بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هذه السيرة الذاتية

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لعل القارئ الكريم يشاركني الإحساس بأن كتابة سيرة الحياة ولا سيما «السيرة الذاتية» من الكتابات الصعبة التي ينأى عنها كثير من الكتّاب، لما لها من التـزامات وأساليب ومقتضيات خاصة بـها. ومع هذا فقد تـناول كثير من الكتاب والباحثين حياة الأستاذ النُّورْسِيّ الحافلة بالأحداث، بأساليب شتى، منهم من التـزم السرد التاريخي فحسب وآخرون فضّـلوا الأسلوب الروائي ومنهم من اختار الأسلوب العلمي الأكاديمي وهكذا.

وأول من أقدَم على كتابة تاريخ حياة الأستاذ ابنُ أخيه وتلميذه المخلص عبدالرحمن ونشره في كتيب في سنة 1919م.

وفي بداية الخمسينيات نشر طلاب النور الجامعيون بآلة الاستنساخ -الرونيو- وبالحروف العربية كتاباً بعنوان «وتشرق الشمس من تركيا على عالم العلم والعرفان». وأعقب ذلك ما كتبه الأديب التركي الشهيـر «أشرف أديب» عن حياة الأستاذ في سلسلة من المقالات في مجلته «سبيل الرشاد».

ثم قام طلاب الأستاذ النُّورْسِيّ ممن درسوا عليه ولازموه ملازمة الظل في السجون والمنافي، بكتابة تاريخ حياة أستاذهم وهو مازال بينهم، ثم عرضوا عليه ما كتبـوه، فأقرّ عملهم بعد قيامه بحذف كل ما فيه إطراء أو إشادة لشخصه. وبعد الحذف والتشذيب نشروه في سنة 1958 تحت اسم «تاريخجهءِ حياة» (أي تاريخ الحياة).

وقد برز بعد ذلك باحثون في هذا الميدان وكتبوا باللغة التركية أبحاثهم ودراساتهم، وغدت تلك الدراسات مصادر لا يستغنى عنها لدى الكتابة عن حياة الأستاذ، نخص منهم بالذكر الأخَوَين الكريمين «عبد القادر بَادِلّلي» و«نجم الدين شاهين أر»؛ فكتب الأول «حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ بصورة مفصلة» ([1])(Bediuzzaman Said-i Nursi, Mufassal Tarihce-i Hayatı) في ثلاثة مجلدات؛ وكتب الآخر: «جوانب مجهولة من حياة بديع الزمان»(Bilinmeyen Taraflariyle B.S.Nursi) ([2]) و«الشهود الأواخر» (Son Şahitler) في أربعة مجلدات. وقد ضم كل منهما إلى مؤلفاتهما الوثائق التاريخية والمستمسكات الرسمية والعلمية بعد أن تجشما عناء الأسفار الطوال في سبيل الحصول على المعلومات من منابعها الأصلية.

بيد أني في أثناء سيري في ترجمة «كليات رسائل النور» لاحظتُ، بل لمستُ لمس اليد أن الأستاذ النُّورْسِيّ قد سجّل أغلب الأحداث التي مرّت به أو مرّ بـها، بل حتى خواطره ومعاناته النفسية والروحية، ونظراته وآراءه وتحليلاته للأحداث، سجلها كلها في الرسائل إلا أنه نثرها نثراً بين ثناياها وضمّها بين فقراتها وعباراتها مستخدماً إياها وسائل في خدمة الإيمان وتحقيقِه في القلوب وترسيخِه في العقول. فلم تعد تلك الذكريات ذكريـات تاريخية عابرة، وإنما أصبحت أحداثاً متفاعلة مع الحياة والإيمان، وكذلك وسائلَ ودلائل وإشارات إلى مباحث الإيمان.

ومن هنا فقد آثرتُ أن أتبع منهجاً متميزاً في كتابة هذه السيرة، وهو التقاط تلك المتناثرات والمبثوثات من الخواطر والأحداث من بين سطور «كليات رسائل النور» البالغةِ ثمانية مجلدات ثم ترتيبها وتنظيمها حسب تسلسلها التاريخي.

ولعل السبب الأساس في اختيار هذا النمط الصعب من الكتابة هو جعل القارئ الكريم يواجه الأستاذ النُّورْسِيّ مباشرة ويستمع إليه بنفسه من دون أن يكون لي دخل في الأمر، وذلك لئلا أتدخل في مشـاعر القارئ وأحاسيسه، حيث إن الكاتب مهما حاول التجرد والموضوعية فإنه قد يضفي شيئاً من إعجابه بكلمات المدح والثناء على ما كتب وسجل.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أي مصدر من المصادر لا يرقى في مصداقيته مهما كان صائباً وصادقاً إلى ما سجّله الأستاذ النُّورْسِيّ عن نفسه.

وعلاوة على ذلك، أحببت أن أضع بين يدي القارئ الكريم باللغة العربية أكبر كمية ممكنة من المباحث والخواطر والأحداث والوثائق الصائبة، وفي الوقت نفسه أرفع عن كاهل الباحثين الذين يرغبون في كتابة حياة الأستاذ النُّورْسِيّ عناء البحث والتنقيب.

ولهذا فقد جعلت متن الكتاب كله من كلام الأستاذ نفسه مع فقرات من كتاب «تاريخجهء حياة» الذي أقرّه بنفسه، ونظمت كلها حسب التسلسل التاريخي. بينما أوردت في الهوامش ما يعزز المتن ويوضحه مما اقتبسته من المصادر التركية، بل أضفت في بعض المواضع ما سمعتُه مباشرة من تلاميذ الأستاذ النُّورْسِيّ الأحياء من أمثال: «مصطفى صونغور» و«بايرام يوكسل» و«محمد فرنجي» وآخرين، وما سمعه الباحثون ممن شاهدوه، فانتقيت من هذه المشاهدات والخواطر ما تَأيّد من قبل شهود كثيرين أو ما تواتروا عليه.

ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من محاسن ومثالب، فمن جملة محاسنه إعطاء القارئ أصدق تاريخ حياة للأستاذ النُّورْسِيّ وأنزهه حيث لا نُقحم أنفسنا في إبداء رأي أو تأويل عبارة مما يجعل البحث عن الأستاذ النُّورْسِيّ تعبيراً عن نفسه وليس تعبيراً عما يختلج في صدورنا من دواعي الإعجاب والانبهار الذي يستحقه، فلا دخل لي فيه من شيء إلّا التنـظيم والترتيب. لذا يظل القارئ حرّ التفكير بعيداً عن أحاسيس الكاتب ومشاعره من بداية الكتاب إلى نـهايته. فضلاً عن وجود كمية وافرة من المعلومات والخواطر بين يديه.

ولكن مع هذا هناك نقص سيلمسه القارئ في هذا الأسلوب، وهو أن الفقرات المأخوذة من كلام الأستاذ في رسائل النور أومن تاريخ حياته الذي أقرَّه، في صياغتين متباينتين، فمرة ترد بصيغة المتكلم وأخرى بصيغة الغائب. ولهذا اضطررت إلى وضع عنـاوين صغيرة أو جمل قصيرة وربما كلمة واحدة بين الفقرات بين معقوفين [ ] كي لا تنقطع سلسلة أفكار القارئ الكريم.

ولعل عملنا هذا لرأب الصدع ورفع النقص يكون وسيلة لدفع القارئ إلى إعمال الذهن وقراءة ما بين السطور والقيام بالتركيب والتحليل، متجاوزاً القراءة العابرة. فيكون عند ذلك من جملة المحاسن وليس من المثالب.

ولا شك أن البحث قد أخذنا للتطرق إلى خُطَب الأستاذ النُّورْسِيّ ومقالاته ومؤلفاته ورسائله ومرافعاته في المحاكم وغيرها من الأمور. لذا لجأتُ إلى أخذ نموذج واحدٍ أو بضع فقرات فحسب من النصوص الأصلية، مع ذكر مواضعها في الهامش ليتشوق القارئ إلى مراجعة النص الكامل في موضعه ولئلا نحرمه من مصاحبة الأستاذ النُّورْسِيّ بالإقتباسـات المطولة. وتسهيلاً للأمر وضعنا في مستهل بعض الفصول تمهيداً نلخص فيه ما سبق من الأحداث ليعينه على الربط وتذكّر تسلسل الأحداث.

ومما أعاقني في البحث هو تأريخ الحوادث، حيث يرد تارة حسب التقويم الرومي -الذي كان مستعملاً رسمياً في أواخر الدولة العثمانية- وتارة بالتاريخ الهجري وأخرى بالميـلادي. فاضطررت إلى تحويل التواريخ الموجودة في المصادر إلى التقويم الميلادي والهجري مما سبّب وجود بعض الاختلافات في الأشهر دون السنين.

وقد أشركتُ معي إخوةً أعزاء في ترجمة بعض المباحث، واقتبست كثيراً من كتاب: «ذكريات عن سعيد النُّورْسِيّ» من ترجمة ابني الحبيب «أُسيد». كما استفدت من الخرائط الموجودة في كتاب: /The Author of the Risale-i Nur Bediuzzaman Said Nursi/ للأخت الفاضلة «شكران واحدة» مترجِمةِ «كليات رسائل النور» إلى اللغة الإنكليزية. حفظهم الله جميعاً وأثابهم ثواباً جزيلاً.

وبعد الانتهاء من عملي وجدت أستاذ الأدب العربي الأخ الكريم «فاروق رسول يحيى» مترجم «كليات رسائل النور» إلى اللغة الكردية، بجنبى، مُعيناً لي بملاحظاته القيّمة وتصحيحاته الدقيقة. فجزاه الله عنا خيراً.

وكلّي أمل أن يحظى هذا العمل بالقبول عند الله سبحانه وتعالى مع اعترافي بنقائصـه وهفواته النابعة من قصر باعي في هذا الميدان. وأسأله تعالى أن يقيّض لهذا العمل في قابل الأيـام من هو جدير به فيتناوله كما وصفه الأخ الحبيب «أديب إبراهيم الدباغ» في رسالته إليّ حيث قال:

«أخي الحبيب!

ذكرت في رسالتك أنك تنوي كتابة سيرة ذاتية للأستاذ النُّورْسِيّ مستخلصة من تراثه الفكري والإيماني، وهو بلا شك عمل جيد سيتوِّج أعمالك العظيمة في التحقيق والتأليف والتـرجمة. لذا أقدِّر أنه سيكون مؤلّفاً متميزاً سيُحدث -أو ينبغي أن يُحدث- من التأثير في أوساط المثقفين والمفكرين ما هو أهله، ويلفت انتباههم بقوة إلى هذا الإمام الجليل وإلى تراثه الفكري العظيم.

أخي الحبيب!

أرجو ألّا تعتبرني فضولياً! فبحق الأخوّة التي بيننا أدعوك إلى أن تنأى بالكتاب عن أن يكون عادياً وتقليدياً. فالرجل الذي تترجم له لم يكن في يوم من الأيام عادياً أو تقليدياً في كل ما كتب وترك من تراث.

فالتأنّي التأنّي -أخي الكريم- لا تتعجل أبداً، فالكتاب الذي أتمنى من صميم قلبي أن تكتبه لا ينبغي أن يكون أكاديمياً بارداً فتقتله البرودة في مهده، صحيح إن العـلمية مطلوبة والحقائق تفرض نفسها فرضاً على المؤلف، ولكن لا بد للحقيقة من أن يتناولهـا قلم حارٌ وإلّا ظلت باردة غير قادرة على التحريك والتحفيز. فأنت -يا عزيزي- تتناول بقلمك شخصية حارة ملتهبة، تتفجر حيوية، وتتدفق أفكاراً حارة لاهبـة، فليكن قلمك مغموساً بهذا اللهب الإيماني النوراني لكي يلهب الأفكار وينير القلوب. ولربما سأكون إلى جانبك يوماً لأسهم معك في كتابة بعضٍ من فصوله…»([3])

والله نسأل أن يحقق رغبة أخي الكريم بل رغبتنا جميعاً ويهيئ لهذا العمل من هو أهل له ويوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

إحسان قاسم الصالحي


[1]() وقد رمزت لهذا المصدر بـ(ب).

[2]() وقد رمزت له بـ(ش).

[3]() وقد حقق المولى الكريم أمنيته الصادقة لخلوص نيته فكان إلى جانبي حيث قرأ الكتاب قراءة متفحصة وأبدى ملاحظاته السديدة قبل أن يغادرنا لتولي مهامه أستاذاً للأدب العربي في جامعة داغستان الخاصة.