عنايات إلهية وكرامات قرآنية

«يا إخوة الآخرة ويا طالبيّ المجدّين السيد خسرو  والسيد رأفت!  كنا نشعر بثلاث كرامات قرآنية في مجموعة «الكلمات» التي هي من فيوضات أنوار القرآن، بيد أنكم بهمتكم وسعيكم وشوقكم قد أضفتم عليها أيضاً كرامة أخرى رابعة. أما الثلاث المعروفة فهي:

أولاً: السهولة والسرعة فوق المعتاد في تأليفها، حتى إن المكتوب التاسع عشر (المعجزات الأحمدية) المتكون من خمسة أقسام ألف في حوالي ثلاثة أيام خلال ما يقرب من أربع ساعات يومياً أي بمجموع اثنتي عشرة ساعة وفي شعب الجبال وخلال البساتين دون أن يكون هناك كتاب نرجع إليه. والكلمة الثلاثون (رسالة أنا) ألّفت في وقت المرض خلال خمس أو ست ساعات. والكلمة الثامنة والعشرون وهي (مبحث الجنة) ألّفت خلال ساعة أو ساعتين في بستان «سليمان» بالوادي، حتى تحيرنا أنا وتوفيق  وسليمان لهذه السرعة..كما في تأليفها هذه الكرامة القرآنية كذلك..

ثانياً: في كتابتها سهولة فوق المعتاد، وشوق عارم، مع عدم السأم والملل. علماً أن هناك أسباباً كثيرة تورث السأم للأرواح والعقول في هذا الزمان. ولكن ما إن تؤلف إحدى «الكلمات» حتى تستنسخ في أماكن كثيرة وتُقدّم على كثير من المشاغل المهمة.. وهكذا.

الكرامة القرآنية الثالثة: أن قراءتها أيضاً لا تورث السأم ولاسيما إذا ما استشعرت الحاجة إليها، بل كلما قُرئت زاد الذوق والشوق ولا يُسأم منها.

وأنتم كذلك يا أخويّ قد أثبتما كرامة قرآنية رابعة، فأخونا خسرو الذي يطلق على نفسه الكسلان، وتقاعس عن الكتابة مذ أن سمع بـ«الكلمات» قبل خمس سنوات فإن كتابته خلال شهر واحد لأربعة عشر كتاباً كتابةً جميلةً متقنةً كرامة للأسرار القرآنية لا شك فيها ولاسيما المكتوب الثالث والثلاثون وهي رسالة «النوافذ» التي قدّرت حق قدرها حيث كتبت أجمل وأجود كتابة. نعم، إن تلك الرسالة رسالة قوية وساطعة في معرفة الله والإيمان به إلا أن النوافذ الأولى التي في مستهل الرسالة مجملة جداً ومختصرة، علماً أنها تتوضح تدريجياً وتسطع.. حيث إن مقدمات معظم الكلمات، تبدأ مجملة ثم تتوضح تدريجياً وتتنور بخلاف سائر المؤلفات».

الأنوار ملك القرآن

«إنني لا أقول هذا الكلام الذي يخص «الكلمات» تواضعاً، بل بياناً للحقيقة، وهي:أنَّ الحقائق والمزايا الموجودة في «الكلمات» ليست من بنات أفكاري ولا تعود إليّ أبداً وإنما هي للقرآن وحدَه، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن، حتى إن «الكلمة العاشرة» ما هي إلّا قطرات ترشحتْ من مئات الآيات القرآنية الجليلة. وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة.

فمادمتُ أعلم الأمر هكذا وأنا ماضٍ راحل عن هذه الحياة، وفانٍ زائل، فلا ينبغي أن يُربَطَ بي ما يدوم ويبقى من أثر. ومادام عادة أهل الضلالة والطغيان هي الحط من قيمة المؤلف للتهوين من شأن كتاب لا يفي بغرضهم. فلا بد إذن ألّا ترتبطَ «الرسائل» المرتبطة بنجوم سماء القرآن الكريم بسند متهرئ قابل للسقوط، مثلي الذي يمكن أن يكون موضعَ اعتراضاتٍ كثيرة، ونقدٍ كثير.

ومادام عُرفُ الناس دائراً حول البحث عن مزايا الأثر في أطوار مؤلِّفه وأحوالِه الذي يحسبونه منبعَ ذلك الخير ومحوَره الأساس، فإنه إجحاف إذن بحق الحقيقة وظلم لها -بناء على هذا العُرف -أن تكون تلك الحقائق العالية والجواهر الغالية بضاعةَ مَن هو مفلس مثلي وملكاً لشخصيتي التي لا تستطيع أن تظهر واحداً من ألف من تلك المزايا.

لهذا كله أقول: إن «الرسائل» ليست مُلكي ولا مني، بل هي مُلك القرآن. لذا أراني مضطراً إلى بيان أنها قد نالت رشحات من مزايا القرآن العظيم.

نعم، لا تُبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سيقانها اليابسة؛ فأنا كتلك الساق اليابسة لتلك الأعناب اللذيذة..

ولو بلغ صوتي أرجاءَ العالم كافة لكنت أقول بكل ما أوتيتُ من قوة: إن «الكلمات» جميلة رائعة، وإنها حقائق، وإنها ليست مني، وإنما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلمْ أُجمّل أنا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من إظهار جمالها وإنما الحقائقُ الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها..»

إثبات الحقائق الإيمانية

«إن إثباتَ أجزاء رسائل النور لجميع الحقائق الإيمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين، إثباتاً ساطعاً، إنما هو إشارة غيبية قوية جداً، وعناية إلهية عظيمة. لأن هناك من الحقائق الإيمانية والقرآنية، ما اعترف بعجزه عن فهمها من يعدّ صاحب اعظم دهاء، وهو ابن سينا الذي قال في مسألة الحشر: «الحشر ليس على مقاييس عقلية» بينما تُعلّم «الكلمة العاشرة» عوامَ الناس والصبيان حقائقَ لم يستطع أن يبلغها ذلك الفيلسوف بدهائه.

وكذا مسائل «القدر والجزء الاختياري» التي لم يحلَّها العلامة الجليل «السعد التفتازاني»  إلّا في خمسين صحيفة، وذلك في كتابه المشهور بـ«التلويح» من قسم «المقدمات الاثنتي عشرة»، ولم يبيّنها إلّا للخواص من العلماء، هذه المسائل تبينها «الكلمة السادسة والعشرون» (رسالة القدر) في صحيفتين من المبحث الثاني منها بياناً شافياً وافياً، وبما يوافق أفهام الناس كلهم. فإنْ لم يكن هذا من أثر العناية الإلهية فما هو إذن؟.

وكذا سر خلق العالم، المسمى بـ«طلسم الكائنات» الذي جعل العقول في حيرة منه، ولم تحلّ لغزَه أيةُ فلسفةٍ كانت، كشف أسراره وحل ألغازه الإعجاز المعنوي للقرآن العظيم، وذلك في «المكتوب الرابع والعشرين» وفي النكتة الرمزية الموجودة في ختام «الكلمة التاسعة والعشرين»، وفي الحِكَم الست لتحوّل الذرات في «الكلمة الثلاثين». هذه الرسائل قد حلّت ذلك الطلسمَ المغلقَ في الكون، وكشفت عن أسرار ذلك المعمّى المحيّر في خلق الكون وعاقبتِه، وبينتْ حكمة الذرات وتحولاتها. وهي متداولة لدى الجميع، فليراجعها من شاء.

وكذا حقائق الأحدية، ووحدانية الربوبية بلا شريك، وحقائق القرب الإلهي قرباً أقرب إلينا من أنفسنا، وبُعدنا نحن عنه سبحانه بُعداً مطلقاً.. هذه الحقائق الجليلة قد وضّحتها توضيحاً كاملاً كلٌّ من «الكلمة السادسة عشرة» و«الكلمة الثانية والثلاثين».

وكذا القدرةُ الإلهية المحيطة بكل شيء، وتَساوي الذرات والسيارات إزاءَها، وسهولةُ إحيائها ذوي الأرواح كافة في الحشر الأعظم كسهولة إحياء فرد واحد، وعدمُ تدخل الشرك قطعاً في خلق الكون، وأنه بعيد عن منطق العقل بدرجة الامتناع.. كل هذه الحقائق قد كُشفت في «المكتوب العشرين» لدى شرح ﴿وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ (الروم:50). وفي ذيله الذي يضم ثلاثة تمثيلات، الذي حلّ ذلك السر العظيم، سر التوحيد.

هذا، فضلاً عن أن الحقائق الإيمانية والقرآنية لها من السعة والشمول ما لا يمكن أن يحيط بها ذكاء أذكى إنسان! أليس إذن ظهور الأكثرية المطلقة لتلك الحقائق بدقائقها لشخص مثلي مشوَّشِ الذهن، مشتت الحال، لا مرجع ولا مصدر لديه من الكتب، ويتم التأليف في سرعة وفي أوقات الضيق والشدة؟ أقول: أليس ذلك أثراً من آثار الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم وجلوة من جلوات العناية الربانية وإشارة غيبية قوية؟»

التيسير الخارق

«لقد أنعم الله عليّ بتأليف ستين رسالة بهذا النمط من الإنعام والإحسان، إذ مَن كان مثلي ممن يفكر قليلاً ويتتبع السنوحَ القلبي، ولا يجد متسعاً من الوقت للتدقيق والبحث، يتم في يده تأليفُ ما لا يقدر على تأليفه جماعةٌ من العلماء والعباقرة مع سعيهم الدائب. فتأليفها إذن على ذلك الوجه يدّل على أنها أثرُ عناية إلهية مباشرة، لأن جميع الحقائق العميقة الدقيقة في هذه الرسائل كلها تُفهَّم وتدرّس إلى عوام الناس وأكثرِهم أميةً بوساطة التمثيلات. مع أن علماء أجلّاء قالوا عن أكثر تلك الحقائق «إنها لا تُعلَّم ولا تُدرَّس»، فلم يعلّموها للعوام وحدهم، ولا للخواص أيضاً.

وهكذا فهذا التسهيلُ الخارق في التأليف والتيسير في بيان الحقائق، بجعل أبعدِ الحقائق عن الفهم كأنها في متناول اليد وتدريسُها إلى أكثر الناس بساطةً وأُمية، لا يكون في وسع شخص مثلي له باع قصير في اللغة التركية، وكلامه مغلق ولا يُفهم كثير منه، حتى إنه يجعلُ الحقائق الظاهرية معضلة، واشتهر بهذا منذ السابق وصدّقت آثارُه القديمة شهرتَه السيئة تلك.. فمثل هذا الشخص يجري في يده هذا التيسير والبيان الواضح، ولا شك أنه أثر من آثار العناية الإلهية، ولا يمكن أن يكون من حذاقة ذلك الشخص، بل هو جلوة من جلوات الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وصورة منعكسة للتمثيلات القرآنية..

إن أصحابي القريبين يعلمون هذا. ولاسيما صاحبي الدائم السيد سليمان يعلم أكثرها، فحظينا بتيسير إلهي ذي كرامة لا يخطر على بال، سواء في نشر «الكلمات» والرسائل الأخرى، أو في تصحيحها ووضعها في مواضعها وفي تسويدها وتبييضها. فلم يبق لدينا ريب -بعد ذلك- أن كل تلك العنايات الإلهية كرامة قرآنية.. ومثال هذا بالمئات.

ثم إننا نُربّى بشفقة ورأفة وتجري معيشتنا بعناية بحيث يُحسِن إلينا صاحب العناية الذي يستخدمنا في هذه الخدمة بما يحقق أصغر رغبة من رغبات قلوبنا، وينعم بها علينا من حيث لا نحتسب.. وهكذا.

فهذه الحالة إشارة غيبية في منتهى القوة إلى أننا نُستخدم في هذه الخدمة القرآنية ونُدفع إلى العمل مكللين بالرضا الإلهي مستظلين بظل العناية الربانية.

الحمد لله، هذا من فضل ربي.»

عدم انتقادها

«على الرغم من انتشار «الرسائل» -بصورة عامة- انتشاراً واسعاً جداً، فإن عدمَ قيام أحد بانتقادها ابتداءً من أعظم عالم إلى أدنى رجل من العوام، ومن أكبر ولي صالح تقي إلى أحط فيلسوف ملحد عنيد، هؤلاء الذين يمثلون طبقاتِ الناس وطوائفَهم. ورغم أنها معروضة أمامَهم ويرونها ويقرءونها، وقد استفادت كلُّ طائفة منها حسب درجتها، بينما تعرّض قسم منهم إلى لطماتها وصفعاتها.. أقول: إنّ كلَّ ذلك ليس إلّا أثرَ عناية ربانية وكرامة قرآنية.. ثم إن تلك الأنماط من الرسائل التي لا تؤلَّف إلّا بعد بحث دقيق وتحرّ عميق، فإن كتابتها وإملاءها بسرعة فوق المعتاد أثناء انقباض وضيق -وهما يشوشان أفكاري وإدراكي- أثر عناية ربانية وإكرام إلهيّ ليس إلّا».

السرعة الفائقة في التأليف

«يعلم الأقربون مني، أنني -في السابق- كلما كنت أتضايق من شيء أعجزُ عن بيان أظهرِ الحقائق، بل كنت أجهلها، ولاسيما إذا ما زاد المرضُ على ذلك الضيق، كنت أمتنع أكثر عن التدريس والتأليف، بينما ألّفت «الكلمات» المهمة، وكذلك «الرسائل» الأخرى في أشدّ أوقات المرض والضيق، وتم التأليف في أسرع وقت. فإن لم يكن هذا إكراماً ربانياً وكرامة قرآنية مباشرة، فما هو إذن؟.

ثم إنه ما من كتاب يبحث في مثل هذه الحقائق الإلهية والإيمانية إلّا ويترك بعضُ مسائله ضرراً في عدد من الناس، لذا ما كان يُنشَر كلُّ مسألة منه إلى الناس كافة. أما هذه الرسائل فلم تُلحق أيَّ ضرر كان ولم تؤثر تأثيراً سيئاً في أحد من الناس ولم تخدش ذهنَ أحد قط رغم استفساري عن ذلك من الكثيرين، حتى تحقق لدينا أن ذلك إشارةٌ غيبية وعناية ربانية مباشرة».

حاجة الروح

«ثم إن «الآثار» المؤلّفة و«الرسائل» -بأكثريتها المطلقة- قد أُنعمتْ عليّ بها لحاجة تولدت في روحي فجأة، ونشأت آنياً دون أن يكون هناك سبب خارجي. وحينما كنت أُظهرها لبعض أصدقائي، كانوا يقولون: «إنها دواء لجراحات هذا الزمان». وبعد انتشارها عرفت من معظم إخواني أنها تفي بحاجة هذا العصر وتضمد جراحاته.

فهذه الحالات المذكورة آنفاً -وهي خارجة عن نطاق إرادتي وشعوري وسير حياتي- ومجموع تتبعاتي في العلوم خلاف عادة العلماء وبما هو خارج عن اختياري، كل ذلك لم يترك لي شبهة قطعاً بأنها عنايةٌ إلهية قوية وإكرام رباني واضح، للانجرار إلى مثل هذه النتيجة السامية».

تأثير الرسائل القوي

«إنك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غيرَ اعتيادي فيما كتبتَه في «الكلمات» المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين؛ فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثيرَ صحيفة كاملة من غيرها، وما تحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: -وهو جواب لطيف جميل، إذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود إلى إعجاز القرآن الكريم وليس إلى شخصي أنا، فسأقول الجوابَ بلا حرج- نعم، هو كذلك على الأغلب؛ لأن «الكلمات» تصديقٌ وليست تصوراً، وإيمانٌ وليست تسليماً، وتحقيق وليست تقليداً، وشهادة وشهود وليست معرفة، وإذعان وليست التزاماً، وحقيقة وليست تصوفاً، وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءً.

وحكمة هذا السر هي: أنَّ الأسسَ الإيمانية كانت رصينةً متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، إذ كانت توضيحات العارفين في الأمور الفرعية مقبولة، وبياناتُهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل. أما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالةُ باسم العلم يدَها إلى أسس الإيمان وأركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم، الذي يهب لكل صاحبِ داءٍ دواءه المناسب، وأنعم عليّ سبحانه شعلةً من «ضرب الأمثال» التي هي من أسطع معجزات القرآن وأوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي
التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة.

فبمنظار «ضرب الأمثال» قد أُظهرَتْ الحقائقُ البعيدة جداً أنها قريبةٌ جداً.

وبوحدة الموضوع في «ضرب الأمثال» قد جُمِّعَتْ أكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم «ضرب الأمثال» قد تُوُصِّل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة «ضرب الأمثال» قد حُصّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيالُ إلى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل على الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام: أنه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في أسلوب كتاباتي، فإنها ليست مني، ولا مما مضَغَه فكري، بل هي من لمعات «ضرب الأمثال» التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيه إلّا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلّا التضرع والتوسل إليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم.

هل انتهت مهمتي؟

«يا أخويَّ! إنَّ ظلمات أنواع الغربة هذه، وإنْ تبددت بنور الإيمان، إلّا أنها تركت فيَّ شيئاً من بصمات أحكامها، وأوحت بهذه الفكرة:

ما دمتُ غريباً وأعيش في الغربة وراحلاً إلى الغربة، فهل انتهتْ مهمتي في هذا المضيف، كي أوكِّلَكم و«الكلمات» عني. وأقطع حبالَ العلاقات عن الدنيا قطعاً كلياً؟

وحيث إن هذه الفكرة وردتْ على البال بهذه الصورة، فكنت أسألكم:

هل «الكلمات» المؤلفة كافية؟ وهل فيها نقص؟ وأعني بهذا السؤال: هل انتهت مهمّتى كي أنسى الدنيا وأُلقي بنفسي في أحضان غربةٍ نورانية لذيذة حقيقية باطمئنان قلب…» [ويجيبه طالبه الأول «خلوصي»  بالآتي:]

مهمة الداعية لا تنتهي

«لقد أصررتم يا أستاذي المحترم في رسالتيكم الأخيرتين على الإجابة عن سؤال قد تفضلتم به سابقاً. فسمعاً وطاعةً. ولكن إزاء هذا السؤال العسير ليس لي الّا الالتجاء إلى العناية الإلهية والتشبث بالكرم الإلهي والاستمداد من روحانية الرسول الكريم ﷺ، ذلك لأني في منتهى العجز والفقر. ولأجل أن يكون الجواب مطابقاً للحق منطبقاً على الحقيقة، أقول:

لا شك أن «الكلمات» المباركة هي لمعات من نور الكتاب المبين. وعلى الرغم من أنها تحتاج إلى إيضاح وشرح في بعض المواضع بسبب أسلوبها الرفيع، فلا نقص ولا قصور فيها بكليتها، ويمكن لكل طبقة من الناس أن تأخذ منها حظها. ويكفي لصحة قناعتنا؛ عدم قيام أحد بانتقادها لحد الآن، بل إبداء كل مشرب ومسلك الرضى عنها وبقاء الملحدين إزاءها صماً بكماً..

وها أنذا أدرج البراهين التي تمكنتُ من التفكر فيها، والتي تدل على عدم انتهاء مهمتكم:

أولاً: إن واجب العلماء هو الصدع بالحق وعدم السكوت عنه عند انتشار البدع، وقد ورد الزجر عن السكوت عن الحق في الحديث الشريف.

ثانياً: نحن مكلفون باتباع الرسول الكريم ﷺ، فضرورة أداء هذه المهمة مستمرة مدى الحياة.

ثالثاً: إن هذه الخدمة ليست محصورة برأيكم، بل أنتم تُستخدمون فيها. فأنا على قناعة تامة من أن مهمة أستاذي المحترم إذا ما كمُلت فإنه تعالى يُلهم قلبه بختام مهمته. مثلما بُلّغ بختام الرسالة مبلّغ القرآن فخر العالمين، حبيب رب العالمين سيدنا محمد ﷺ بالآية الكريمة:

﴿اَلْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ د۪ينَكُمْ﴾ (المائدة:3).

رابعاً: إن عدم ورود أي نقد على «الكلمات» والسكوت عليها ليس دليلاً على أن هذا الوضع سيستمر على هذا المنوال إلى النهاية. فإنكم يا أستاذي المحترم مكلفون أولاً بالإجابة عن الهجمات المحتملة التي ستأتي عليها وأنتم ما زلتم على قيد الحياة.

خامساً: أظنكم لا تدعون الإجابات والاستيضاحات جانباً، تلك التي يرجوها من ارتبط بـ«الكلمات». فإن لم يكن هناك إلّا هذا السبب، فلا يمكنكم نسيان الدنيا حتى لو أردتم ذلك.

سادساً: إن الذين أحبوكم لله ويستوضحون منكم أموراً حول كتاباتكم القيمة وتقريراتكم في مجالسكم العلمية من مسائل متنوعة لم تُدرج كلها في الكلمات. مما تبين بقطعية تامة أن الحاجة لم تنته بعد، والخدمة الإيمانية لم تبلغ نهاية المطاف».

السبيل إلى نشر «رسائل النور»

الاستنساخ اليدوي

كان تأليف رسائل النور ونشرها شيئاً متميزاً وفريداً في تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة، ذلك لأن الأستاذ سعيد النُّورْسِيّ لم يكن يكتب كثيراً من رسائله بيده لكونه نصف أمّي -من حيث قدرته على الكتابة- وإنما كان يملي أغلب هذه الرسائل على بعض طلابه في حالات من الجيشان الروحي والوجداني، وبعد ذلك تتداول النسخة الأصلية بين الطلاب الذين يقومون بدورهم باستنساخها باليد، ثم ترجع هذه النسخ جميعها إليه، لكي يقوم بتدقيقها واحدة واحدة، وتصحيح أخطاء الاستنساخ إن وجدت، ولم يكن لديه أية كتب أو مصادر يرجع إليها أثناء التأليف سوى القرآن الكريم، وقد ساعده على ذلك ما وهبه الله من ذاكرة خارقة وقدرة عجيبة على الحفظ.

بقيت رسائل النور عشرين سنة تنتشر بهذه الطريقة، وبعد ذلك طبعت لأول مرة بـ«الرونيو» ولم يقدّر لها أن تطبع في المطابع الاعتيادية إلّا سنة 1956م هذا باستثناء رسالة الحشر، التي طُبعتْ منها خفية في إسطنبول بوساطة أحد طلاب النور.

كانت الحروف العربية قد بدّلت إلى حروف لاتينية، وحظر الطبع والنشر بها، وأغلقت مطابعها، فكانت هذه الطريقة «طريقة الاستنساخ» باليد سراً هي الطريقة الوحيدة والعملية لنشر مؤلفات رجل منفي ومراقب، قد سدت في وجهه جميع سبل التأليف والنشر، وخاصة وأنه كان يريد -بالإصرار على الكتابة بالحروف العربية- المحافظة عليها من الاندثار والنسيان.

وعندما بدأت حلقات الطلاب تتسع، بدأت الرسائل تصل إلى القرى والنواحي القريبة من بارلا فتتلقفها الأيدي سراً وتتدارسها، ويوصلونها حتى إلى المدن البعيدة، حيث بدأت تكتسب قلوباً جديدة وأرواحاً عطشى إلى الهداية والنورِ في تلك الظروف المحرقة والأحوال المظلمة الحالكة.

بدأت عشرات، ثم مئات، ثم آلاف من طلبة النور رجالاً ونساءً في الانكباب على استنساخ رسائل النور ساعات عديدة من الليل والنهار حتى إن بعضاً منهم قضى سبع سنين لم يغادر منـزله وهو مكبّ على هذه المهمة. حتى كان في قرية «ساو» القريبة من إسبارطة ألف من مستنسخي الرسائل.

النساء في طريق النور

وقد ساهمت النساء في هذه الحملة مساهمة فعّالة جديّة، فالفتيات اللآئي كنَّ يعرفن الكتابة ساهمن فيها بالاستنساخ، واللآئي يجهلنها كُنَّ يُقلّدنَ الكتابة تقليداً، أي يقمن بالكتابة على طريقة النقش والتصوير.

وقد أتت بعض النسوة إلى الأستاذ سعيد النُّورْسِيّ قائلات له:

يا أستاذنا.. إننا قررنا القيام بالأعمال اليومية لأزواجنا لعلهم يتفرغون كلياً لكتابة رسائل النور لنغنم ثواب المشاركة في الخدمة».

فعندما كنت في بارلا، بداية تأليف رسائل النور، كانت السيدة زهراء رحمها الله زوجة الكاتب الأول الحافظ توفيق الشامي، تأتي بالحطب على ظهرها بدلاً عن زوجها، فكانت تقوم بأعمال زوجها كي يكتب الرسائل ويستنسخها. ونحن عرفانا بجميلها هذا نضمّها في دعواتنا بين المتوفين من طلاب النور الخواص وسنستمر على الدعاء لها.

السابقون في قافلة النور

«إخوتي الأعزاء الأوفياء الميامين ويا رفقائي الأقوياء المخلصين في خدمة القرآن والإيمان!

حمداً لله بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ حقق بكم أملي في رسالة «الشيوخ» وادعائي في رسالة «الدفاعات».

نعم، لله الحمد والمنة بعدد الذرات من الأزل إلى الأبد، بما أنعم بكم على رسائل النور بثلاثين من أمثال عبدالرحمن، بل مائة وثلاثين، بل ألفٍ ومائة وثلاثين من أمثاله، كل منهم يقابل ألفاً.

وحيث إنني أرى إخوتي الذين يلازمونني في الخدمة دائماً ولا يغادرون بالي أبداً، يسعون للعمل لرسائل النور ويتبنّونها بجدية تامة ويحافظون عليها ويتوارثونها مثلكم ناشدين الحقيقة، مقدّرين كل شيء حق قدره.. أراهم في موضعي وهم أكثر إخلاصاً منى وأصلب عوداً وأنشط في خدمة القرآن والإيمان.. لذا أنتظر أجلي وقبري وموتي بفرح تام وسرور خالص واطمئنان قلبي كامل.

إنني يا إخوتي أراكم عدة مرات في اليوم، في رسائلكم وفي خدماتكم الجليلة التي لا تغادر ذهني، فأشبع شوقي وأطمئنه بهذا الأمر. وأنتم كذلك يمكنكم أن تحاوروا وتجالسوا أخاكم هذا الضعيف في الرسائل، حيث الزمان والمكان لا يحولان دون محاورات أهل الحقيقة ومحادثاتهم، حتى لو كان أحدهم في الشرق والآخر في الغرب وآخر في الدنيا وآخر في البرزخ؛ لأن الرابطة القرآنية والإيمانية -التي هي بمثابة راديو معنوي- تجعلهم يتحاورون فيما بينهم.

إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليّ بإخوة أقوياء جادّين، مخلصين، غيورين، مضحين، لهم أقلام كالسيوف الألماسية، ودفعهم ليعاونوا شخصاً مثلي لا يجيد الكتابة، نصف أمي، في ديار الغربة، مهجور، ممنوع عن الاختلاط بالناس. وحمّل سبحانه كواهلهم القوية ما أثقل ظهري الضعيف العاجز من ثقل الخدمة القرآنية، فخفف بفضله وكرمه سبحانه حملي الثقيل.

فتلك الجماعة المباركة.. يتشابهون في الشوق إلى العمل والسعي فيه والغيرة على الخدمة والجدية فيها، إذ إن نشرهم الأسرار القرآنية والأنوار الإيمانية إلى الأقطار وإبلاغها جميع الجهات، وقيامهم بالعمل دون فتور، وبشوق دائم وهمة عالية، في هذا الزمان العصيب (حيث الحروف قد تبدلت ولا توجد مطبعة، والناس بحاجة إلى الأنوار الإيمانية) فضلاً عن العوائق الكثيرة التي تعرقل العمل وتولد الفتور، وتهوّن الشوق.. أقول إن خدمتهم هذه كرامة قرآنية واضحة وعناية إلهية ظاهرة ليس إلّا.

نعم، فكما أن للولاية كرامة، فإن للنية الخالصة كرامة أيضاً، وللإخلاص كرامة أيضاً، ولاسيما الترابط الوثيق والتساند المتين بين الإخوان ضمن دائرة أخوة خالصة لله، تكون له كرامات كثيرة، حتى إن الشخص المعنوي لمثل هذه الجماعة يمكن أن يكون في حكم ولي كامل يحظى بالعنايات الإلهية».

الشعور الذي ينجز الخدمات

«سأبين لكم دستوراً في الأخوّة عليكم الأخذ به بجد:

إن الحياة نتيجة الوحدة والاتحاد، فإذا ذهب الاتحاد المندمج الممتزج، فالحياة المعنوية تذهب أيضاً أدراج الرياح. فالآية الكريمة: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ر۪يحُكُمْ﴾ (الأنفال: 46) تشير إلى أن التساند والترابط إذا اختل تفقد الجماعة مذاقها.

إنكم تعلمون أن ثلاث ألفات إذا كتبت منفردة متفرقة فقيمتها ثلاث، ولكن إذا اجتمعت بالتساند العددي فقيمتها مائة وأحد عشر. وهكذا فإن بضعة أشخاص من أمثالكم من خدّام الحق إذا عمل كل منهم على انفراد من دون اعتبار لتقسيم الأعمال فإن قوتهم تكون بقوة ثلاثة أو أربعة أشخاص، بينما إذا ما عملوا متساندين بأخوّة حقيقية، مفتخراً كل منهم بفضائل الآخرين، حتى يبلغوا بسر الفناء في الأخوة أن يكون أحدهم هو الآخر بنفسه، أقول: إنهم إذا ما عملوا هكذا فإن قيمة أولئك الأشخاص الأربعة تكون بمثابة أربعمائة شخص.

إنكم يا إخوتي بمثابة مولدات الكهرباء التي تمدّ الضوء إلى بلد عظيم وليس إلى إسبارطة وحدها، فدواليب المَكِنَة مضطرة إلى التعاون فيما بينها. فإن كلاً من تلك الدواليب -ناهيك عن الغيرة والاستياء- تجد الراحة مما تكسبه من القوة الفائقة التي تمتلكها الدواليب الأخرى حيث إنها تخفف عنها عبء الوظيفة.

إن الذين يحملون على أكتافهم أعباء خدمة الإيمان والقرآن والتي هي بمثابة خزينة الحق والحقيقة العظيمة الرفيعة يفتخرون كلما انضمت إليهم أكتاف قوية متعاونةً معهم، فيشكرون ربهم.

حذار حذار من فتح باب النقد فيما بينكم. إن ما يستحق النقد خارج الصف كثير بل كثير جداً. فكما أنني أفتخر بمزاياكم، وأجد الراحة والسلوان من مزاياكم التي حرمت منها، وأعدّها كأنها عندي وأنا المالك لها، فأنتم كذلك عليكم النظر إلى مزايا إخوانكم على هذا النمط. فليكن كل منكم ناشراً لفضائل الآخرين.

ولما كنت أرى أن الشعور الأخويّ الخالص الذي أبداه أخونا «الحافظ علي»  تجاه أحد إخواننا الذي سيكون منافساً له في الاستنساخ اليدوي جدير بأن تطلعوا عليه، أذكره لكم وهو كالآتي:

جاءني «الحافظ علي» وقلت له: إن خط الأخ «فلان» أجود من خطه وإنه أكثر منه عملاً ونشاطاً. وإذا بي أجد أن الحافظ علي يفتخر -بإخلاص ومن الصميم- بتفوق الآخر عليه، بل التذ بذلك وانشرح، وذلك لأن الآخر قد استطاع جلب محبة أستاذه وثنائه عليه. راقبت قلبه أمعنت فيه بدقة، وعلمت أنه ليس تصنعاً قط. بل شعرت أنه شعور خالص. فشكرت الله تعالى على أن في إخواننا من يحمل هذا الشعور السامي، وسيُنجِز هذا الشعور بإذن الله كثيراً جداً من الخدمات. والحمد لله فإن ذلك الشعور الأخَويّ قد سرى تدريجياً في صفوف إخواننا في هذه المنطقة».

علاقة الطلاب بالأستاذ

«سأبين لكم وجهة نظري -بما يفيدكم- حول العلاقات القائمة بين الأستاذ والطلاب وزملاء الدرس، وهي: أنتم يا إخوتي! طلابي -بما هو فوق حدّي- من جهة، وزملائي في الدرس من جهة أخرى، ومساعديّ وأصحاب الشورى من جهة أخرى.

إخوتي الأعزاء!

إن أستاذكم ليس معصوماً من الخطأ، بل من الخطأ الاعتقاد أنه لا يخطئ. ولكن وجود تفاح فاسد في بستان لا يضر بالبستان، ووجود نقد مزوّر في خزينة لا يسقط قيمة الخزينة.

ولما كانت السيئة تعدّ واحدة بينما الحسنة بعشر أمثالها، فالإنصاف يقتضي: عدمَ الاعتراض وتعكير صفو القلب تجاه الحسنات، إذا ما شوهدت سيئة واحدة وخطأ واحد.

وحيث إن المسائل التي تخص الحقائق، والمسائل الكلية والتفصيلات هي من قبيل السانحات الإلهامية بصورة عامة، فلا غبار عليها قطعاً وهي يقينية.

أما مراجعتي لكم فيما يخص تلك المسائل واستشارتي لكم حولها، فهي في نمط تلقيكم لها، وليست لكونها حقيقة وحقاً أم لا؟ فلا تردد لي قطعاً من كونها حقيقة. إلا أن الإشارات التي تعود إلى المناسبات التوافقية ترد بصورة مطلقة ومجملة وكلية إذ هي سانحات إلهامية. ولكن أحياناً يختلط ذهني القاصر، فيخطئ فتظل التفاصيل والتفرعات ناقصة. فخطئي في هذه التفرعات لا يورث ضرراً للأصل وما هو بحكم المطلق.

وحيث إني لا أجيد الكتابة، ولا يتيسر وجود الكاتب لدي دائماً، تظل التعابير مجملة وعلى صورة ملاحظات ليس إلّا، فتستشكل على الفهم.

اعلموا يا إخوتي ويا رفقائي في الدرس!

إنني أسرّ إن نبهتموني بكل صراحة لأي خطأ ترونه عندي، بل أقول: ليرضَ الله عنكم إذا قلتموه لي بشدة. إذ لا يُنظر إلى أمور أخرى بجانب الحق. إنني مستعد لقبول أية حقيقة كانت يفرضها الحق، وإن كنت أجهلها ولا أعرفها فأقبلها وأضعها على العين والرأس ولا أناقشها وإن كانت مخالفة لأنانية النفس الأمارة.

اعلموا أن هذه الوظيفة الإيمانية وفي هذا الوقت جليلة ومهمة. فلا ينبغي لكم أن تضعوا هذا الحمل الثقيل على كاهل شخص ضعيف مثلي، وقد تشتت فكره. بل عليكم معاونته قدر المستطاع».