الفصل الرابع في منفى بارلا

(المدرسة النورية الأولى)

1/3/1927 – 25/4/1935

ملامح هذه الفترة

هذه الفترة حافلة بالأحداث الجسام التي عصفت بتركيا فعاشت دوراً حالكاً جداً من الاستبداد المطلق والطغيان الغاشم والعداء الصريح الشرس للدين والسعي المتواصل لمحاولة إطفاء نور الله وإمحاء شريعته، تحت أسماء مزخرفة كالتمدن والتحضر.

استمر هذا الوضع المظلم مدة ربع قرن من الزمان -أي حتى سنة1950م- إذ دأبت السلطة الحاكمة آنذاك على قلب كل شيء وأن تغيّر كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، عقيدةً وتراثاً وعادات وتقاليد.. بل حتى الزي والملابس والأرقام وحروف الكتابة والأعياد وأيام العطل.. الخ.. فسنّت سلسلة من القوانين. ندرج فيما يأتي:

أهم الأحداث والإجراءات في الفترة (1922-1940)

سنة 1922

1/11/1922 إلغاء السلطنة العثمانية.

سنة 1923

24/8/1923 التوقيع على معاهدة لوزان.

29/10/1923 إعلان الجمهورية وانتخاب مصطفى كمال أول رئيس للجمهورية، واتخاذ أنقرة العاصمة.

سنة 1924

16/3/1924 قانون توحيد التدريسات (رقم 430 في 3 مارت 1340 رومي) وبموجبه أُلغي تدريس الدين وأُلحقت المدارس جميعها بوزارة المعارف. وأغلقت مدارس القرآن الكريم والدين.

3/3/1924 إلغاء الخلافة، وإخراج جميع أفراد العائلة العثمانية الحاكمة إلى خارج الحدود.

24/4/1924 إلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية والمحاكم الشـرعية. وإعادة النظر في دستور الدولة.

سنة 1925

13/2/1925 بداية اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران (البالوي).

21/2/1925 إعلان الأحكام العرفية في الولايات الشرقية.

4/3/1925 قانون إقرار السكون (قانون إقرار النظام في البلاد).

6-9/3/1925 غلق عشر من الصحف الصادرة بإسطنبول.

29/6/1925 إعدام الشيخ سعيد بيران وسبعة وأربعين من أعوانه وإغلاق جميع التكايا والزوايا في شرقي الأناضول.

25/7/1925 إلغاء التقويم الرومي المستعمل واستعمال التقويم الغريغوري الأوروبي واستعمال الأوقات حسب الساعات الزوالية (برقم 697، 698 ووضعه موضع التنفيذ اعتباراً من 1/1/1926).

24/8/1925 ظهور مصطفى كمال بالقبعة في قسطموني.

2/9/1925 غلق الأضرحة والمزارات، والقرار الوزاري برقم 2493 حول القيافة الدينية وما يلبسه الموظفون على رؤوسهم.

4/9/1925 اشتراك النساء المسلمات لأول مرة في حفلة رقص في منطقة تقسيم بإسطنبول.

8/12/1925 قانون القيافة (رقم 671 في 25/11/1341) ولبس القبعة وتكشّف النساء (إقرار الزي الأوروبي).

14/12/1925 قانون غلق جميع التكايا والزوايا في البلاد (برقم 677 في 30/11/1341 رومي) وإجبار موظفي المساجد بارتداء الزي الأوروبي والموظفين بلبس القبعة.

إلغاء الألقاب كالشيخ والخليفة والمريد.

سنة 1926

17/2/1926 إلغاء النكاح الإسلامي ووضع قانون النكاح المدني (برقم 743) وبموجبه: حرّم تعدد الزوجات وأُلغي المهر المفروض على الزوج، ومنع الزوج من حق الطلاق، وأصبحت البنت حرة في اختيار الزوج من أي دين كان، والتسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، وأُلغي نظام الإرث بالقرابة والتعصب…

16/5/1926 وفاة السلطان «محمد وحيد الدين» في مدينة «سان ريمو» الإيطالية.

4/10/1926 قبول القانون المدني الأوروبي -الذي هو عبارة عن الترجمة الحرفية للقانون السويسري وترجمة القانون الإيطالي- وعدّه قانون الجزاء التركي. وإلغاء القوانين الشرعية كافة.

4/10/1926 نصب تمثال مصطفى كمال في منطقة «سراي بورنو» بإسطنبول.

سنة 1927

20/5/1927 إزالة كل ما يمت إلى الدولة العثمانية من لوحات وطغراء في الدوائر الرسمية (رقم 1057).

4/11/1927 الاحتفال برفع الستارة عن تمثال «النصر» بأنقرة.

سنة 1928

3/2/1928 أول خطبة للجمعة بالتركية.

10/4/1928 إخراج كلمة «الله» من القَسَم الذي يؤديه رجال الدولة وإخراج جملةِ «دين الدولة الرسمي الإسلام» وجميع التعابير والاصطلاحات الدينية من الدستور باقتراح من عصمت إينونو ورفقائه، بقانون رقم 122.

24/5/1928 اتخاذ الأرقام الأوروبية بدل العربية بقانون رقم 1288.

1/11/1928 تقليص عدد موظفي المساجد من (2128) إلى (188) فقط.

1/11/1928 إقرار الحروف اللاتينية بدلاً من العربية المستعملة (بقانون رقم 1353) وبموجبه بيعت أطنانٌ من الوثائق والكتب القيمة بأزهد الأثمان وأطنانٌ منها أرسلت إلى مصانع الورق.

1/11/1928 إجبار الصحف ولوحات الأزقة والشوارع والمحلات على اتخاذ الحروف الجديدة.

30/12/1928 غلق (90) مسجداً في إسطنبول.

سنة 1929

1/9/1929 رفع الدروس العربية والفارسية من المدارس ووضع الحظر على قراءة القرآن وكذا الكتب الدينية وتنفيذ القرار بشدة.

وفي هذه الأثناء وضع الحظر على اسـتعمال الألقاب العثمانية كالباشا والأفندي وما شابه ذلك.

سنة 1930

24/3/1930 منح المرأة الحق في انتخابات البلديات.

23/12/1930 حادثة مَنمَن (وثورات في كل من آغري 1930 وموش ووادي زيلان 1931).

سنة 1931

3/2/1931 إعدام (28) شخصاً بحادثة منمن.

26/2/1931 قبول القياس المتري وتنفيذه اعتباراً من 1/4.

سنة 1932

22/1/1932 قراءة القرآن المترجم إلى التركية.

6/2/1932 خطبة الجمعة بالتركية في جامع السليمانية بإسطنبول.

19/2/1932 فتح مراكز بيوت الشعب في (19) ولاية.

20/6/1932 فتح (20) مركزا أيضاً في شتى أنحاء البلاد.

18/7/1932 فرض الأذان والإقامة بالتركية رسماً وحظرهما بالعربية. وطبع المصحف بالتركية.

1/8/1932 اشتراك تركيا في مسابقات الجمال.

سنة 1933

1/2/1933 حدوث ثورة في بورصة احتجاجاً على الأذان بالتركية.

7/2/1933 أصبح الأذان بالتركية نافذاً في جميع المساجد.

سنة 1934

5/11/1934 منح المرأة حق الانتخابات العامة.

26/11/1934 قانون رفع الألقاب (برقم 2590).

3/12/1934 منع ارتداء ملابس معينة (بقانون رقم 2596).

سنة 1935

2/1/1935 جعل يوم الأحد عطلة الأسبوع بدلاً من الجمعة.

1/2/1935 تحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف بعد إغلاقه مدة من الزمن وتحويل جامع الفاتح إلى مستودع كما صدر قرار بفرش المسـاجد بالكراسي واستخدام الآلة الموسيقية (الأورج) فيها حيث تتم تلاوة القرآن بمصاحبة الموسيقى، إلّا أنه لم ينفّذ.

سنة 1938

حادثة درسيم المشهورة.

سنة 1940

7/ 3/1940 تدريس الإلحاد رسمياً في معاهد القرى.

* * *

وضعتْ هذه القوانين واتخذت القرارات لقلع الإسلام من جذوره وإخماد جذوة الإيمان في قلب الأمة التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون من الزمان. فمُنع تدريس الدين في المدارس كافة، وبُدّلت الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحُرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وجرت محاولات ترجمة القرآن الكريم وسُعي لقراءة الترجمة في الصلوات. كما أُعلنت علمانية الدولة، فمُنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، إذ حُظر طبع الكتب الإسلامية، وأُرغم الناس على تغيير الزي إلى الزي الأوروبي، فالرجال أُرغموا على لبس القبعة والنساء على السفور والتكشف..

وشكّلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلّاء، ولكل من تُحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة.

فساد جو من الذعر والإرهاب في أرجاء البلاد، حتى أصبح الناس يخفون القرآن الكريم عن أنظار موظفي الدولة. ونشطت الصحافة في نشر الابتذال في الأخلاق والاستهزاء بالدين، فانتشرت كتب الإلحاد وحلت محل كلمات «الله، الرب، الخالق، الإسلام» كلمات «الطبيعة، التطور، القومية التركية..الخ».

وأخذ المعلمون والمدرسون يحاولون مسح كل أثر إيماني من قلوب الطلاب الصغار إذ أصبحوا يلقنونهم الفلسفة المادية وإنكار الخالق والنبوة والحشر. وسعت السلطة الحاكمة آنذاك بتسخير جميع إمكانياتها وأجهزتها وقوتها ومحاكمها إلى قطع كل الوشائج والعلاقات التي تربط هذه الأمة بدينها ونزع القرآن من قلوبهم،حتى إنها قررت جمع المصاحف من الناس وإتلافها، ولكن لما رأوا صعوبة في ذلك خططوا لكي ينشأ الجيل المقبل نشأة بعيدة عن الإيمان والإسلام فيتولى بنفسه إفناء القرآن.([1])

ومن سلسة محاربة الإسلام وملاحقة العلماء اعتقال الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ، وأخذه من صومعته في جبل «أرك» ونفيه إلى «بارلا»، وهي بلدة صغيرة نائية، لكي يخمد ذكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض. بيد أن الأستاذ النُّورْسِيّ بخلاف ما وضع له من خطة رهيبة، لم يترك دقيقة من وقته تمضي في فراغ، بل صرف حياته بدقائقها في سبيل أجلّ خدمة في الوجود، وهي خدمة القرآن والإيمان. فانكبّ على الاستفاضة من أنوار القرآن الكريم مستعصماً به حتى أفاض الله على قلبه من نور الآيات الحكيمة ما أفاض، فأسال منه سلسبيلاً من الرسائل سماها «رسائل النور» ونشرها سراً -بعيداً عن أنظار السلطة- بين محبيه فشفى بها بإذن الله الحيارى المحتاجين إلى الإيمان.

وهكذا شاء الله أن يحمل الراية في تلك الفترة الحالكة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ وقد قرر العمل لـ(إنقاذ الإيمان).. إنقاذ إيمان شعب كامل أصبح في حكم الأسير وصوبت سهام الكفر إليه من كل جانب لاغتيال الإيمان الراسخ في قلبه وأماتته موتاً لا حياة بعده.. وشاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه القرية الصغيرة «بارلا» مصدر إشعاع إسلامي أضاء فيما بعد أرجاء تركيا ووصل إشعاعه إلى كل قرية وكل ناحية وكل مدينة فيها».

فأقول ما يأتي تحدثاً بالنعمة ولله الحمد مائة ألف مرة:

إن جميع مضايقاتهم واستبداداتهم تصبح كالحطب لإشعال نار الهمة والغيرة، لتزيد أنوار القرآن سطوعاً؛ فتلك الأنوار القرآنية التي عوملت بالمضايقات انبسطت بحرارة الغيرة والهمة، حتى جعلت جميع الولاية بل أكثر المدن في حكم مدرسة، ولم تنحصر في «بارلا» وحدها.

وحسبوا أنهم قد حبسوني في قرية، إلّا أن تلك القرية «بارلا» -وأنف الزندقة راغم- قد أصبحت كرسي الدرس بفضل الله وبخلاف مأمولهم، بل أصبح كثير من الأماكن كـ«إسبارطة» في عداد المدارس.

في «بارلا»

وصل الأستاذ سعيد النُّورْسِيّ إلى منفاه «بارلا» من أعمال «إسبارطة» في غربي الأناضول في 1/3/1927  حيث قضى الليلة الأولى في مخفر الشرطة، ثم خصص لإقامته بيت صغير يتألف من غرفتين ويطلّ على مروج «بارلا»، وبساتينها الممتدة إلى بحيرة «أغريدير» العذبة، أمامها شجرة الدلب العالية.

صنع أحد النجارين غُرفة خشبية مكشوفة صغيرة وضعت بين أغصانها. فكان الأستاذ يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف متعبداً لله، ومتأملاً ومتفكراً حتى انبلاج الصباح في معظم الأحيان، فلا يعرف أهالي «بارلا» متى ينام الأستاذ ومتى يستيقظ! ولا يمر أحد قرب تلك الشجرة في سكون الليل إلّا ويسمع هَمْهمة العالم المُتعبّد المتهجد.

كان الأستاذ معتل الصحّة دائماً وكان قليل الإقبال على الطعام، بل يمكن القول بأنه قضى عمره كله وهو نصف شبعان ونصف جائع، إذ كان يقضي يومه الكامل بإناء صغير من الحساء مع كسرات من الخبز، ويأتيه طعامه من بيت أحد الجيران، وكان يدفع ثمن الطعام دائماً وبإصرار، إذ كان شعاره الذي طبّقه طوال حياته هو ألّا يأخذ شيئاً من أحد دون مقابل، وقضى حياته كلها بالاقتصاد والبركة وعلى ما ادّخره سابقاً من الليرات.

كانت عيون السُلطة تترصّدُ الأستاذ وتُراقب حركاته وسكناته لذا كان الأهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي أكثر وقته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل «ﭼام». ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الأشجار متأملاً ومتعبداً.([2])

من ذكريات «بارلا»

المضايقات تتوالى

«كنت فيها «بارلا» كلما أصابني الفتور في العمل للقرآن واستولى عليَّ التفكير بخاصةِ نفسي وإصلاح آخرتي، كان أحد ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليَّ، وأحد المنافقين يتعرض لي. وأنا على استعداد الآن أن أسرد على مسامعكم ثمانين حادثة من هذا النوع خلال ثماني سنوات قضيتُها في «بارلا»».

نماذج من تلك المضايقات

«ولقد حدثت في الفترة الأخيرة اعتداءات شنيعة كثيرة على حقوق المؤمنين الضعفاء، من قبل الملحدين المتخفين وراء الأستار، وأخص بالذكر اعتداءهم عليّ تعدياً صارخاً، باقتحامهم مسجدي الخاص الذي عمّرته بنفسي، وكنا فيه مع ثلة من رفقائي الأعزاء، نؤدي العبادة، ونرفع الأذان والإقامة سراً. فقيل لنا: لِمَ تقيمون الصلاة باللغة العربية وترفعون الأذان سراً؟

نفد صبري في السكوت عليهم، وها أنذا لا أخاطب هؤلاء السفلة الدنيئين الذين حُرموا من الضمير، وليسوا أهلاً للخطاب، بل أخاطب أولئك الرؤساء المتفرعنين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهواء طغيانهم…»

«إنه بتحريض من معلم فاقد للضمير وبمشاركته، أصدر المسؤول أمراً للدرك: «اجلبوا أولئك الضيوف»، ونحن في أذكار الصلاة في المسجد، والغاية من هذا التصرف هو إغضابي ولأقابلهم بالرفض والطرد -بأحاسيس سعيد القديم- إزاء هذا التصرف الاعتباطي غير القانوني.

ولم يدر ذلك الشقي أن سعيداً لا يدافع بعصا مكسورة في يده، وفي لسانه سيف ألماسي من مصنع القرآن الحكيم. بل يستعمل ذلك السيف. بيد أن أفراد الدرك كانوا رزينين راشدين، فانتظروا إلى اختتام الصلاة والأذكار -حيث لا تتدخل أية حكومة أو دولة في الصلاة وفي المسجد ما لم ينته أداء الصلوات والأذكار- فغضب المسؤول عن عملهم هذا وأرسل عقبهم الحارس قائلاً: إن الدرك لا يطيعونني!

ولكن الله سبحانه وتعالى لا يُشغلني بمثل هذه الحيّات. وأُوصي إخواني بأن لا تنشغلوا بهؤلاء ما لم تكن هناك ضرورة قاطعة، بل ترفّعوا عن التكلم معهم، حيث «جواب الأحمق السكوت».. ولكن انتبهوا إلى هذه النقطة:

كما إن إظهار نفسك ضعيفاً تجاه حيوان مفترس يشجعه على الهجوم عليك، كذلك إظهار الضعف بالتزلف إلى مَن يحمل طباع الحيوان المفترس يسوقه إلى الاعتداء.

لذا ينبغي للأصدقاء أن يتصرفوا بحذر لئلا يَستغل الموالون للزندقة عدم مبالاتهم وغفلتهم».

أنواع الظلم يحوّلها المولى إلى أنواع من الفضل

«إنني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه، إذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا إلى أنواع من الفضل والرحمة. وإليكم البيان:

بينما كنت منعزلاً في مغارة أحد الجبال، وقد طلّقت السياسة وتجردت عن الدنيا منشغلاً بأمور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلماً وعدواناً. فجعل الخالق الرحيم الحكيم هذا النفي لي رحمة، إذ حوّل ذلك الانزواء في الجبل الذي كان معرّضاً لعوامل تخل بالإخلاص والأمان، إلى خلوة في جبال «بارلا» يحيط بها الأمن والاطمئنان والإخلاص. وقد عزمت عندما كنت أسيراً في روسيا ورجوت الله أن أنزوي في أواخر عمري في مغارة، فجعل أرحم الراحمين «بارلا» في مقام تلك المغارة ويسّر لي فائدتها ولم يحمّل كاهلي الضعيف متاعب المغارة وصعوباتها إلّا ما أصابتني من مضايقات بسبب أوهام وريوب كان يحملها بضعة أشخاص فيها، فهؤلاء الذين كانوا أصدقائي -وقد ركبتهم الأوهام ظناً منهم أنهم يعملون لصالحي ولراحتي- إلّا أنهم بأوهامهم هذه قد جلبوا الضيق على قلبي والضرر على خدمة القرآن. وعلى الرغم من أن أهل الدنيا أعطوا للمنفيين جميعاً وثائق العودة وأخلوا سبيل المجرمين من السجون وعفوا عنهم، فقد منعوا الوثيقة عني ظلماً وجوراً، ولكن ربي الرحيم شاء أن يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر وليجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية التي سميتها «الكلمات» أكثر فأكثر، فأبقاني في هذه الغربة بلا ضجة ولا ضوضاء، وحوّلها إلى رحمة سابغة.

ومع أن أهل الدنيا سمحوا لذوي النفوذ والشيوخ ولرؤساء العشائر «من المنفيين» -الذين يمكنهم المداخلة في دنياهم- بالبقاء في الأقضية والمدن الكبيرة وسمحوا لأقاربهم ولجميع معارفهم بزيارتهم، فإنهم فرضوا عليّ حياة العزلة ظلماً وعدواناً وأرسلوني إلى قرية صغيرة، ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي -باستثناء واحد أو اثنين- بزيارتي. فقلَب خالقي الرحيم هذه العزلة إلى رحمة غامرة بالنسبة لي، إذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه.

ثم إن أهل الدنيا استكثروا عليّ في البدء حتى كتابة رسالة أو رسالتين اعتياديتين في مدة سنتين كاملتين، بل إنهم حتى اليوم لا يرتاحون عندما يحضر لزيارتي ضيف أو ضيفان مرة كل عشرة أيام أو كل عشرين يوماً أو كل شهر، مع أن غرض الزيارة هو ثواب الآخرة ليس إلّا. فارتكَبوا الظلم في حقي، ولكن ربي الرحيم وخالقي الحكيم بدّل لي ذلك الظلم إلى رحمة، إذ أدخلني في خلوة مرغوبة وعزلة مقبولة في هذه الشهور الثلاثة التي يكسب المرء فيها تسعين سنة من حياة معنوية. فالحمد لله على كل حال.

وجاء الإيمان بالله لنجدتي

«حينما كنت في منفاي ذلك الأسر الأليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل «جام» المطلة على مراعي «بارلا».. كنت أبحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع، إذا بشيخوختي تشعرني بألوان وأنواع من الغربة المتداخلة.. ففي سكون تلك الليلة حيث لا أثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الحزين لحفيف الأشجار وهمهمتها.. أحسست بأن ذلك الصدى الأليم قد أصاب صميم مشاعري، ومس أعماق شيخوختي وغربتي، فهمَست الشيخوخةُ في أذني منذرةً:

«إن النهار قد تبدل إلى هذا القبر الحالك، ولبست الدنيا كفنها الأسود، فسوف يتبدل نهار عمرك إلى ليل، وسوف ينقلب نهار الدنيا إلى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الحياة إلى ليل شتاء الموت».

فأجابتها نفسي على مضض: «نعم، كما أنني غريبة هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فإن مفارقتي لأحبائي الكثيرين خلال عمري الذي ناهز الخمسين ولا أملك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي عن موطني.. وإني لأشعر في هذه الليلة غربة أكثر حزناً وأشد ألماً من غربتي على هذا الجبل الذي توشح بالغربة والحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراق نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة المكتنفة بالحزن، ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأتُ أبحث عن نور، وعن قبس أمل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء «الإيمان بالله» لنجدتي ولشد أزري، ومنحني أنساً عظيماً بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافاً مضاعفة لكان ذلك الأُنس كافياً لإزالتها.

نعم، أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز!.. فما دام لنا خالق رحيم، فلا غربة لنا إذن أبداً.. وما دام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود إذن، وما دام هو موجوداً وملائكته موجودة، فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحارى المقفرة كلها عامرة ومأهولة بعباد الله المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، إن نور الإيمان بالله سبحانه، والنظرة إلى الكون لأجله، يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يمكن لتلك الموجـودات أن تتكلم معنا -بلسان الحال- بما يسلينا ويروّح عنا».

ألوان من الاغتراب

«بقيت منذ شهرين أو ثلاثة وحيداً فريداً، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوماً أو ما يقرب من ذلك، فأظل وحيداً في سائر الأوقات. ومنذ ما يقرب من عشرين يوماً ليس حولي أحد من أهل الجبل، فلقد تفرقوا.

ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخى الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى، إلّا حفيف الأشجار الحزين.. رأيتني وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة؛ إني بقيت وحيداً غريباً عن جميع أقراني وأحبابي وأقاربي، بما أخذت الشيخوخة مني مأخذاً، فشعرت بغربة حزينة من جراء تركهم لي ورحيلهم إلى عالم البرزخ.

ومن هذه الغربة انفتحت دائرة غربة أخرى، وهي أنني شعرت بغربة مشوبة بألم الفراق حيث تركتني أكثر الموجودات التي أتعلق بها كالربيع الماضي.

ومن خلال هذه الغربة انفتحت دائرة غربة أخرى، وهي الغربة عن موطني وأقاربي، فشعرت بغربة مفعمة بألم الفراق، إذ بقيت وحيداً بعيداً عنهم.

ومن خلال هذه الغربة ألقت عليّ أوضاع الليل البهيم والجبال الشاخصة أمامي غربة فيها من الحزن المشوب بالعطف ما أشعرني أن ميدان غربة أخرى انفتحت أمام روحي المشرفة على الرحيل عن هذا المضيف الفاني متوجهة نحو أبد الآباد، فضمتني غربة غير معتادة، وأخذني التفكير، فقلت فجأة: سبحان الله! وفكرت كيف يمكن أن تقاوم كل هذه الظلمات المتراكبة وأنواع الغربة المتداخلة!. فاستغاث قلبي قائلاً: يا رب! أنا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي، فأقول: الغوث الغوث. أرجو العفو، وأستمد القوة من بابك يا إلهي!.

وإذا بنور الإيمان وفيض القرآن ولطف الرحمن يمدّني من القوة ما يحول تلك الأنواع الخمسة من الغربة المظلمة، إلى خمس دوائر نورانية من دوائر الأُنس والسرور. فبدأ لساني يردد: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ﴾ (آل عمران:173) وتلا قلبي الآية الكريمة: ﴿فَاِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُۘ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَۜ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظ۪يمِ﴾ (التوبة:129).

وخاطب عقلي كذلك نفسي القلقة المضطربة المستغيثة قائلاً:

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على اللّه في بلواك.

إنما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام في بلاء.

إذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء، ووفاء في بلاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل؛ فالأزهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

فبغير اللّه دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وأنت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول…»


[1]  وما أصدق أخانا أديب إبراهيم الدباغ في كتابه: «سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان» إذ يقول: «تُرى أي مصير رهيب كان ينتظر تركيا، لو لم يقيض الله سبحانه وتعالى لها هذا الرجل، في وقت بدأت فيه فؤوس الحقد، ومعاول الهدم تعمل على زلزلة الإيمان وتقويض بنيانه ومسح آثاره من البلاد.. ويتراءى لنا طيف «الأندلس» شاحباً باكياً وقد انحسر عنه الإسلام وغادره إلى غير رجعة..»

[2]      T.Hayat, Barla hayatı

       «خرج الأستاذ أحد أيام الصيف من بيته متوجهاً إلى الجبل كعادته.. كان الجو صحواً والشمس مشرقة وما إن وصل إلى قمة الجبل حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء منذرة باقتراب عاصفة.. وفعلاً ما لبثت السماء أن أرعدت وأبرقت وبدأت الأمطار تسقط بغزارة.. كان الأستاذ وحيداً على قمة الجبل ليس له من ملجأ يتقي به سَيلَ المطر المُنْهَمر سوى الأشجار التي لم تكن هي الأخرى كافية لتمنع عنه البَلل، وبعد مدة ليست بالقصيرة خفت شدة المطر وأخذ ينـزل رذاذاً، وانتهز الأستاذ الفرصة وقفل راجعاً إلى البلدة، وقد تبلّل من رأسه إلى أخمص قدميه، وفي الطريق تمزق حذاءه، فدخل البلدة وهو يَحمل حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء.

       وهناك بالقرب من نبع الماء كان جمع من أهالي «بارلا» مجتمعين يتحدثون، شاهدوا هذا المنظر المؤثر، منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه.. الوحيد.. المقاطع من قبل الجميع، وهو يحمل حذاءه الممزق بيده، ويغوص في الطين بجواربه، وقد تلطخت أطراف ثيابه بالطين. خيّم سكون ثقيل على الجميع وتجاذبت الكثيرين عاطفتان مختلفتان، عاطفة الإسراع لمد يد المساعدة إليه، وعاطفة الخوف من عيون السلطة المترصدة لكل حركة من حركاته، وأخيراً يندفع من بين الجمع شخص اسمه «سليمان» ويصل إليه حيث يأخذ الحذاء من يده ويغسله في الحوض ثم يرافقه حتى منـزله ويصعد معه إلى غرفته.ويصبح (سليمان كروانجي) هذا أول صديق له ويتتلمذ على يديه ويقوم بخدمته ثماني سنوات في بارلا. وكان مثالاً للصدق والوفاء والإخلاص. توفي في سنة 1965 رحمه الله رحمة واسعة». ذكريات عن سعيد النورسي ص32 (ش)  277.