط في عمل في غاية الحمق والبلاهة.

أيها السادة!

لنفرض أنني كنت مثل ذلك اللص حسب ما تتوهمون، فلماذا أختار ناحية بائسة من نواحي مدينة «إسبارطة» حيث بقيت منـزوياً فيها مدة تسع سنوات. إذن فبدلاً من توجيه أفكارِ بضعةٍ من الأفراد المخلصين «الذين تم الحكم عليهم بأحكام خفيفة» نحو معاداة الحكومة وإلقاءِ نفسي ورسائلِ النور -التي هي غاية حياتي وهدفها- في الخطر فقد كان من الأفضل لي البقاء في موقع كبير في «أنقرة» أو في «إسطنبول» -كما كنت في السابق- وتوجيه الآلاف من الناس نحو الغاية التي ابتغيها، عند ذلك كنت أستطيع أن أتدخل وأن أشارك في أمور الدنيا بعزة تليق بمسلكي بدلاً من التعرض لمثل هذه العقوبة التافهة والذليلة.

ولأجل أن أبين مدى الخطأ الذي يقع فيه الذين يريدون دفعي إلى رتبة واطئة لا نفع فيها ولا أهمية لها، فإنني أقول مضطراً مذكراً ببعض أنانيتي وريائي السابقين وليس من أجل الفخر والمدح:

إن الذين تيسرت لهم رؤية دفاعي الذي طبع تحت عنوان «شهادة مدرستين للمصيبة» يشهدون أنه استطاع بخطبة واحدة جلب ثماني كتائب من الجنود إلى الطاعة في أحداث 31 مارت، وكما كتبتْ الجرائد آنذاك استطاع بمقالة واحدة في زمن حرب الاستقلال باسم «الخطوات الست» أن يحوّل رأى العلماء في إسطنبول ضد الإنكليز، مما كان له أثر إيجابي كبير في الحركة الملية «الوطنية» وفي جامع أياصوفيا استمع الآلاف إلى خطبته، وفي مجلس المبعوثان «المجلس النيابي» في أنقرة استُقبل بتصفيق حار وقام مائة وثلاثة وستون نائباً بالموافقة على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لمدرسة دار الفنون «الجامعة»، وعندما دعا إلى الصلاة قابل حدة رئيس الجمهورية في ديوان الرئاسة وردّ عليه دون خوف أو وجل([2]) وعندما كان في «دار الحكمة الإسلامية» رأت حكومة الاتحاد والترقى بالإجماع أنه أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر. أما كتابه «إشارات الإعجاز» الذي ألّفه في جبهات القتال -والذي تمت مصادرته الآن- فقد أعجب به القائد العام أنور باشا إعجاباً كبيراً إلى درجة أنه هرع إلى استقباله بكل احترام -وهذا ما لم يفعله مع أحد- وقرر إعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب، كما ذُكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير..

فمثل هذا الرجل لا يستطيع أن يسكت على معاملته بهذه الصورة وكأنه تورط في جرائم تافهة كسرقة بغلة أو خطف بنت أو نشل جيب، لأنه لو سكت لكان هذا وصمة له ولعزته العلمية القدسية ولخدماته وللألوف المؤلفة من أصدقائه الغالين، لأنكم عندما تعاقبونه بحبسه سنة واحدة فكأنكم تعاملونه معاملة سارق نعجة أو خروف. فبعد قيامكم بوضعه دون أي سبب تحت الإقامة الجبرية وتحت المراقبة مدة عشر سنوات مليئة بالمضايقات وبالآلام، وبعد هذا التعذيب تقومون الآن بحبسه سنة واحدة وبإبقائه تحت الإقامة الجبرية سنة أخرى. وبدلاً من معاناته من تحكم وتجبر شرطي عادي أو رجل بوليس سري عادي -وهو الذي لم يتحمل تحكم السلطان- فإنه من الأفضل والأولى له أن يُشنق. ولو أن مثل هذا الرجل أراد التدخل في أمور الدنيا ورغب في ذلك، وكانت وظيفته ومهمته المقدسة تسمح له بذلك، إذن لاستطاع أن يقود أمراً أعظم بعشرات المرات من حادثة «منمن» ومن ثورة «الشيخ سعيد» أي لأسمعكم صوتاً راعداً كدوي المدافع وليس طنيناً كطنين أجنحة الذباب!

أجل، إنني أعرِض أمام أنظار حكومة الجمهورية بأن ما أتعرض له حالياً من مصائب ومن بلايا هو نتيجة لمؤامرات ودعايات منظمة بلشفية سرية، فهناك جو من الدعايات العامة الشاملة التي لم يشاهَد لها مثيل في السابق وجو من الخوف ومن الإرهاب، والدليل على هذا هو أنه ما من أحد من أصدقائي -الذين يبلغ عددهم مائة ألف- استطاع أن يبعث لي رسالة واحدة منذ ستة أشهر ولم يستطع أن يرسل لي تحية أو سلاماً. وأصحاب المؤامرات هذه الذين يحاولون خداع الحكومة واستغفالها استطاعوا بتقاريرهم السرية ترتيب تحقيقات واستجوابات وتحريات في كل مكان بدءً من الولايات الشرقية للبلد إلى الولايات الغربية.

إن الخطة التي كان المتآمرون يحيكونها رتبت وكأن هناك حادثة مهمة أعاقَب عليها -مع الآلاف من الأشخاص مثلي- عقاباً قاسياً، ولكنها انتهت في الأخير إلى عقوبة تافهة جداً يمكن أن تفرض على أي شخص اعتيادي قام بحادثة سرقة تافهة، إذ عوقب خمسة عشر شخصاً بريئاً من بين مائة وخمسة عشر بالسجن لمدة ستة أشهر. فهل هناك شخص يملك شعوراً وعقلاً يقوم بوخز أسد كبير في ذيله وخزة خفيفة بسيف قاطع حاد يحمله في يده فيثيره ضده؟ ذلك، لأنه لو كان يريد حفظ نفسه من ذلك الأسد أو لو كان يريد قتله لاستعمل ذلك السيف القاطع في موضع آخر من ذلك الوحش.

إن قيامكم بإصدار عقوبة خفيفة ضدي يدل على أنكم تتوهمون أنني مثل هذا الرجـل. ولو أنني كنت شخصاً يتصرف مثل هذا التصرف البعيد عن العقل وعن الشعور فلماذا ملأتم هذا البلد بطوله وعرضه بجو من الخوف؟ وما الداعي لكل هذه الدعايات التي تستهدف جلب عداء الرأي العام ضدي؟ لقد كان من المفروض أن تتعاملوا معي كتعاملكم مع مجنون عـادي فترسلوني إلى مستشفى المجاذيب.

أما لو كنت شخصاً مهماً كأهمية التدابير التي تتخذونها ضدي، فليس من العقل ومن المنطق وخز ذلك الأسد أو ذلك الوحش في ذيله وإثارته للهجوم عليه، بل عليه أن يحافظ قدر الإمكان على نفسه منه. وهكذا فإنني فضلت حياة الانزواء منذ عشر سنوات باختياري وتحملت من الآلام والمضايقات مالا يتحمله إنسان، ولم أتدخل في أي شأن من شؤون الحكومة ولم أرغب في ذلك أصلاً، ذلك لأن مهمتي المقدسة تمنعني من هذا.

يا أهل الحل والعقد!

هل من الممكن لمن استطاع قبل خمس وعشرين سنة -بشهادة جرائد ذلك الوقت- أن يكسب إلى جانب أفكاره ثلاثين ألف شخص بمقالة واحدة كتبها، وجلب نحوه أنظارَ واهتمامَ جيشِ الحركة، وأجاب بست كلمات على أسئلةِ كبيرِ قساوسةِ إنكلترة الذي طلب الإجابة عليها بستمائة كلمة، والذي كان يخطب في بداية عهد الحرية كأي سياسي متمرس… هل من الممكن ألّا يوجد في مائة وعشرين رسالة من رسائل هذا الشخص سوى خمس عشرة كلمة تتعلق بالسياسة وبأمور الدنيا؟ أيمكن لأي عقل أن يقتنع بأن مثل هذا الرجل يسلك طريق السياسة وله أهداف دنيوية؟ لأنه لو كان يهتم بالسياسة وبالتعرض للحكومة لظهر ذلك صراحةً أو إيماءً في مائة موضع من كتاب واحد فقط. ولو كانت غايته توجيه النقد السياسي أمَا كان بإمكانه أن يجد ما ينقده غير موضوع الحجاب وغير موضوع الميراث وهما من المواضيع ومن الدساتير الموجودة منذ السابق؟

إن أي شخص يملك فكراً سياسياً معيناً يستطيع أن يجد مئات الآلاف من المواضيع التي ينتقدها لنظام هذه الحكومة التي قامت بانقلاب كبير، ولا يقتصرَ على موضوعين معلومين فقط. فهل يمكن حصر الانقلاب الذي قامت به حكومة الجمهورية على مسألتين صغيرتين فقط؟ ومع أنني لم أقصد توجيه أي انتقاد لها فقد التقطوا كلمتين أو ثلاثاً وردت في كتاب أو كتابين كتبتهما سابقاً وادّعوا بأنني أهاجم نظام الحكومة وأهاجم انقلابها. وأنا أسألكم الآن: هل يعقل إشغال البلد بطوله وعرضه ونشر جو من الخوف فيه لمجرد تناولي لمسألة علمية لا تتطلب إصدار أية عقوبة من جرائها مهما كانت صغيرة؟

إن القيام بإصدار عقوبة خفيفة وتافهة في حقي وفي حق بضعة أشخاص من أصدقائي ونشر دعايات مكثفة وشديدة ضدنا في عموم البلد، وإشاعة جو من الخوف والإرهاب بين الناس لكي ينفّروهم منا ويبغّضونا في أعينهم، وجلب وزير الداخلية «شكري قايا» قوة كبيرة إلى مدينة إسبارطة لتقوم بمهمةٍ يستطيع القيام بها جندي واحد -وهي القيام بإلقاء القبض علي وسجني- وقيام رئيس الوزراء عصمت «إينونو» بزيارة الولايات الشرقية بهذه المناسبة، وكذلك منعي من الحديث والتكلم شهرين كاملين في السجن وعدم السماح لأي أحد بالسؤال عن حالي أو إرسال تحية لي وأنا وحيد في هذه الغربة.. كل هذا يشير إلى وضع غريب جداً لا معنى له ولا حكمة فيه لا تليق بأية حكومة في الدنيا -علما بأن مصدر كلمة «الحكومة» هو تناول الأمور بالحكمة- وليس فقط بحكومة الجمهورية التي من المفروض أنها تراعي القوانين وتحترمها.

إنني أريد حفظ حقوقي في إطار القانون. كما أتهم كل من يخالف القانون ويدوس عليه باسم القانون بأنه يرتكب جناية، ولا شك أن قوانين حكومة الجمهورية ترفض أعمال هؤلاء الجناة، وآمل أن تعاد لي حقوقي».

سعيد النُّورْسِيّ

من داخل السجن

يروي المدعي العام لمحكمة الجزاء الكبرى في «أسكي شهر» سنة 1935: أنه يشاهد يوماً الأستاذ في السوق، فيندهش من حيرته، ويتصل بمدير السجن مباشرة ويهدده بقوله:

كيف سمحتم لبديع الزمان بالخروج إلى السوق، فقد شاهدته بنفسي في السوق؟ ويجيبه المدير: عفواً سيدي إن بديع الزمان في السجن ويمكنكم التفضل لرؤيته في السجن الانفرادي، ويأتي المدعي العام، ويزوران معاً الزنزانة، وإذا بالأستاذ هناك. تنتشر هذه الحادثة في دوائر العدل وتتناقلها الحكام فيما بينهم رغم أنهم لا يصدقونها بعقولهم!

وحادثة أخرى مشابهة يرويها مدير سجن «أسكي شهر» آنذاك وخلاصتها: يطرق سمعه صوت بديع الزمان طالباً الخروج من السجن إلى صلاة الجمعة في «آق جامع»، فيزور زنزانته وقت الصلاة، وإذا ببديع الزمان غير موجود، والحراس كلهم في مواضعهم والأقفال على الأبواب. يسرع المدير إلى الجامع المذكور فيرى الأستاذ في الصف الأول وعلى اليمين، فيبحث عنه عقب الصلاة فلا يجده، ويعود إلى السجن فوراً فيراه يقول «الله أكبر» ويستغرق في السجود.

وقد رُويت حَوادث أخرى من رؤية الأستاذ مراراً في صلاة الفجر جماعة عندما كان في سجن «دنيزلي». وهذه الأخبار كلها مروية عن مسؤولين كانوا يعادون الأستاذ وليست من محبيه..

نعم، فلقد شاهد المجاهدون في جبهات متعددة من الحرب عالِماً جليلاً فاضلاً. وذكروا له مشاهدتهم، فقال: إن بعض الأولياء قد ظهروا بمظهري وأدّوا بدلاً عنى في موضعي أعمالاً لأجل إكسابي ثواباً وليستفيد أهل الإيمان من دروسي.

ومثل هذا تماماً، فقد شاهدوني في جوامع «دنيزلي» وأنا نزيل سجنها، حتى أبلغوا ذلك إلى الجهات المسؤولة وإلى المدير والحرّاس، وقال بعضهم في قلق واضطراب: «من يفتح له باب السجن!» فالأمر نفسه يحدث هنا تماماً.

والحال أنه بدلاً من إسناد حادثة جزئية خارقة إلى شخصي المقصر جداً فإن رسالة «ختم التصديق الغيبي» تثبت خوارق لرسائل النور وتبينها كاسبةً ثقة أهل الإيمان برسائل النور أكثر بكثير من تلك الحادثة بمائة مرة بل بألف مرة. فضلاً عن تصديق أبطال النور بأحوالهم الخارقة وكتاباتهم الرائعة لمقبولية رسائل النور.

رسائل من سجن أسكي شهر

لطمة رحمة

«إخوتي! لقد أدركت أن التي نزلت بنا -مع الأسف- هي لطمة رحمة، أدركتها منذ حوالي ثلاثة أيام وبقناعة تامة. حتى إنني فهمت إشارة من الإشارات الكثيرة للآية الكريمة الواردة بحق العاصين لله، فهمتها كأنها متوجهة إلينا وتلك الآية الكريمة هي: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِه اَخَذْنَاهُمْ…﴾  أي لما نسي الذين ذُكّروا بالنصائح، ولم يعملوا بمقتضاها.. أخذناهم بالمصيبة والبلاء.

نعم، لقد كُتّبنا مؤخراً رسالة تخص سر «الإخلاص» وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً أخوياً نورانياً، بحيث إن الحوادث والمصائب التي لا يمكن الصمود تجاهها إلّا بعشرة آلاف شخص، يمكن مقاومتها -بسر ذلك الإخلاص- بعشرة أشخاص فقط. ولكن أقولها آسفاً: إننا لم نستطع وفي المقدمة أنا، أن نعمل بموجب ذلك التنبيه المعنوي، فأخذتنا هذه الآية الكريمة -بمعناها الإشاري- فابتلي قسم منا بلطمة تأديب ورحمة، بينما لم تكن لطمة تأديب لقسم آخر بل مدار سلوان لهم، وليكسبوا بها لأنفسهم الثواب.

نعم، إنني لكوني ممنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لم أستطع أن أطلع على أحوال إخواني إلّا منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر -مالا يخطر ببالي قط- ممن كنت أحسبهم من أخلص إخواني أعمالٌ منافية لسر الإخلاص. ففهمت من ذلك أن معنىً إشارياً للآية الكريمة ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِه اَخَذْنَاهُمْ…﴾ يتوجه إلينا من بعيد.

إن هذه الآية الكريمة التي نزلت بحق أهل الضلال مبعث عذاب لهم، وهي لطمة رحمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لم نقدر قيمة ما نملك من نعمة إلهية حق قدرها هو: أننا لم نقنع بخدمتنا القدسية برسائل النور المتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية، وهى مدار سر المشرب الذي تحلى به الصحابة الكرام. وأن الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الحاضر، واحتمال إلحاقها الضرر بوضعنا الحالي ممكن، قد سُدّ أمامه بتنبيهي الشديد عليه..

وإلّا لأفسد ذلك الهوى وحدتنا، وأدّى إلى تشتت الأفكار الذي ينـزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتحاد أربعة آحاد، ينـزلها إلى قيمة أربعة فحسب، ويؤدّى إلى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الحادثة الثقيلة ويجعلها أثراً بعد عين.

أورد الشيخ سعدي الشيرازي  صاحب كتاب «كلستان» ما مضمونه: لقد رأيت أحد المتقين من أهل القلب في زاوية -التكية- يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضي بضعة أيام شاهدته في المدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض بالأنوار وأتيت إلى هذه المدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع إنقاذهم لأنفسهم، بينما أولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وفّقوا إليها. فالنجابة وعلو الهمة لدى هؤلاء، والفضيلة والهمة عندهم، ولأجل هذا جئت إلى هنا. هكذا سجّل الشيخ سعدى خلاصة هذه الحادثة في كتابه «كلستان».

فلئن رُجّحت المسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصرا، نصروا.. على الأوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الحاوية على الحقائق الإيمانية المقدسة في «آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر». ففي الوقت الذي ترشد رسائل النور إلى تلك الحقائق بأوضح صورة وأكثرها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى المعاندين المكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تمرداً، وتلزمهم الحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل أو يعطّلها أو لا يقنع بها ويدخل الزوايا المغلقة دون استئذان من الرسائل تبعاً لهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لهذه الصفعة، صفعة الرحمة والتأديب.

لم نفقد شيئاً يُذكر

«إخوتي الأوفياء الأعزاء

كان فيما مضى مريدون كثيرون جداً ينتمون إلى شيخ جليل، في بلد من البلدان، فقلقت منهم رجالات الدولة فيها، خوفاً من تعرضهم لأمور السياسة، فأرادوا تشتيت جماعة الشيخ. فقال لهم: ليس لي إلّا مريد واحد ونصف مريد، لا غير، وإن شئتم نُقِم عليهم التجربة والاختبار.

نصب الشيخ خيمة في ضاحية من ضواحي المدينة، ودعا الألوف من مريديه إلى هناك ثم أمر بقوله: سوف أجري امتحاناً، فمن كان حقاً مريدي ويطعْ أمري فسيمضي إلى الجنة. فدعاهم إلى الخيمة واحداً إثر واحد، إلّا أنه ذبح خروفاً بطريقة خفية. وبدا للمريدين كأنه ذبح أحد مريديه الخواص وأرسله إلى الجنة. وما إن رأى ألوف المريدين جريان الدم من الخيمة إلى الخارج تراجعوا عنه ولم يسمعوا لأمره، بل رفضوه وأنكروا عليه، إلّا رجلاً واحداً قال: ليكن رأسي فداء له، فذهب إليه، ثم أعقبته امرأة. أما الآخرون فتفرقوا عنه. فقال ذلك الشيخ لرجال الدولة: ها قد شاهدتم أن لي مريداً ونصف مريد!

أما نحن فنشكره تعالى ألف شكر وشكر، إذ لم تفقد رسائل النور إلّا طالباً ونصف طالب في امتحان «أسكي شهر» ومحاكماتها، بخلاف ذلك الشيخ -في السابق- حيث انضم إلى الطلاب عشرة آلاف شخص بدلاً من الواحد والنصف الضائع، وذلك بفضل الله ثم همة وجهود أبطال «إسبارطة» وحواليها.

وبإذن الله لن يضيع الكثيرون في هذا الامتحان، بهمة أبطال شرقي البلاد وغربيها، بل نضم بدلاً من الضائع الواحد عشرة أشخاص».

تنبيه في حكاية صغيرة

«كانت لعجوز ثمانية أبناء، أعطت لكل منهم رغيفاً دون أن تستبقي لها شيئاً، ثم أرجع كل منهم نصف رغيفه إليها، فأصبح لديها أربعة أرغفة، بينما لدى كل منهم نصف رغيف.

إخوتي إنني أشعر في نفسي نصف ما يتألم به كل منكم من آلام معنوية وأنتم تبلغون أربعين، إنني لا أبالي بآلامي الشخصية. ولكن اضطررت يوماً فقلت: «أهذا عقاب لخطئي وأُعاقب به» فتحريت عن الحالات السابقة، فشاهدت أنه ليس لدي شيء من تهييج هذه المصيبة وإثارتها، بل كنت أتخذ منتهى الحذر لأتجنبها.

بمعنى أن هذه المصيبة قضاء إلهيّ نازل بنا.. فلقد دُبّرت ضدنا منذ سنة من قبل المفسدين، فما كان بطوقنا تجنبها، فلقد حمّلونا تبعاتها فلا مناص لنا مهما كنا نفعل.

فللّه الحمد والمنة أن هوّن من شدة المصيبة من المائة إلى الواحد.

وبناء على هذه الحقيقة، فلا تمنّوا عليّ بقولكم: إننا نعاقب بهذه المصيبة من جرائك. بل سامحوني وادعوا لي.

ولا ينتقدن بعضُكم بعضاً، ولا تقولوا: لو لم نفعل كذا لما حدث كذا.. فمثلاً: إن اعتراف أحد إخواننا عن عدد من أصحاب التواقيع «على الرسائل» أنقذ الكثيرين. فهوّن من شأن الخطة المرسومة في أذهان المفسدين الذين يستعظمون القضية. فليس في هذا ضرر، بل فيه نفع عام عظيم، لأنها أصبحت وسيلة لإنقاذ الكثيرين من الأبرياء.

فيا إخوتي! لا يستاء بعضكم من بعض قائلاً: إن أخي هذا لم ينصفني أو أجحف بحقي.. فهذا خطأ جسيم في هذه الحياة وفي اجتماعنا هذا. فلئن أضرك صاحبك بدرهم من الضرر، فانك باستيائك منه وهجرك إياه تلحق أربعين درهماً من الأضرار. بل يحتمل إلحاق أربعين ليرة من الأضرار برسائل النور. ولكن -ولله الحمد- فإن دفاعاتنا الحقة القوية والصائبة جداً قد حالت دون أخذ أصدقائنا إلى الاستجواب وأخذ إفاداتهم المكررة، فانقطع دابر الفساد. وإلّا لكان الاستياء الذي وقع بين الإخوة يلحق بنا أضراراً جسيمة. كسقوط قشة في العين أو سقوءط شرارة في البارود».

 ﴿وَلَا يَح۪يقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ اِلَّا بِاَهْلِه۪ۜ﴾ (الفاطر:43)

«إن أيدي إخواني الأبرياء المرفوعة إلى العلي القدير كأنها كانت تزود مدفعاً ثقيلاً بالعتاد، فصُوبت على الذين أرادوا الكيد بنا وانفلقت على رؤوسهم. ولم نُصَب بأذى إلّا بعض الجروح الطفيفة المورثة للثواب. فينبغي لنا الشكر والسرور والفرح حيث إن هذا المدفع كان يُزوّد من قبلهم منذ سنة. فنجاتنا بفضل الله خارقة. لذا لا تغدو الحياة الباقية ملكنا، لأن المفسدين قد خططوا لإنهاء حياتنا كلياً. بمعنى أن حياتنا -بعد اليوم- يجب أن نجعلها وقفاً للحق والحقيقة وليست لأنفسنا، ونسعى دوماً لرؤية وجه الرحمة وأثرها وذاتها في كل شيء فنظل شاكرين لا شاكين».

عدم هجر الرسائل

«إخوتي!

لقد دافعتُ دفاعات عديدة عن طلاب النور بما يليق بهم من دفاع، وسأقولها بإذن الله في المحكمة وبأعلى صوتي، وسأُسمع صوت رسائل النور ومنـزلة طلابها إلى الدنيا بأسرها. إلّا أنني أنبهكم إلى ما يأتي:

إن شرط الحفاظ على ما في دفاعي من قيمة، هو عدم هجر رسائل النور بمضايقات هذه الحادثة وأمثالها، وعدم استياء الأخ من أستاذه، وعدم النفور من إخوانه مما يسببه الضيق والضجر، وعدم تتبع عورات الآخرين وتقصيراتهم.

إنكم تذكرون ما أثبتناه في «رسالة القدر»: أن في الظلم النازل بالإنسان جهتين وحكمين.

الجهة الأولى: للإنسان. والأخرى: للقدر الإلهي

ففي الحادثة الواحدة يظلم الإنسان فيما يعدل القدر وهو العادل. فعلينا أن نفكر -في قضيتنا هذه- في عدالة القدر الإلهي والحكمة الإلهية أكثر مما نفكر في ظلم الإنسان.

نعم، إن القدر قد دعا طلاب النور إلى هذا المجلس. وإن حكمة ظهور الجهاد المعنوي قد ساقتهم إلى هذه المدرسة اليوسفية التي هي حقاً ضجرة وخانقة، فصار ظلم الإنسان وسيلة لذلك. ولهذا، إياكم أن يقول بعضكم لبعض: «لو لم تفعل كذا لما اعتُقلت»».

في الشاشة المعنوية

«كنت في أحد أيام عيد الجمهورية جالسا أمام شباك سجن «أسكي شهر» الذي يطل على مدرسة إعدادية للبنات.. وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفنائها ببهجة وسرور، فتراءت لي فجأةً على شاشة معنوية ما يؤول إليه حالهن بعد خمسين سنة. فرأيت: أن نحواً من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة يتحولن إلى تراب ويعذَّبن في القبر، وأن عشرة منهن قد تحولن إلى عجائز دميمات بلغن السبعين والثمانين من العمر، شاهت وجوههن وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام من نظرات التقزز والاستهجان من الذين كنّ يتوقعن منهم الإعجاب والحب، حيث لم يصنّ عفتهن أيام شبابهن!.. نعم، رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخناً أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فأسرعوا إليّ مستفسرين.

فقلت لهم: «دعوني الآن وحالي… انصرفوا عني..».

وعندما كنت أنظر من نافذة السجن، إلى ضحكات البشرية المبكية، في مهرجان الليل البهيج، أنظر إليها من خلال عدسة التفكر في المستقبل والقلق عليه، انكشف أمام نظر خيالي هذا الوضع، الذي أبينه:

مثلما تشاهَد في السينما أوضاع الحياة لمن هم الآن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت أمامي الجنائزَ المتحركة لمن سيكونون في المستقبل القريب من أصحاب القبور.. بكيت على أولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعور بالوحشة والألم وراجعت عقلي، وسألت عن الحقيقة قائلاً: ما هذا الخيال؟ فقالت الحقيقة: إن خمسة من كل خمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خمسين عاماً، وقد انحنت منهم الظهور وناهز العمر السبعين. والخمسة والأربعين الباقين يُرمون في القبور.

فتلك الوجوه الملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب إلى أضدادها. وحسب قاعدة «كل آتٍ قريب» فإن مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته إذاً ليس خيالاً.

فما دامت ضحكات الدنيا المتسمة بالغفلة مؤقتة ومعرضة للزوال، وهي تستر مثل هذه الأحوال المؤلمة المبكية. فلا بد أن ما يسرّ قلب الإنسان البائس العاشق للخلود، ويفرح روحه الولهان بعشق البقاء، هو ذلك اللهو البريء والمتعة النـزيهة وأفراح ومسرات تخلد بثوابه، ضمن نطاق الشرع، مع أداء الشكر باطمئنان القلب وحضوره بعيداً عن الغفلة. ولئلا تقوى الغفلة في النفوس في الأعياد، وتدفع الإنسان إلى الخروج عن دائرة الشرع، ورد في الأحاديث الشريفة ترغيب قوي وكثير في الشكر وذكر الله في تلك الأيام. وذلك لتنقلب نعم الفرح والسرور إلى شكر يديم تلك النعمة ويزيدها، إذ الشكر يزيد النعم ويزيل الغفلة.

تأليف الشعاع الأول

«في سجن «أسكي شهر» وفي وقت رهيب حيث كنا أحوج ما نكون إلى سلوان قدسي خطر على القلب ما يأتي:

إنك تبين شهوداً من كلام الأولياء السابقين على أحقية رسائل النور وقبولها بينما بمضمون الآية الكريمة ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُب۪ينٍ﴾ (الأنعام:59). فإن صاحب الكلام في هذه المسألة هو القرآن الكريم. فهل يقبل القرآن الكريم ويرضى بـرسائل النور؟ وكيف ينظر إليها؟

واجهتُ هذا السؤال العجيب، واستمددت من القرآن الكريم، وإذا بي أشعر في ظرف ساعة أن رسائل النور فردٌ داخل ضمنِ كليّةِ المعنى الإشاري الذي يمثل طبقة واحدة من طبقات التفرعات للمعنى الصريح لثلاث وثلاثين آية كريمة، وعرفتُ قرينة قوية على دخولها في ذلك المعنى وتخصيصها، فشاهدتُ قسماً منها بشيء من الوضوح وقسماً آخر مجملاً. فلم تبق في قناعتي أية شبهة وشك ووهم ووسوسة. وأنا بدوري دوّنتُ قناعتي القاطعة تلك وأعطيتها إخوتى الخواص على شرط سرّيّتها بنية الحفاظ على إيمان أهل الإيمان برسائل النور. فنحن لا نقول في تلك الرسالة: إن المعنى الصريح للآية الكريمة هو هذا، حتى يقول العلماء: فيه نظر! ولم نقل فيها: إن كلية المعنى الإشاري هي هذه. بل نقول: إن تحت المعنى الصريح للآية الكريمة طبقات متعددة من المعاني، إحدى هذه الطبقات هي المعنى الإشاري والرمزي. فهذا المعنى الإشاري أيضاً هو كليّ له جزئيات في كل عصر. فـرسائل النور فردٌ في هذا العصر من أفراد كلية طبقة المعنى الإشاري ذاك. وقد جرى بين العلماء منذ القدم دستور حساب الجُمّل والجفر -حساب الأبجدية- لإيجاد القرائن والحجج، فهذا الطرز من الحساب لا يخدش الآية الكريمة ولا يجرح معناها الصريح، بل قد يكون وسيلة لبيان إعجاز القرآن وعظمة بلاغته. فلا اعتراض على هذه الإشارات الغيبية، إذ الذي لا يستطيع إنكار ما لا يعد ولا يحصى من استخراجات أهل الحقيقة من الإشارات القرآنية التي لا تحصى، لا ينبغي له أن ينكر هذا بل لا يمكنه ذلك».


[1]  هذه لائحة لتصحيح الحكم الصادر بحقنا تقدم إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب ووزارة الداخلية ووزارة العدل، إن لم يرد النقض من محكمة التمييز. فلئن لم أتمكن من أن أسمع مصيبتي الحقة وحقي الجدير بالاهتمام هذه المراجع، يستوجب عليّ أن أودّع هذه الحياة، لأن سكوتي يعني تضييع ألوف الحقوق مع حقي الشخصي. (المؤلف)

[2]  يطلب سعيد القديم حق الكلام ويقول: لم تسمحوا لي بالكلام منذ ثلاث عشرة سنة، والآن يلزم كلامي معهم لأنهم يتهمونك بأخذهم إياي تحت النظر ويتوجسون منك خيفة؛ يلزم إظهار الأنانية -رغم أنها صفة ذميمة – تجاه الأنانية المغرورة العنيدة، ولكن بصورة حقة ودفاعاً عن النفس فحسب وحفاظاً عليها. لذا لا أتكلم مثل سعيد الجديد بالتواضع التام وإنكار الذات وبالقول اللين.. وأنا بدوري أعطيت له حق الكلام مع أنى لا أشترك في أنانيته وتمدّحه. (المؤلف)