سلوان من القرآن بوفاة عبد الرحمن

«بينما كنت وحيداً بلا معين في بارلا تلك الناحية التابعة لمحافظة «إسبارطة» أعاني الأسر المعذّب المسمى بالنفي، ممنوعاً من الاختلاط بالناس، بل حتى من المراسلة مع أي كان، فوق ما كنت فيه من المرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت أضطرب من هذه الحالة وأقاسي الحزن المرير إذا بنور مسلٍّ يشعّ من الأسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الحق سبحانه به علىَّ برحمته الكاملة الواسعة، فكنت أعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما أنا فيه من الحالة المؤلمة المحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي وأحبتي وأقاربي.. ولكن -يا حسرتاه- لم أتمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو ابن أخي، بل ابني المعنوي، وتلميذي المخلص وصديقي الشجاع عبد الرحمن تغمده الله برحمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات، ولا أعلم حاله كي أراسله وأتحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لخدمتي وتسليتي. نعم، لقد كنت في أمسّ الحاجة -ولاسيّما في الشيخوخة هذه- إلى من هو مثل عبد الرحمن.. ذلك الفدائي الصادق.. وذات يوم وفجأة سلمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيّن لي أنها رسالة تظهر شخصية عبدالرحمن تماماً وقد أدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات المكتوب السابع والعشرين بما يظهر ثلاث كرامات واضحة.

لقد أبكتني تلك الرسالة كثيراً ولا تزال تبكيني، حيث يبيّن فيها عبدالرحمن بكل صدق وجدّ أنه قد عزف عزوفاً تاماً عن الأذواق الدنيوية وعن لذائذها، وأن أقصى ما يتمناه هو الوصول إلى ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت أرعاه في صغره، وأن يساعدني بقلمه السيّال في وظيفتي ومهمّتي الحقيقية في الدنيا، وهي نشر أسرار القرآن الكريم، حتى إنه كان يقول في رسالته: «ابعث إليّ ما يقرب من ثلاثين رسالة كي أكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة».

لقد شدتني هذه الرسالة إلى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي المخلص الشجاع، ذا الذكاء الخارق، وذا الوفاء الخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الحقيقي وارتباطه بوالده، فسوف يقوم -بإذن الله- برعايتي وخدمتي، بل حتى إنني بهذا الأمل نسيت ما كنت فيه من الأسر المؤلم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! وكأن عبدالرحمن قد كتب تلك الرسالة بإيمان في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، إذ استطاع أن يحصل على نسخة مطبوعة من الكلمة العاشرة التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمّدت جميع جراحاته المعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.

وبعد مضي حوالي شهرين وأنا أعيش في ذلك الأمل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. إذا بي أفاجأ بنبأ وفاته، فيا أسفاه.. ويا حسرتاه.. لقد هزّني هذا الخبر هزاً عنيفاً، حتى إنني لا أزال تحت تأثيره منذ خمس سنوات، وأورثني حزناً شديداً وألماً عميقاً للفراق المؤلم يفوق ما كنت أعانيه من ألم الأسر المعذِّب وألم الانفراد والغربة الموحشة وألم الشيخوخة والمرض.

كنت أقول: إن نصف دنياي الخاصة قد انهدَّ بوفاة أمي، بيد أنى رأيت أن النصف الآخر قد توفي أيضاً بوفاة عبد الرحمن، فلم تبق لي إذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان عبدالرحمن يظل معي في الدنيا لأصبح محوراً تدور حوله وظيفتي الأخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي، ولحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات أذكى تلميذ لـرسائل النور، والأمين المخلص المحافظ عليها.. فضياعٌ مثلُ هذا الضياع -باعتبار الإنسانية- لهو ضياع محرق مؤلم لأمثالي. ورغم أنني كنت أبذل الوسع لأتصبّر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام إلّا أنه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض علىّ أحياناً لما كان لمثلي أن يتحمل ويثبت.

كنت أذهب وأسرح في وديان بارلا وأجول في جبالها وحيداً منفرداً وأجلس في أماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام المحزنة، فكانت تمر من أمامي لوحات الحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي -أمثال عبد الرحمن- كالفلم السينمائي. فكلما مرّت تلك اللوحات أمام خيالي، سلبتْ من شدة مقاومتي وفتّت في عضدي، سرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.

ولكن على حين غرّة انكشف سرّ الآية الكريمة ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُۜ لَهُ الْحُكْمُ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص:88). انكشافاً بيّناً بحيث جعلني أردّد: ياباقي أنت الباقي، ياباقي أنت الباقي.. وبه أخذت السلوان الحقيقي.

أجل، رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرت إليها في رسالة «مرقاة السنّة»:

الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمسةً وخمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة.

الثانية: رأيت نفسي كالكائن الحي الصغير جداً -كالنملة- يدب على وجه هذا العصر الذي هو بمثابة شاهد قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام.

أما الثالثة: فقد تجسّمت أمام خيالي -بسرّ هذه الآية الكريمة- موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يموت الإنسان.. وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿فَاِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّٰهُۘ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَۜ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظ۪يمِ﴾ (التوبة:129) وأمدني بنور لا يخبو، فبدد ما كنت أعانيه من الحزن النابع من وفاة عبد الرحمن واهباً لي التسريَ والتسلي الحقيقي.

نعم، لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث إن تجلياً واحداً من تجليات عنايته سبحانه يعدل العالم كله، وإن تجلياً من تجليات نوره العميم يمنح تلك الجنائز الثلاث حياة معنوية أيما حياة، بحيث تظهر أنها ليست جنائز، بل ممن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر.

ولما كنا قد أوضحنا هذا السرّ والحكمة في «اللمعة الثالثة» أراني هنا في غير حاجة إلى مزيدٍ من التوضيح، إلّا أنني أقول:

إن الذي نجّاني من تلك الحالة المحزنة المؤلمة، تكراري لـ«ياباقي أنت الباقي.. ياباقي أنت الباقي» مرتين والذي هو معنى الآية الكريمة ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ﴾ وتوضيح ذلك:

إنني عندما قلت: «ياباقي أنت الباقي» للمرة الأولى، بدأ التداوي والضماد بما يشبه العمليات الجراحية على تلك الجروح المعنوية غير المحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَنْ فيها من الأحبّة -من أمثال عبدالرحمن- والمتولدة من انفراط عقد الروابط التي أرتبط بها معهم.

أما في المرة الثانية فقد أصبحت جملة «ياباقي أنت الباقي» مرهماً لجميع تلك الجروح المعنوية، بلسماً شافياً لها، وذلك بالتأمل في المعنى الآتي:

ليرحل مَن يرحل يا إلهي فأنت الباقي وأنت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تجليات رحمتك كافٍ لكل شيء يزول، وما دمتَ موجوداً فكل شيء إذن موجود لمن يدرك معنى انتسابه إليك بالإيمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الموت والعدم إلّا ستائر للتجديد، وإلّا وسيلة للتجول في منازل مختلفة والسير فيها.. فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الحالة الروحية المحرقة الحزينة، وتلك الحالة المظلمة المرعبة إلى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، وإلى حالة منورة محبوبة مؤنسة. فأصبح لساني وقلبي بل كل ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الحال قائلاً: «الحمد لله».

نماذج من التفكر في آيات الكون

«بينما كنت على قمة جبل في «بارلا» أيام منفاي، أسرح النظرَ في أشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمَّلُ في هيبة أوضاعها وروعة أشكالها وصورها.

إذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع إلى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. وإذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عِبَراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ«أحمد الجزري»:

هَرْكَسْ بِتَمَاشَا.. حُسْنَاتَه زِهَرْ جَاى تَشْبِيهِ… رَانْ بِـجَمَالَاتَه دِنَازِنْ

أيْ لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، إنّهم بجمالك يتغنجون ويتدللون.

وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:

ياَ رَب! هَرْ حَىْ بِتَمَاشَاكه صُنْعِ تُو زِهَرْ جَاى بَتَازِى

يا رب! إنَّ كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً إلى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.

زِنَشِيبُ اَزْ فِرَازِى مَانَنْدِ دَلَالَانْ بِنِدَاءِ بِآوَازِى

فهم كالدعاة الأدلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى إلى جمالك…

[إلى أن يقول:]

«رُوحَه» مِي آيَدْ اَزُو زَمْزَمَهءِ نَازُو نِيَازِى

أمَّا الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:

إنَّ الأشياء تتوجه إلى تجليات أسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.

قَلْب مِي خَوانْد أزِينْ آيَاتْهَا  سِرِّ تَوْحِيدْ زِعُلُوِّ نَظْمِ إِعْجَازِى

أمَّا القلب فإنه يقرأُ من النظم الرفيع لهذا الإعجاز سر التوحيد في هذه الأشجار كأنها آيات مجسمات.

أيْ إنَّ في خلق كل منها من خوارق النظام وإبداع الصنعة وإعجاز الحكمة ما لو اتحدت أسباب الكون كلُّها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.

نَفْس مِي خَواهَدْ دَرْ إِينْ وَلْوَلَهَا، زَلْزَلَهَا ذَوْقِ بَاقِى دَرْ فَنَاىِ دُنْيَا بَازِى

أمَّا النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للأشجار، رأتْ كأنَّ الوجودَ يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: «إنَّكِ ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا».

عَقْل مِى بــينَدْ أزِينْ زَمْزَمَهَا.. دَمْدَمَهَا نَظْمِ خِلْقَتْ، نَقْشِ حِكْمَتْ، كَـنْزِ رَازِى

أمَّا العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الأشجار والحيوانات معاً، ومن أنداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم أنَّ كلَّ شيء يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.

آرْزُو مِيدَارَدْ هَوَا أزِينْ هَمْهَمَهَا.. هُوهُوَهَا  مَرْ خُودْ دَرْ تَرْ أذْوَاقِ مَجَازِى

أمَّا هوى النفس، فإنَّه يلتذ ويستمتع من حفيف الأشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيه الأذواق المجازية كلها، حتى إنَّه يريد أنْ يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.

خَيَالْ بِينَدْ أزِينْ أشْجَارْ  مَلَائک رَا جَسَدْ آمَدْ  سَمَاوِى، بَاهَزَارَانْ نَىْ

أمَّا الخيال فإنّه يرى كأنَّ الملائكة الموكلين بهذه الأشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بأنواع كثيرة. وكأنَّ السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف أنغام الناي، كي تُظهِر تلك الأشجار أوضاع الشكر والإمتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.

أزِينْ نَيْهَا شُنِيدَتْ هُوشْ سِتَايِشْهَاىِ ذَاتِ حَىْ

فتلك النايات مؤثرة الأنغام صافيتها، إذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنَّها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم «مولانا جلال الدين الرومي» بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم إلى الحي القيوم.

وَرَقْهَارَا زَبَانْ دَارَنْدَ هَمَه «هُو هُو» ذِكْرآرَنْد  بَه دَرْ مَعْنَاىِ: حَىُّ حَىْ

وإذْ صارت الأشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الألسنة ذكر الله بـ«هو.. هو..» بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته إلى صانعه الحي القيوم.

جُو «لَا اِلٰهَ اِلَّا هُو» بَرَابَرْ مِيزَنْد هَرْ شَىْ

لأنَّ جميع الأشياء تقول: «لا إله إلَّا هو» وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى..»

رسالة تستنطق النجوم

«كنت يوماً على ذروة قمة من قمم جبل «جام» نظرت إلى وجه السماء في سكون الليل، وإذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنَّني استمعت خيالاً إلى ما تنطق به النجوم بلسان الحال.. كتبتُها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي بها.

واستمع إلى النجوم أيضاً، إلى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لـترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

* * *

إنَّها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

* * *

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الأرض.

* * *

فنحن أُلوفُ العيون الباصرة تطل من السماء إلى الأرض وترنو إلى الجنة.([1])

نحن أُلوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى أغصان درب الـتبانة.

* * *

فنحن لأهل السماوات مساجدٌ سيارة، ومساكنٌ دوّارة، وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة، وطائرات هائلة!

* * *

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال، وخوارق صنعة حكيم ذي جلال، ونوادر حكمة، ودواهي خلقة، وعوالم نور.

* * *

هكذا نبيّن مائة ألف برهانٍ وبرهان، بمائة ألف لسانٍ ولسان، ونُسمعها إلى مَن هو إنسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيّرة، ولا يسمع أقوالنا البيّنة.. فنحن آيات ناطقة بالحق.

* * *

سكّتُـنا واحدة، طُرتُنا واحدة، مسبّحاتٌ نحن عابداتٌ لربنا، مسخّراتٌ تحت أمره.

نذكر به تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات إلى حلقة ذكر درب التبانة..»

شجرة الدلب مثالاً

«لما كانت الكائنات في حكم شجرة، يمكن اتخاذها إذن مثالاً لإظهار حقائق الكائنات. فنأخذ هذه الشجرة الضخمة التي أمام غرفتنا، وهي شجرة الدُلب العـظيمة، بوصفها مثـالاً مـصغراً للكائـنات. وسنبين تجلي الأحدية في الكائنات بوساطتها، على النحو الآتي:

إنَّ لهذه الشجرة ما لا يقل عن عشرة آلاف ثمرة، ولكل ثمرةٍ ما لا يقل عن مئات من البذور المجنّحة، أي إن كل هذه الأثمار العشرة آلاف والمليون من البذور تكون موضع الإيجاد والإتقان في آن واحد، بينما توجد العقدةُ الحياتية في البذرة الأصلية لهذه الشجرة، وفي جذرها وفي جذعها، وهي شيءٌ جزئي ومشخّص من تجلي الإرادة الإلهية ونواةٌ من الأمر الرباني. وبهذا التجلي الجزئي تتكون مركزيةُ قوانين تشكيل الشجرة، الموجودةُ في بداية كل غصن وداخل كل ثمرة وجنب كل بذرة، بحيث لا تدع شيئاً ناقصاً لأي جزء من أجزاء الشجرة ولا يمنعها مانع.

ثم إن ذلك التجلي الواحد للإرادة الإلهية والأمر الرباني، لا ينتشر إلى كل مكان، كانتشار الضياء والحرارة والهواء، لأنه لا يترك أثراً في تلك المسافات البعيدة للأماكن التي يذهب إليها، وفي المصنوعات المختلفة، بل لا يُرى له أثر قط. إذ لو كان ذلك بالانتشار لبَانَ الأثر. وإنما يكون جنب كل جزء من الأجزاء دون تجزئة ولا انتشار. ولا تنافي تلك الأفعال الكلية أحديته وذاتيته.

لذا يصح أن يقال: إن ذلك التجليَ للإرادة وذلك القانونَ الأمري، وتلك العقدةَ الحياتية موجودةٌ جنب كل جزء من الأجزاء، ولا ينحصر في أي مكان أصلاً..»

تأمُّل بالعربية

«بينما كنتُ متأملاً ومستغرقاً في تفكر يخص الأحدية، نظرت إلى ثمرات شجرة الدلب القريبة من غرفتي، فخطر إلى القلب تفكر متسلسل بعبارات عربية، فكتبتُه كما ورد بالعربية وسأذكر توضيحاً مختصراً له.

فَالبُذُورُ وَالأثْمَارُ، والحُبُوبُ وَالأزهَارُ، مُعجِزَاتُ الحِكمَةِ، خَوَارِقُ الصَّنْعَةِ، هَدَايا الرَّحْمَةِ، بَرَاهينُ الوَحْدَةِ، شَوَاهِدُ لُطْفِهِ في دارِ الآخِرَةِ، شَوَاهِدُ صَادِقَةٌ بأنَّ خَلَّاقَهَا عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وَبِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ. قَدْ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ بِالرَّحْمَةِ وَالعِلْمِ وَالخَلْقِ وَالتَّدْبيرِ وَالصُّنْعِ وَالتَّصْوِيرِ. فَالشَّمسُ كَالبَذرَةِ وَالنَّجْمُ كَالزَّهْرَةِ وَالأرضُ كَالحَبَّةِ لا تَثْقُلُ عَلَيهِ بِالخَلْقِ وَالتَّدْبيرِ وَالصُّنعِ وَالتَّصْويرِ. فَالبُذُورُ وَالأثْمَارُ مَرَايا الوَحْدَةِ في أقْطَارِ الكَثْرَةِ، إشَاراتُ القَدَرِ، رُمُوزَاتُ القُدْرَةِ بِأنَّ تِلكَ الكَثْرَةَ مِنْ مَنْبَعِ الوَحْدَةِ، تَصْدُرُ شَاهِدَةً لِوَحْدَةِ الفَاطِرِ في الصُّنْعِ وَالتَصْويرِ. ثُمَّ إلى الوَحْدَةِ تَنْتَهي ذَاكِرَةً لِحِكمَةِ الصَّانِعِ في الخَلْقِ وَالتَّدْبيِرِ. وَتَلْوِيحاتُ الحِكْمَةِ بأنَّ خَالِقَ الكُلِّ بِكُلِّيَّةِ النَّظَرِ إلى الجُزْئيِّ يَنْظُرُ، ثَمَّ إلى جُزْئِهِ. إذْ إنْ كانَ ثَمَرَاً فَهُوَ المَقْصُودُ الأظهَرُ مِنْ خَلقِ هَذا الشَّجَرِ.

فَالبَشَرُ ثَمَرٌ لِهَذِهِ الكَائِنَاتِ، فَهُوَ المَقْصُودُ الأظْهَرُ لِخَالِقِ المَوْجُودَاتِ. والقَلبُ كَالنُّوَاةِ، فَهُوَ المِرآةُ الأنْوَرُ لِصَانِعِ المَخْلُوقَاتِ. وَمِنْ هذِهِ الحِكْمَةِ فَالإنسَانُ الأصْغَرُ في هذِهِ الكَائِناتِ هُوَ المَدَارُ الأظْهَرُ للنَّشْرِ وَالمحَشْرِ في هذِهِ المَوجُوداتِ، وَالتَّخْريبِ والتَّبْديلِ وَالتَّحويلِ وَالتَّجْديدِ لِهَذِهِ الكَائِناتِ.

ومبدأ هذه الفقرة العربية هو:

فَسُبْحانَ مَنْ جَعَلَ حَديقَةَ أرضِهِ مَشْهَرَ صَنْعَتِهِ، مَحْشرَ فِطْرَتِهِ، مَظْهَرَ قُدرَتِهِ، مَدَارَ حِكْمَتِهِ، مَزْهَرَ رَحْمَتِهِ، مَزْرَعَ جَنَّتِهِ، مَمَرَّ المَخْلُوقَاتِ، مَسِيلَ المَوجُودَاتِ، مَكيلَ المَصْنُوعَاتِ.

فَمُزَيَّنُ الحَيْوانَاتِ مُنَقَّشُ الطُّيوراتِ مُثَمَّرُ الشَّجَراتِ مُزَهَّرُ النَبَاتاتِ مُعْجِزَاتُ عِلمِهِ. خَوَارِقُ صُنْعِهِ، هَدايَا جُودِهِ، بَراهِينُ لُطْفِهِ.

تَبَسُّمُ الأزهَارِ مِنْ زينَةِ الأثْمَارِ، تَسَجُّعُ الأطيَارِ في نَسْمَةِ الأسْحَارِ، تَهَزُّجُ الأمطار عَلى خُدُودِ الأزهَارِ، تَرَحُّمُ الوالِدَاتِ عَلى الأطفَالِ الصِّغَارِ.. تَعَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدِ رَحمن، تَرَحُّمُ حَنَّانٍ، تَحَنُّنُ مَنَّانٍ، للِجِنِّ وَالإنسَانِ، وَالرُّوحِ وَالحَيوَانِ، وَالمَلَكِ وَالجانِّ..»

ظهور رسائل النور

الحظوة باسم الله «الرحيم» و«الحكيم»

«أنا الآن في موضع، على ذروة شجرة صنوبر ضخمة عظيمة، منتصبة على قمة شاهقة من قمم جبل «جام». لقد استوحشتُ من الإنس واستأنست بالوحوش.. وحينما أرغَبُ في المحاورة والمجالسة مع الناس أتصوركم بقربي خيالاً، وأجاذبكم الحديث وأجد السلوان بكم. وأنا على رغبة في أن أظل هنا وحيداً مدة شهر أو شهرين، إن لم يحدث ما يمنع. وإن رجعت إلى «بارلا» نتحرى معاً حسب رغبتكم عن وسيلة لمجالسة ومحاورة بيننا. فقد اشتقتُ إليها أكثر منكم.

والآن أكتب إليكم ما ورد بالبال من خواطر على شجرة الصنوبر هذه:

أولاها: خاطرة فيها شيء من الخصوصية، فهي من أسراري، ولكن لا يُكتم عنكم السر، وهو: أنَّ قسماً من أهل الحقيقة يحظون باسم الله «الودود» من الأسماء الحسنى، وينظرون إلى واجب الوجود من خلال نوافذ الموجودات بتجليات المرتبة العظمى لذلك الاسم. كذلك أخوكم هذا الذي لا يُعدّ شيئاً يُذكر، وهو لا شيء، قد وُهبَ له وضعٌ يجعله يحظى باسم الله «الرحيم» واسم الله «الحكيم» من الأسماء الحسنى، وذلك في أثناء ما يكون مستخدَماً لخدمة القرآن فحسب، وحينما يكون منادياً لتلك الخزينة العظمى التي لا تنتهي عجائبُها.

فجميع «الكلمات» إنما هي جلوات تلك الحظوة. نرجو من الله تعالى أن تكون نائلة لمضمون الآية الكريمة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا﴾ (البقرة:269)..»

تأليف رسالة الحشر

بينما كان الأستاذ النُّورْسِيّ يسير يوماً على الساحل الهادئ الجميل لبحيرة «أغريدر» ويتأمل مياهها الزرقاء، والسفوح الخضراء للجبال المحيطة بها، ويتذكر مسألة البعث بعد الموت ويوم القيامة والآخرة التي غدت تُصور من قبل الدوائر الملحدة وكأنها خرافة وأسطورة لا سند لها من دليل عقلي أو علمي، فبدأ يردد في جيشان روحي كبير قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ﴾ (الروم:50) زهاء أربعين مرة هو يذرع الساحل جيئة وذهاباً في نشوة روحية عميقة ملأت نفسه بمعاني هذه الآية الكريمة وفاضت بها فأخذ يُملي على أحد طلابه هذه المعاني فكانت رسالة «الحشر» وهي الرسالة الأولى من رسائل النور.

«إن كل حقيقة من الحقائق -الاثنتي عشرة لهذه الرسالة- تثبت أموراً ثلاثة في آن واحد: وجود واجب الوجود، وأسمائه وصفاته، ثم تبني الحشر على تلك الأمور وتثبته. فيستطيع كل شخص من أعتى المنكرين إلى أخلص المؤمنين أن يأخذ حظه من كل حقيقة، لأنها تلفت الأنظار إلى الموجودات والآثار، وتقول: «في هذه الموجودات أفعال منتظمة، والفعل المنتظم لا يكون بلا فاعل، لذا فلها فاعل. ولما كان الفاعل يفعل فعله بالانتظام والنظام يلزم أن يكون حكيماً عادلاً، وحيث إنه حكيم، فلا يفعل عبثاً، وحيث إنه يفعل بالعدالة فلا يضيّع الحقوق، فلا بد إذن من محشر أكبر ومحكمة كبرى».

وعلى هذا المنوال تسير الحقائق، وتلبس هذا الطراز من التسلسل، وتثبت الدعاوى الثلاث دفعة واحدة. ولأنها مجملة فالنظر السطحي يعجز عن التمييز. علماً أن كل حقيقة منها قد فصلت بإيضاح تام في رسائل أُخر وفي «الكلمات»».

«ولقد دفعت هذه الرسالة بلاءً كبيراً، فبسبب من فوضى الأفكار التي سادت وبسبب من الهزات التي سببتها الحرب العالمية فقد وجد المنافقون الذين ينكرون الحشر الفرصة سانحة لهم، وبدؤوا بإظهار أفكارهم المسمومة في كثير من الأماكن، وعندها ظهرت «الكلمة العاشرة» (رسالة الحشر) وطُبع منها ألف نسخة ووزعت في مختلف الأنحاء، وكل من أطلع عليها قرأها بلهفة، فقصمت بإذن الله أفكار الزندقة الكفرية، وأخرستهم [ومع هذا] فإن هذه الكلمة «الكلمة العاشرة» لم تُقدّر حق قدرها. فقد طالعتُها بنفسي ما يقرب من خمسين مرة، وفى كل مرة أجد لذة جديدة وأشعر بحاجة إلى قراءة أخرى. فمثل هذه الرسالة يقرؤها بعضهم مرة واحدة ويكتفي بها وكأنها رسالة كسائر الرسائل العلمية. والحال أن هذه الرسالة من العلوم الإيمانية التي تتجدد الحاجة إليها في كل وقت كحاجتنا إلى الخبز كل يوم..»

إطلاق اسم «رسائل النور»

«أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى.. وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم «رسائل النور». إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما هي إلهام إلهيّ أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم، فباركت كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل فلا تمنع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها. وهكذا تلقفتْها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسَوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين. فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسوق الإلهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل مَن يعمل في هذه السبيل امتثالاً بما يأمرني به ديني».

«إن سبب إطلاق اسم «رسائل النور» على مجموع الكلمات (وهي ثلاث وثلاثون كلمة) والمكتوبات (وهي ثلاثة وثلاثون مكتوباً) واللمعات (وهي إحدى وثلاثون لمعة) والشعاعات (وهي ثلاثة عشر شعاعاً) هو أن كلمة النور قد جابهتني في كل مكان طوال حياتي، منها:

أن قريتي اسمها: نورس.

واسم والدتي المرحومة: نورية.

وأستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد.

وأستاذي في الطريقة القادرية: نور الدين.

وأستاذي في القرآن: نوري.

وأكثر من يلازمني من طلابي من يسمّون باسم نور.

وأكثر ما يوضح كتبي وينورها هو التمثيلات النورية.

وأول آية كريمة التمعت لعقلي وقلبي وشغلت فكري هي:

﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۜ مَثَلُ نُورِه كَمِشْكٰوةٍ…﴾ (النور:35)

وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو: اسم «النور» من الأسماء الحسنى.

ولشدة شوقي نحو القرآن وانحصار خدمتي فيه فإن إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي الله عنه».


[1]  أي إن وجه الأرض مشتل أزاهير الجنة ومزرعتها، تعرض فيه ما لا يحد من معجزات القدرة الإلهية. ومثلما تتفرج ملائكة عالم السماوات وتشاهد تلك المعجزات، تشاهدها أيضاً النجوم التي هي بمثابة عيون الأجرام السماوية الباصرة، فهي كلما نظرت كالملائكة إلى تلك المصنوعات اللطيفة التي تملأ وجه الأرض، نظرت إلى عالم الجنة أيضاً، فتشاهد تلك الخوارق المؤقتة في صورتها الباقية هناك. أي إنها عندما تلقى نظرة إلى الأرض تلقى الأخرى إلى الجنة، بمعنى أن لها إشرافاً على ذينك العالَمين معاً. (المؤلف)