سنة 1919م/1327هـ

معاناته مما لحقت بالأمة الإسلامية

عندما كان يُسأل عمّا يعانيه من آلام نتيجة المصائب والهزائم التي لحقت بالدولة العثمانية كان يجيب:

«إنني أستطيع أن أتحمل كل آلامي الشخصية، ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني. إنني أشعر بأن الطعنات التي وجّهت إلى العالم الإسلامي وجهت إلى قلبي أولاً، ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد، ولكني أرى نوراً سينسينا هذه الأيام الحالكة بإذن الله».

حوار في رؤيا

«كنت في أيلول سنة 1919 أتقلب في اضطراب شديد، من جراء اليأس البالغ الذي ولّدته حوادث الدهر. كنت أبحث عن نور بين هذه الظلمات المتكاثفة القاتمة.. لم أستطع أن أجده في يقظة هي رؤيا في منام. بل وجدته في رؤيا صادقة هي يقظةٌ في الحقيقة.

سأسجل هنا تلك النقاط التي استنطقتها وأُجريت على لساني من كلام، دون الخوض في التفاصيل. وهي كالآتي:

دخلتُ عالم المثال في ليلة من ليالي الجمعة. جاءني أحدهم وقال: يدعوك مجلس موقر مهيب منعقد لبحث مصير العالم الإسلامي، وما آلت إليه حاله.

فذهبت، ورأيت مجلساً منوراً قد حضره السلف الصالحون، وممثلون من العصور، من كل عصر ممثل.. لم أر مثيلهم في الدنيا.. فتهيبت، ووقفت في الباب تأدباً وإجلالاً.

قال أحدهم موجهاً كلامه لي: «يا رجل القدر!.. ويا رجل عصر النكبة والفتنة والهلاك!.. بيّن رأيك في هذا الموضوع. فإن لك فيه رأياً».

قلت وأنا واقف: «سلوني أُجبْ!»

قال أحدهم: «ماذا ترى في عاقبة هذه الهزيمة -التي آلت إليها الدولة العثمانية- وماذا كنتَ تتوقع أن يؤول إليه أمر الدولة العثمانية لو قُدِّر لها الانتصار؟».

قلت: «إن المصيبة ليست شراً محضاً، فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاء، مثلما قد تفضي السعادة إلى بلاء.. فهذه الدولة الإسلامية التي أخذت على عاتقها -سـابقاً- القيام بفريضة الجهاد -فرضاً كفائياً- حفاظاً على العالم الإسلامي وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء لأجله، وحملت راية الخلافة إعلاء لكلمة الله وذوداً عن استقلال العالم الإسلامي.. ستعوّض عما أصابها من مصيبة، وستزيلها السعادةُ التي سوف يرفل بها عالم الإسلام، إذ عجّلت هذه المصيبة بعث الأخوّة الإسلامية ونماءها في أرجاء العالم الإسلامي، تلك الأخوة التي هي جوهر حياتنا وروحنا، حتى إننا عندما كنا نتألم كان العالم الإسلامي يبكي، فلو أوغلت أوروبا في إيلامنا لصرخ العالم الإسلامي.

فلو متنا فسوف نموت عشرون مليوناً (من العثمانيين الأتراك) ولكن نُبعث ثلاثمائة (أي ثلاثمائة مليون من المسلمين).

نحن نعيش في عصر الخوارق. فبعد مضي سنتين أو ثلاث على موتنا سنُرى أحياءً يبعثون. لقد فقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائلة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلاً زاهراً فسيحاً بحال حاضرٍ جزئي متغير محدود، لا شك أنه رابح..

وإذا بصوت من المجلس: «بيِّنْ! وضّح ما تقول!»

قلت: «حروب الدول والأمم قد تخلت عن مواضعها لحروب الطبقات البشرية. والإنسان مثلما يرفض أن يكون أسيراً لا يرضى أن يكون أجيراً أيضاً. فلو كنا منتصرين غالبين، لكنا ننجذب إلى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك. علماً أن ذلك التيار -التيار الاستعماري الاستبدادي- تيار ظالم ومنافٍ لطبيعة العالم الإسلامي، ومباين لمصالح الأكثرية المطلقة من أهل الإيمان، فضلاً عن أن عمره قصير، ومعرّض للتمزق والتلاشي. ولو كنا متمسكين بذلك التيار لكنا نسوق العالم الإسلامي إلى ما ينافي طبيعته الفطرية. فهذه المدنية الخبيثـة التي لم نرَ منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتُها على حسناتها، تحكم عليها مصلحةُ الإنسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظةُ الإنسان وصحوته بالانقراض.

فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدارة المتوحشة معنىً في أرجاء آسيا».

قال أحدهم من المجلس: «لِمَ ترفض الشريعةُ هذه المدنية؟»([1])

قلت: «لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية؛ فنقطة استنادها هي القوة، وهذه شأنها الاعتداء، وهدفها وقصدها المنفعة، وهذه شأنها التزاحم، ودستورها في الحياة الجدال والصراع، وهذا شأنه التنازع، والرابطة التي تربط المجموعات البشـرية هي العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها التصادم، كما نراه، وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي تشجيع هوى المنفعة، وإثارة النفس الأمارة، وتطميـن رغباتها وتسهيل مطاليبها. وهذا الهوى شأنه إسقاط الإنسان من درجة الملائكية إلى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا يكون سبباً لمسخ الإنسان معنوياً.

فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم بظاهرهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئاب والدببة والحيات والقردة والخنازير.

ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمائة من البشرية إلى أحضان الشقاء وأخرجت عشرة بالمائة منها إلى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك، علماً أن السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية؛ بيد أن سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس.

لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.

ثم إنه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضرورية إلى ما يشبه الضرورية، إذ بينما كان الإنسان محتاجاً إلى أربعة أشياء في حياة البداوة والبساطة إذا به في هذه المدنية يحتاج إلى مائة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيراً مدقعاً.

ثم، لأن السعي والعمل لا يكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الإنسان إلى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام. وهكذا فسد أساس الأخلاق.

وبينما تعطي هذه المدنية للجماعة والنوع ثروة وغنى وبهرجة إذا بها تجعل الفرد فقيراً محتاجاً، فاسد الأخلاق.

ولقد قاءت هذه المدنية وحشية فاقت جميع القرون السابقة.

وإنه لجدير بالتأمل، استنكاف العالم الإسلامي من هذه المدنية، وعدم تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الإلهية التي هي الشريعة تعطي خاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين، ولا يمكن أن تطعّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا أن تمتـزج معها ولا يمكن أن تبلعها أو أن تتبعها. إن دهاء الرومان واليونان -أي حضارتيهما- وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الأحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية أو إدماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لا يقبلان الامتـزاج، بل إنهما يعيشان الآن بروحهما بأنماط متنوعة وأشكال مختلفة. فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والأسباب الداعية له، لم يمتـزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتـزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي أساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال أن يمتزجا أو يهضما معاً.

قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟

قلت: «أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشـاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً إيجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.

نعم، إن نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة، والحق من شأنه العدالة والتوازن. وهدفها الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنـها المحبة والتجاذب. وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشريةَ الرابطةُ الدينيةُ والوطنيةُ والمهنية بدلاً من العنصرية، وهذه شأنها الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب. ودستورها في الحياة التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاونُ من شأنه التساند والاتحاد. وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى رفع الإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحدّ من النـزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها إلى المعالي.

بمعنى أننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمائة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمائة.

إن بقاء العالم الإسلامي مستغنياً عن هذا التيار الثاني، أو معارضاً له، ظل دون مستند أو مرتكز، وهدر جميع مساعيه؛ فبدلاً من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصـر، كان عليه أن يتصرف تصرف  العاقل فيكيّف ذلك التيار إلى طراز إسلامي ويستخدمه. ذلك لأن عدو العدو صديق ما دام عدواً له، وصديق العدو عدو مادام صديقاً له.

إن هذين التيارين، أهدافهما متضادة، ومنافعهما متضادة، فلئن قال أحدهما: مت، لقال الآخر: ابعث. فنفعُ أحدهما يسلتزم ضررنا واختلافنا وتدنينا وضعفنا مثلما تقتضي منفعة الآخر قوتنا واتحادنا بالضرورة.

كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الإسلام وصحوته، وقد زالت وينبغي لها ذلك. أما خصومة الغرب فينبغي أن تدوم لأنها سبب مهم في تنامي الأخوّة الإسلامية ووحدتها».

وإذا بأمارات التصديق تتعالى من المجلس. فقالوا: «نعم، كونوا على أمل؛ إن أعظم صوت مدوّ في انقلابات المستقبل هو صوت الإسلام الهادر».

وسأل أحدهم أيضاً: «إن المصيبة نتيجة جناية، ومقدمة ثواب، فما الذي اقترفتم حتى حكم عليكم القدر الإلهي بـهذه المصيبة، إذ المصائب العامة تنـزل لأخطاء الأكثرية؟ وما ثوابكم العاجل؟»

قلت: «مقدمتها إهمالنا لثلاثة أركان من أركان الإسلام: الصلاة، الصوم، الزكاة؛ إذ طلب منا الخالق سبحانه ساعة واحدة فقط من أربع وعشرين ساعة لأداء الصلوات الخمس فتقاعسنا عنها، فجازانا بتدريب شاق دائم أربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات. أي أرغمنا على نوع من الصلاة.. وإنه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بنفوسنا، فعزّت علينا نفوسـنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا. وإنه سبحانه طلب منا الزكاة عُشـراً أو واحداً من أربعين جزءاً من ماله الذي أنعم به علينا، فبخلنا وظلمنا. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. فـ«الجزاء من جنس العمل».

أما ثوابنا العاجل، فرفعُه سبحانه وتعالى خُمس هذه الأمة المذنبة -أي أربعة ملايين منهم- إلى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين. فالمصيبة العامة الناشئة من خطأ العامة أزالت ذنوب الماضي».

فقال أحدهم أيضاً: «إن كان آمراً بخطأٍ ألقى الأمة إلى الهلاك؟»

قلت: «إن المصـاب يرجو الثواب؛ فإما أن تُعطى له حسنات الأمر الذي ارتكب الخطأ، وهي لا تعدّ شيئاً. أو تعطيه خزينة الغيب. وثوابه في مثل هذه الأمور من خزينة الغيب هي درجة الشهادة والمجاهدين».

رأيت أن المجلس قد استحسن هذا الكلام. وانتبهت من النوم من شدة انفعالي. ووجدت نفسي في الفراش مشبّكاً يديّ، يتصبب مني العرق.

وهكذا مضت تلك الليلة…

سكت في الحج في أثناء سرده الرؤيا، لأن إهمال الحج وإهمال ما ينطوي عليه من حكم لا يُنزل المصيبة وحدها بل يُنـزل غضب الله وقهر الجبار. وجزاؤه ليس كفارة الذنوب بل كثّارتها.

نعم، إن إهمال السياسة الإسلامية الرفيعة في الحج والمتضمنة توحيد الأفكار بالتعارف وتشريك المساعي بالتعاون هو الذي أدّى إلى تـهيئة الوسط الملائم للأعداء ليستخدموا ملايين المسلمين في العداء للإسلام.

فها هو الهندي جالس يبكي على رأس أبيه الذي قتله، ظناً منه أنه عدوّه.

وها هما التتار والقفقاس واقفان عند قدمي جثة ساعدا على قتلها.. وبعد فوات الأوان يدركان أنها والدتهما.

وها هم العرب قتلوا شقيقهم البطل خطأً، ومن حيرتـهم لا يعرفون كيف يبكون وينتحبون.

وهاهي إفريقيا قتلت أخاها دون علم به، والآن تصرخ وتولول.

وها هو العالم الإسلامي ساعد على قتل ولده المقدام غافلاً دون علم به، فهو يلطم وينفّش شعره كالوالدة الحنون.

فالملايين من المسلمين دُفعوا إلى سياحات طويلة في العالم، تحت لواء العدو الذي هو الشر المحض، بدلاً من شدّ الرحال إلى الحج وهو الخير المحض.

فاعتبِروا! كما أن الضرورات تبيح المحظورات، كذلك تسهّل المشكلات.

إن الدجاجة التي يضرب بها المثل في الخوف والجبن تهاجم الجاموس الضخم حفاظاً على فراخها.. فها هي الجسارة الفائقة.

وخوف العنـز من الذئب يضرب به المثل، إلّا أن خوفه ينقلب إلى دفاع ومقاومة في حالة الاضطرار حتى يقارع الذئب.. فها هي الشجاعة الخارقة.

نعم، إن الميل الفطري لا يُقاوَم؛ فغرفة من ماء لو وضعت في كرة من حديد لفتّت الماءُ الحديدَ كلما تعرض للبرودة في الشتاء، وذلك لميله إلى الانبساط والتمدد.

فجسارة الدجاجة الرؤوم على فراخها.. وشجاعة الاضطرار لدى العنز العزيزة النفس يمثلان هيجاناً فطرياً.. فمثل هذا الهيجان الفطري لو تعرض له ظلم الكافر البارد، لفتّـت كل شيء أمامه كالماء في كرة الحديد. (والقرويون الروس أمثلة شهود على هذا).

ومع هذا فإن الشهامة الخارقة التي تنطوي عليها ماهية الإيمان. والشجاعة التي تتحدى العالم الكامنة في طبيعة العزة الإسلامية يمكن أن تُظهر المعجزات في كل وقت وآن بانبساط الأخوّة الإسلامية وتوسعها.

ستشرق شمس الحقيقة يوماً

أ فيظل العالم في ظلام إلى الأبد؟».

سنة 1920م/1338هـ

نشر الخطوات الست لمقاومة الإنكليز

عندما بدأ القائد العام للجيش الإنكليزي الذي احتل إسطنبول ببذر بذور الخلاف بين المسلمين حتى خدع شيخ الإسلام وبعض العلماء الآخرين وجعل أحدهم يهاجم الآخر، ووسع الخلاف بين جماعة الاتحاديين وجماعة «الائتلاف» لكي يهيئ الجو لانتصار اليونانيين واندحار الحركة الملية الوطنية. قمت آنذاك بتأليف كتـابي «الخطوات الست» ضد الإنكليز وضد اليونانيين، وقام السيد «أشرف أديب» بطبعه ونشره، مما ساعد على إبطال مفعول الخطة الجهنمية لذلك القائد.

وما إن دخل القائد الإنكليزي إسطنبول حتى سُلّمت له رسالة «الخطوات الست» التي تـهاجمهم بعنف وتفنّد أباطيلهم وتشد من عزائم المسلمين.. وعُرض عليه نشاط
«بديع الزمان» الدائب في فضح سياسة المحتلين وتأليب الناس عليهم.

قرر القائد الإنكليزي إعدام الأستاذ النُّورْسِيّ، ولكن عندما أُعلم أن هذا القرار سيثير غضب الأمة كلها ويزيد سخطها، وسيدفعهم إلى القيام بأعمال عدائية مهما كلّفهم ذلك، تخلّى عن قرار الإعدام، إلّا أن سلطات الاحتلال لم تفتر عن ملاحقة الأستاذ.

ولما سمع قواد حركة التحرير في الأناضول بتأثير هذه الرسالة في أوساط العامة والخاصة، وعن أعمال «بديع الزمان» ضد المحتلين في إسطنبول دَعَوه إلى «أنقرة» مرتين تقديراً لأعماله البطولية وخدماته الجليلة نحو الأمة والبلاد، إلّا أن الأستاذ النُّورْسِيّ آثر البقاء في إسطنبول يجابه الأعداء مباشرة ورفض الدعوة قائلاً:

«إنني أريد أن أجاهد في أكثر الأماكن خطراً، وليس من وراء الخنادق، وأرى أن مكاني هنا أخطر من الأناضول».

سنة 1921م/1339هـ

جواب للكنيسة الإنكليكية

«وحينما احتل الإنكليز إسطنبول، ودمرّوا المدافع في المضيق في إسطنبول سأل في تلك الأيام رئيس أساقفة الكنيسة الإنكليكية من المشيخة الإسلامية ستة أسئلة، وكنت حينئذٍ عضواً في دار الحكمة الإسلامية فقالوا لي:

أجب عن أسئلتهم بستمائة كلمة كما يريدون.

قلت: إن جواب هذه الأسئلة ليس ستمائة كلمة ولا ست كلمات ولا كلمة واحدة، بل بصقة واحدة.

لأنه عندما داست تلك الدولة بأقدامها مضايقنا وأخذت بخناقنا كما ترون، ينبغي البصاق في وجه رئيس أساقفتهم إزاء أسئلته التي سألها بكل غرور.

ولهذا قلت: ابصقوا في وجوه الظلَمة التافهة.

وقد سأل ذات يوم قسيسٌ حاقد، السياسي الماكر، العدوّ الألدّ للإسلام، عن أربعة أمور طالباً الإجابة عنها في ستمائة كلمة. سألها بغية إثارة الشبهات، مستنكراً ومتعالياً، وبشماتة متناهية، وفي وقت عصيب حيث كانت دولته تشد على مضايقنا الخناق.

فينبغي الإجابة بـ«تباً لك!» تجاه شماتته، وبالسكوت عليه بسخط تجاه مكره ودسيسته، فضلاً عن جواب مسكت ينـزل به كالمطرقة تجاه إنكاره. فأنا لا أضعه موضع خطابي، بل أجوبتنا لمن يلقي السمع وينشد الحق وهي الآتية:

فلقد قال في السؤال الأول: ما دين محمد ﷺ؟

قلت: إنه القرآن الكريم. أساس قصده ترسيخ أركان الإيمان الستة وتعميق أركان الإسلام الخمسة.

ويقول في الثاني: ماذا قدّم للفكر وللحياة؟

قلت: التوحد للفكر، والاستقامة للحياة. وشاهدي في هذا قوله تعالى

﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ﴾، ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ﴾ (هود:112).

ويقول في الثالث: كيف يعالج الصراعات الحاضرة؟.

أقول: بتحريم الربا وفرض الزكـاة. وشاهـدي قوله تعالى:

﴿وَاَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبٰوا﴾ (البقرة:275) ﴿يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰوا﴾ (البقرة:276) ﴿وَاَقيموا الصّلاة وَاٰتُوا الزَّكٰوةَ﴾ (النور:56).

ويقول في الرابع: كيف ينظر إلى الاضطرابات البشرية؟

أقول: السعي هو الأساس، وألّا تتكدس ثروة الإنسان بيد الظالمين، ولا يكنـزوها. وشاهدي قوله تعالى:

﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى﴾ (النجم:39) ﴿وَالَّذ۪ينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبيل اللّٰهِۙ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَليمٍ (التوبة:34)».


[1]   إن قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة للبشرية التي أسدتها إلى البشرية، وليست سيئاتها وآثامها التي يلهث وراءها الحمقى ظناً منهم أن تلك السيئات حسنات حتى أوردونا الهلاك، ولقد تلقت البشرية صفعتين مريعتين وهما الحربان العالميتان من جراء ما طفحت به كفة سيئات المدنية على حسناتها وتغلبت آثامها على محاسنها حتى أبادتا تلك المدنية الآثمة فقاءت دماً لطخت به وجه الكرة الأرضية كله. نسأل الله أن تغلب بقوة الإسلام في المستقبل محاسن المدنية لتطهّر وجه الأرض من لوثاتها وتضمن السلام العام للبشرية قاطبة. (المؤلف)