مقدمة([1])

إن الإنسان يحس في قرارة نفسه بالانتقال إلى عالمٍ آخر في أثناء قراءة سيرة العظماء والاستماع إلى مناقبهم السامية واستذكار مواقفهم البطولية، فتحرق النار السامية المنبثقة من تلك الأحاسيس النـزيهة غفلةَ قلبه، وتغمره بالفيض الإلهي. وفي هذا المضمار يسجّل لنا التاريخ رجالاً يصغر أمام عظمتهم العظماء.

وحينذاك تفلت الروح من قبضة طينة الأرض بذكر الموهوبين من أبطال التاريخ وتحلّق في أجواء العوالم الواسعة، وكأن شذى فيوضات ألف طيب تحيط بـها وهي تسلك طريقها بين رياحين رياض الجنان وعبير أزاهيرها.

وفي هذه المقدمة أحس بهذه الحقيقة السامية بكل عظمتها وأدركها بكامل معانيها. وذلك أن هذا الكتاب الذي نقدمه لقرائنا الأحبة بكل صدق وإخلاص، يتناول حياة «فاتح القلوب» الأستاذ العظيم سعيد النُّورْسِيّ عبر عمره الذي يقرب من قرن من الزمان، امتلأت كل صفحة من صفحاته بآلاف الخوارق والبطولات، كما يتناول مضمون رسائله البالغة مائة وثلاثين رسالة، وفضل طلبته الأماجد المتحلين بالإيمان والعلم والإخلاص والصدق، الذين غدوا أسوة حسنة ليس لبلد واحد فحسب، بل للإنسانية جمعاء.

نعم، تُعد المقدمة خلاصة للكتاب وزبدة لفحواه، بينما هذا الكتاب العظيم العميق في شعابه المستوعب كل موضوع من موضوعاته كتاباً مستقلاً بذاته يتأبى تعريف محتوياته في مقدمة تشتمل على صفحات عدة. ولم أعجز وأتحير في كل ما كتبتُ من كتابات منظومة أو منثورة كما عجزت وتحيرت في هذه المقدمة، لذا فالمطلعون على هذا الكتاب والذين يقرؤونه بنشوة عميقة وجذبة سامية، يرون بإعجاب أن بديع الزمان شخصية ممتازة وعالم فريد قد ترعرعَ منذ صغره بشكل غريب تحت عناية إلهية فائقة.

وبعد أن أحدقتُ النظر في هذا العالِم الجليل ودققت كتبه بجدّ وعرفت طلابه عن كثب، وعشت في عالم النور هذا فكراً وشعوراً وروحاً، عرفتُ مدى حقيقة ما قيل:

ليس على اللّه بمستنكَر  أن يجمع العالم في واحد

* * *

إن المرفرفين في حمى هذا القطب الإيماني والمنجذبين إليه لسمو غايته وجليل دعوته وعظمة إيمانه ونصاعة منهجه هم في ازدياد يوماً بعد يومٍ. فكما أن هذه الحادثة الجليلة المبهرة للألباب تغيظ المنكرين وتطفئ جذوة شوقهم، فهي أيضاً تمنح السرور والانشراح والسلوان للمؤمنين وتديم أفراحهم.

يعبر أحد المجاهدين الكبار عن هذه الحادثة الإلهية التي تديم حياتها وحيويتها في القلوب المؤمنة من العروة المعنوية، بأسلوب يسبغ على القلوب وجداً وطمأنينة بما يأتي:

«بينما الابتذال الخلقي المتفشي كطوفان عارم في أيام حالكة السواد بكل جهة وناحية، تكاد تخنق وتكبح كل فضيلة، نرى بسر إلهي سريان فيض الأستاذ بديع الزمان من قلب إلى قلب سريان السيل الذي لا يُقاوم، فنتسلّى وتقوى آمالنا… نعم، لقد أظلمت ليالينا بالسواد الداهم، فانجلاء الصبح إذن قريب.

أجل، إن الذين رأوا فيض هذا النور وتأثيره المنتشر بسر إلهي من قلب إلى قلب بشكل يستحيل مقاومته ومواجهته، في كل أرجاء البلاد، أحاطت بهم الحيرة، وبدءوا يتساءلون: «من هذا الرجل الذي أطبقت شهرته البلاد؟ وما سيرته وآثاره ومنهجه؟ وهل إن ما ينتهجه طريقة صوفية أم جمعية أو تحزب سياسي؟».

ولم ينحصر الأمر على هذا بل بدأت التحريات الحكومية الإدارية والعدلية، والتدقيقات الجادة، وأقيمت المحاكم الطويلة المتعاقبة، وظهر أخيراً أن هذا التجلي الإلهي ليس إلّا «مؤسسة إيمانية علمية» ضاربة أطنابها في عالم القلوب، وبهذا تحقق عدل القدر الإلهي على هذه الصورة: براءة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ ورسائل النور كافة وأُعلن ذلك رسمياً، وسطعت حقيقة القوانين الإلهية الجارية منذ الأزل إلى الأبد ألا وهو غلبة الروح على المادة، وانتصار الحق على الباطل وانهزام الظلمة أمام النور، وانحسار الكفر أمام الإيمان.

يقال: إن أصح معيار وأدق ميزان في صدق أي مصلح يظهر بأية بقعة وجديته وحقيقته، يكمن في ثنايا التغييرات الحاصلة بعد إحرازه النصر في حياته الفردية والاجتماعية والروحية عما كان عليه في أيامه الأولى من دعوته.

فلننظر مثلا للذي ظهر بدعوته متواضعاً، وسيماً، نبيلاً، مضحياً، يُحْتَمى به، وقدوةً ألمعيةً ونموذجاً جاداً ممتازاً متحلياً بالأخلاق الحميدة والفضائل السامية وطاهراً طهر الثلجِ بكل معنى الكلمة، فلننظر إليه بعد وصوله الغاية ونيله النصر وتبوّئه المكانة المرموقة في الأحاسيس والقلوب، أيثبت على نصاعته وطهره، أم يصبح بنشوة الانتصار وسكر الرفعة والعلا متكبراً يخرق الجبال؟.

أجل، إن هذه المرآة هي أصقل المرايا وأجلاها لإظهار الوجهة الأصيلة لماهيةِ وحقيقةِ أصحاب الدعوات وكنه شخصيتهم. والتاريخ يشهد بأحداثه الغابرة أن الأنبياء وفي مقدمتهم إمام المرسلين سيدنا محمد ﷺ ومن ثم خلفاؤه وأصحابه الكرام ومن سار على هديهم واستنار بنورهم من العظماء، هم الأسوة الحسنة والنموذج الأمثل في نيل المنى وكسب القدح المعلّى في معترك هذا الامتحان المذهل.

* * *

يبين الرسول الكريم ﷺ ببلاغته المعجزة في حديثه الشريف «العلماء ورثة الأنبياء» ثقل مهام العلماء ومدى صعوبـة وظيفتهم. ومادام هذا شأنـهم، إذن يستوجب عليهم في تبليغ الحق الأبلج والحقيقة السامية الامتثال بالأنبياء وسلوك طريقهم، مهما تخللها من الموانع، بل مكابدة التوقيف والاعتقال والنفي والسـجن الانفرادي، والتسميم، وحبال المشانق، وما لا يخطر بالبال من أساليب الظلم والتعذيب.

لقد قطع الأستاذ النُّورْسِيّ طوال حياته هذا الطريق الشاق لأكثر من نصف قرن بجهاده المقدس، واجتاز آلاف الموانع كالصاعقة، وأثبت فعلاً أنه بعلمه من «ورثة الأنبياء».

وقد شدّني من الأعماق من بين سعة علمه وسمو أدبه وحميد خلقه وفضائله الكثيرة، سعة إيمانه الثابت ثبات الرواسي الشم والعميق عمق البحار الغور.

فيا إلهي ما أعظمه من إيمان، وما أقواه من إرادة صلبة كالفولاذ، وما أعلاه من صبر لا يعرف النفاد إليه سبيلاً، وما أرفعه من رأس يتأبّى الخضوع للعبيد، وما أعلاه من صوت لا يـخفت ومن أنفاس لا تُخنق بالرغم من المضايقات والتهديدات التي تُرعد حتى الخيال وتُصبغ مشاهد الذكريات بالوجل والخوف!.

انظروا، ماذا يعد الله للمجاهدين في هذه الآية الكريمة: ﴿وَالَّذ۪ينَ جَاهَدُوا ف۪ينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۜ وَاِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنين (العنكبوت:69).

أجل، إن المجاهدين الذين باعوا أنفسهم ودنياهم لله في طريق الإيمان والقرآن يبشرهم بالهداية إلى سُبله، ولا شك أن الله لا يخلف وعده إذا تحقق ما يستوجب هذا الوعد الإلهي من الشروط. فتغدو هذه الآية الكريمة مرشداً نورانياً في تحليل شخصية الأستاذ النُّورْسِيّ وسيرته، بحيث نتمكن من رؤية أدق القسمات وأصغر النقاط كأنها حزمة لامعة مضيئة. وحين يكون الإنسان محط نعمة الله في الحفظ والحماية، فلا يكون للخوف والترهيب والحزن والملل والنكوص وأمثالها من الأمور أهمية تذكر. فأية غيوم قاتمة السواد تتمكن من إلقاء ظلها في قلب منوّر بنور الله، وأي أمل فانٍ ومطلب زائل والتفاتة غادية وتوجّه عاجز وغاية تافهة ومغانم سفلية نفسانية تستطيع تسكين وطمأنـة وتسلية روح عبدٍ تحظى بالصلة الربانية وتتشرف بالحضور السبحاني في كل آن ولحظة..

إن بديع الزمان شخصية تـمتاز بعناية ربانية خارقة، لذا غدت السجون، كرياض يشهد من خلالها الآفاق النورانية للعوالم الأبدية، وتعتبر أعواد المشانق ومنصة الإعدام محافل وعظه وكراسي إرشاده، فيلقي من فوقها دروس الصبر والثبات والمتانة والرجولة للإنسانية في سبيل غاية سامية. وتنقلب المعتقلات «مدارس يوسفية»، يدخلها كما يدخل الأساتذة الجامعات لإلقاء الدروس، لأن الموجودين فيها من المسجونين يعدّون تلامذة محتاجين إلى فيضه وإرشاده، ويعتبرُ إنقاذ بضع من المواطنين وإدخالهم إلى حظيرة الإيمان وجعل بعض الجناة إنساناً كالملك سعادةً لا تستبدل بشيء من متاع الدنيا الزائلة.

وإنسان يحمل في قلبه مثل هذا الإيمان والإخلاص ويستشعره في كينونته كل آن، لا بد أنه يدع تأثيـر البريق الكاذب الذي يخلفه مفهوما الزمان والمكان على أبناء الفناء القاصرين العاجزين في عالم الـمادة الكثيف، فينطلق بروحه إلى العالم المعنوي الشاسع آفاقه الفياض بالنور والهدى. وإن ما يسميه ويصفه كبار أقطاب الصوفية من المرتبة الكبـرى، من الفناء في الله والبقاء بالله، ليست هي إلّا نيل هذا الشرف السامي العظيم.

أجل، إن لكل مؤمن حالاً يخصّه من الطمأنينة والحضور والخشوع والتجرد والفيض والاستغراق، والكل ينهل بقدر إيمانه وعلمه وتقواه وبنسبة استفاضته من هذه السكينة الإلهية. ولكن هذا الحال الندي بجماله، والوصال العذب بطراوته وهذه السكينة الفريدة بجدتها دائمة النـزول على أربابِ الإحسان، أولئك المجاهدين العظام المذكورين في الآية الكريمة السابقة. لذا فإنهم لا يقعون في غفلة نسيان المولى الكريم، فيبارزون ويصارعون كالأسود الضواري أنفسهم الأمارة بالسوء طوال حياتهم، وكل لحظة من لحظات عمرهم تسجل أروع ذكريات التكمل والترقي. فإنـهم ينصهرون بكل موجوديتهم وديمومتهم في رضا رب العالمين المتصف بصفات الجمال والجلال والكمال.

لقد بحثنا آنفاً عن عظمة إيمانه الذي ينجذب إليه الأحباب، ويرتعد منه الأعداء، فينبغي البحث أيضاً عن شخصيته ومزاياه وأخلاقه وكمالاته المحيطة به كهالة من نور.

وكما هو معلوم أن لكل عظيم ميّزات معينة تحيط به وله سمات خاصة تميّزه عن غيره، والأستاذ النُّورْسِيّ أيضاً في تكوين شخصيته يمتاز بالصفات الآتية:

التضحية

تعد التضحية من أهم شروط التوفيق والنجاح لدى أصحاب الدعوات. وذلك لأن القلوب تميل والعيون تترقب بكل حساسية رؤية هذه الصفة المهمة، وحياة الأستاذ النُّورْسِيّ تزخر وتجود بأروع أمثلة التضحية والفداء.

وقد سمعتُ من العلامة المرحوم شيخ الإسلام مصطفى صبري كلاماً يصف به التضحية قائلاً: «يقتضي على حملة لواء الجهاد الإسلامي المقدس في هذا العصر العصيب التضحية ليس بحياتهم الدنيوية فحسب بل بحياتهم الأخروية أيضاً».

إنني لم أستسغ هذا الكلام الثقيل في معناه والمشحون في مغزاه والصادر من إنسان عظيم، فأقرنه بكلام المتصوفة وألغازهم التي يطلقونـها في حالة من الاستغراق والنـزعة الروحية، وأخذت على نفسي عهداً ألّا أبوح به لإنسان وألّا أخوض فيه في مجلس. وحينما قرأت الكلام نفسه في ثنايا العبارات الحماسية الهياجة للأستاذ النُّورْسِيّ، أدركت أن مقاييس التضحية تعظم بعظمة الفطاحل. نعم، «وتصغر في عين العظيم العظائم».

أجل، إن المجاهدين الذين يضحون بكل غال ونفيس ويتحملون المآسي الأليمة ويصبرون عليها، لن يتركهم المولى سبحانه على حالهم. وكيف يتركهم وهو المتعال القدوس الكريم في عليائه، وهو أرحم الراحمين. فتعالى الله الجليل علواً كبيراً أن يحرم رحمته وكرمه وعنايته عبدَه المضحي في سبيله.

وهكذا يعدّ بديع الزمان الأنموذج الأمثل لهذا التجرد الفريد؛ قضى عمره الزاخر متجرداً من كل متاع، محروماً من اللذائذ الدنيوية المشـروعة كافةً، فلم يجد الفرصة المتاحة ليتفكر في تكوين حياة عائلية سعيدة يجنح لظلها ويقضي حياة سعيدةً بكنفها. ولكن الله تعالى أحسن إليه إحساناً تعجز الأقلام عن تعريفه ووصف أمدائه.

فأي صاحب أسرة وأي ربِّ بيت أسعدُ اليومَ منه؟ وأي أب يُعدّ أبناؤه بالملايين؟ ويا لهم من أبناء بررة.. وأي معلم وأستاذ تتلمذ وتخرج على يديه هذا العدد الهائل من الطلاب؟.

وستدوم بإذن الله هذه العروة المقدسة ما دامت السماوات والأرض، وتسري كسيل من النور إلى أبد الآباد، فالدعوة الإلهية هذه نبعت من القرآن الكريم وتبلورت في بحر نوره، فمنه تستمد الوجود وبه تحيا.

الرأفة والشفقة

لقد وجد العارف بالله الأستاذ النُّورْسِيّ الحق والحقيقة منذ صغره، أيام لجوئه إلى المغارات للاستماع إلى أنين قلبه وآهاته وإنابة روحه ومناجاتها، حتى ذاق طعم الطاعة ورشف رحيق العبادة واستشم طيب التفكر، واستفاض في التربية الروحية والنفسية فوصل إلى الطمأنينة والسكينة.

وعندما أغار الكابوس الإلحادي وكأنه أمواج ليال مظلمة على العالم الإسلامي ولاسيما على بلدنا في تلك الأيام الخطرة التعسـة، وثب الأستاذ النُّورْسِيّ إلى ساحات الجهاد وثبة الأسد من عرينه، يتأجج وكأنه بركان منفجر، وفدى هذه الدعوة المقدسة بوجوده وكيانه. فغدت كل كلمة من كلماته وكل فكر من أفكاره منـذ ذلك اليوم وكأنها شواظ نار تتقد في القلوب وجمرة تستعر في الأحاسيس والأفكار.

يشبه رجوع الأستاذ النُّورْسِيّ إلى المجتمع للدعوة والإرشاد بعد الخلوة والعزلة والانزواء ما فعله الإمام الغزالي. ولا شك أن الله تعالى يزكّي ويصفي الخلّص من عباده المصطفَينَ الأخيار والمرشدين العظام فترة من الزمان في الخـلوات، ثم يحملهم وظيفة الإرشاد والدعوة، فأنفاس هؤلاء العظماء حين تلامس القلوب تبعث فيها الحياة.

وقد قام الأستاذ النُّورْسِيّ بفتوحات في شعاب الإيمان والإخلاص، كما قام أستاذه الإمام الغزالي قبل تسعمائة سنة بفتوحات في ميادين الأخلاق والفضيلة.

أجل، إن شفقةَ الأستاذ النُّورْسِيّ ورأفته ساقتاه دوماً لميادين الجهاد المرعب هذه، ولنستمع إلى هذه الحقيقة منه: «يقولون: لماذا تجرح فلاناً وعلاناً؟ لا أدري. لم أشعر ولم أتبين مما أرى أمامي من حريق هـائل يتصاعد لهيبه إلى الأعالي يحرق أبنائي ويضرم إيماني، وإذ أنا أسعى لإخماده وإنقاذ إيماني، يحاول أحدهم إعاقتي، فتـزل قدمي مصطدمةً به. فليس لهذه الحادثة الجزئية أهمية تذكر وقيمة أمام ضراوة النار؟ يا لها من عقول صغيرة ونظرات قاصرة!».

الاستغناء

قدم الأستاذ النُّورْسِيّ طوال حياته أروع نماذج الاستغناء عن الناس لمختلف طبقات مجتمعنا، حتى أصبحت تلك النماذج ملاحم تتناقلها الألسن. فاستغنى بكل موجوديته وسعة روحه وشخصيته عما سوى الله استغناءً تاماً، ولاذ إلى كنف رب العالمين واحتسب بسعة خزائن رحمته التي لا تعرف النفاد، واتخذ الاستغناء ليس عادة له فحسب بل مشرباً ومسلكاً ومذهباً ينتهجه عبر سني عمره، ولا يزال ثابت الخُطى كل الثبات في هذا الدرب مهما كلّفه ذلك من المصاعب والمتاعب.

والملفت للنظر أن هذا المسلك لم ينحصر في شخصه، بل انتقل إلى طلابه وأصبح مُناهم وغايتهم المقدسة في الحياة. ولا يمتلك الإنسان نفسه من الشغف بطالب النور المغتسل في بحر النور والمرتشف من نبعه الصافي.

وانظروا كيف يوضح الأستاذ النُّورْسِيّ في المكتوب الثاني من كتابه «المكتوبات» هذه النقطة في ستة أوجه بشعور إيماني وحس علمي.

« الأول: إن أهل الضلال يتهمون العلماء باتخاذهم العلم مغنماً، فيهاجمونهم ظلماً وعدواناً بقولهم: «إنهم يجعلون العلم والدين وسيلة لكسب معيشتهم» فيجب تكذيب هؤلاء تكذيباً فعلياً.

الثاني: نحن مكلّفون باتباع الأنبياء -عليهم السلام- في نشر الحق وتبليغه، وإن القرآن الكريم يذكُر الذين نشروا الحق بأنهم أظهروا الاستغناء عن الناس بقولهم: ﴿اِنْ اَجْرِيَ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ﴾ ﴿اِنْ اَجْرِيَ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ﴾ (هود:29). وإن الآية الكريمة: ﴿اِتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْـَٔلُكُمْ اَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (يس:21)، تفيد معاني جمّة، ومغزى عميقاً، فيما يخص مسألتنا هذه..».

وما التوفيق الإلهي في انتصارات رسائل النور إلّا ثمرة رجولة الثبات على منهج الرسل عليهم السلام واتخاذهم أسوة. ومن هذا المنطلق استطاع الأستاذ النُّورْسِيّ المحافظة على عزته العلمية التي لا تستبدل بملء الدنيا ذهباً.

وكيف لا يكون فاتحاً للقلوب من لا تعرف قيود الراتب والرتبة وأغلال المقام والثـروة وسلاسل المنافع الـمادية التي يلهث وراءها الناس إلى قلبه سبيلا، وكيف لا تمتلئ القلوب المؤمنة بنوره وفيضه.

الاقتصاد في المعيشة

الاقتصاد إن هو إلا إيضاح وتفسير لمعنى الاستغناء السالف ذكره، وللولوج إلى ديوانه ينبغي الدخول من باب الاستغناء، لذا إن عدّ أحدهما لازماً يعد الثاني ملزوماً له.

ومجاهد أغرّ مثل الأستاذ النُّورْسِيّ المتخذ الأنبياءَ عليهم السلام قدوة ورائداً في التجرد والاستغناء يلازمه الاقتصاد حتى يصبح شيمته الفطرية وخصلته العادية، فيكفيه من القوت اليومي قليلٌ من الحساء وكأسٌ من الماء وقطعة من الرغيف، ذلك أن هذا الإنسان العظيم كما يقول الشاعر الفرنسي الكبير المنصف «لامارتين»: «لا يعيش ليأكل، بل يسد رمقه ليديم الحياة».

فالأستاذ النُّورْسِيّ لم يحصر اقتصاده في المأكل والمشرب والملبس وما إليها من الأمور البسيطة، بل وسّعه بعدم الإسراف بالقيم الـمجردة والأمور المعنوية مثل الفكر والاستعداد والقابلية والوقت والزمن والنفْس والنفَس. وقد ساغ أسلوب هذه المحاسبة الدقيقة التي عاشها طوال حياته وجعلها سجية من سجاياه لطلابه كافة. وعلى هذا يصعب تلقين الأفكار أياً كانت، واستقراءُ الكتب كيفما اتفق لطالب النور. وذلك أن بؤرة قلبه المتضمن لكلمة «احذر!» هي أقوى محافظ له في مسيرته.

وهكذا أثبت النُّورْسِيّ بما أنشأ من رعيل طاهر أنه من نوادر الخلق وأنه مصلح قدير ومرب عليم بمداخل النفس الإنسانية ومساربها، وأضاف صحيفة واسعة مسطورة بنور لامع لتاريخ الاقتصاد.

التواضع والتجرد

هاتان الصفتان لهما تأثير بالغ الأهمية في انتشار رسائل النور في أرجاء المعمورة، لأن الأستاذ النُّورْسِيّ لم يُحِطْ نفسه بهالة «قطب العارفين» ولا برونق «غوث الواصلين»، لذا أحبّته القلوب وَسَعت إليه بكل ودّ ودفءٍ وفتحت أبوابها على مصاريعها لتستقبل غايته السامية استقبالاً. مثلاً: يوجه كثيراً من نصائحه وعظاته ودروسه في الأخلاق والفضائل والحكم والعبر إلى نفسه بشكل مباشر، ويضع نفسه موضع المخاطب الأول الوحيد لخطاباته القوية وكلماته الحادة الكاسحة، فينتشر النور من ذلك المركز إلى القلوب الظامئة للسلوان والأفئدة العطشى للسعادة والطمأنينة، كما تنتشر الأمواج الهائجة من المركز إلى المحيط.

الأستاذ النُّورْسِيّ متواضع وحليم في حياته الشخصية غاية التواضع والحلم، وهو يبذل كل ما في وسعه ليتجنب عن إيذاء الأفراد بل حتى أصغر الأحياء وأدناها. فيعاني ما لا يحصى من المشقات ويتجرع صنوفاً من المآزق ويكابد أنواعاً من المصاعب، شريطة أن لا يُتداخل بإيمانه ويمسّ كتابه المقدس القرآن الكريم مس سوء. إذ عندها ترون أن هذا البحر الساكن قد هاج وتلاطمت أمواجه وفار تنوره بطوفان يلقي الدهشة والحيرة ويستفرغ الفزع والهلع على سواحله، فهو بطل وجندي مغوار يحمي حدود الإيمان، أليس هو خادماً أميناً للقرآن الكريم يذود عنه بكل صدق. يوضح الأستاذ هذه الحقيقة بنفسه كما يلي: «كما لا ينبغي للجندي الخفير الرابض أن يترك سلاحه وإن أتاه القائد العام، وأنا أيضاً جندي من جند القرآن وخادم من خدامه، أصدع بالحق في وجه أعتى العتاة دون أن أطأطئ رأسي أمامه…»

* * *

كنت أتمنى أن أخوض الجانب العلمي والفكري والصوفي والأدبي للأستاذ بديع الزمان قبل استهلالي الكتاب، ولكني أدركت قطعاً أن هذه الموضوعات الشاملة والعميقة في فحواها لا يـمكن حصرها ضمن صفحات، لذا أكتفي بالإشارة إليها بعدة جمل:

علمه

يفيد الشاعر المرحوم «ضيا باشا» في بيت شعر له حقيقة عظمى تنتقل من جيل إلى جيل وهي:

العمل لا الأقوال مرآة الفرد  والأثر هو مقياس رتبة الـرجال

أجل، إن بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ الذي أتحف مكتبة العلم والإيمان «كليات رسائل النور» لشعبنا المسلم، والذي أسس مدرسة نورانية مقدسة في القلوب، شخصيةٌ فريدة ممتازة مستغنية عن البحث والإطناب في مقدرته العلمية، كما تستغني الشمس عن الوصف في رابعة النهار.

غير أنه كما يقول شاعر محروق الفؤاد: الحُسْنُ ما سلب الإرادة…!

إن الباحث عن حياة هذا العملاق وكماله وخُلقه وسجيته المحفوف بالنفحات الإلهية والمهلّ بالتجليات السبحانية في كل لحظة من لحظات حياته، يجد ذوقاً نـزيهاً رفيعاً، وسكينة إلهية سامية. لذا يأخذ بالإسهاب في الكلام ويُسلب الاختيار عنه ولا يتمالك نفسه غير الانسياق وراءها.

لقد بحث الأستاذ النُّورْسِيّ في كليات رسائل النور عن أمهات الموضوعات من الدين والاجتماع والأدب والحقوق والفلسفة والتصوف ووفّق غاية التوفيق فيها. والملفت للنظر أنه خاض عباب المسائل المستعصية المعقدة التي وقع كثيـر من العلماء في تيه منها، وتنكبوا الصراط القويم في حلّها، فوضحها بكل يسر وبشكل قاطع، ووصل إلى ساحل السلامة وأوصل قراء رسائله إليها بسلوكه طريق أهل السنة والجماعة.

فمن هذا المنطلق نكون محظوظين بتقديم كليات رسائل النور لطبقات مجتمعنا كافة بكل أمانـة ورحابة صدر. وهذه الرسائل قطرات براقة من محيط القرآن الكريم وحُزَمُ نورانية من طيف شمس الهداية. لذا تعدّ الوظيفةَ المقدسة الملقاة على كل مسلم غيور السعي لنشر هذه الرسائل لإنقاذ إيـمان الآخرين. فالتاريخ يشهد بأمثلة كثيرة لهداية الأفراد والعوائل والشعوب وما لا تحد من المجتمعات البشريـة ونيلهم السعادة من خلال كتاب واحد.. ويا فرحتاه لذلك الإنسان الذي يكون سبباً لهداية وإيمان أخيه الإنسان..

فكره

من المعلوم أن لكل مفكر نهجاً خاصاً وفكراً متميزاً، وله غاية يسعى لها في حياته الفكرية، وهدف يرتبط به من صميم قلبه ارتباطاً وثيقاً. ولأجل البحث عن فكره واستساغة نهجه وهدفه تسرد مقدمات طويلة. ولكنه من اليسر استخلاص فكر الأستاذ ونهجه وهدفه وغايته في عبارة: «إن الغاية الوحيدة للكتب السماوية والدعوة الفريدة للأنبياء كافة هي: «إعلان ألوهية خالق الكائنات ووحدانيته» واثبات هذه الدعوة العظمى بالدلائل العلمية والمنطقية والفلسفية».

فهل يعني هذا أن للأستاذ النُّورْسِيّ علاقة بالمنطق والفلسفة والعلوم الكونية؟

أجل، إن الأستاذ النُّورْسِيّ هو منطقي عظيم وفيلسوف قدير ما دام المنطق والفلسفة يتصالحان مع القرآن الكريم، وينتهجان صراط خدمة الحق والحقيقة،لأجل إثبات مدى أحقية دعوته العالمية المقدسة. فيأخذ العلمَ بيمينه ليثبت به مرة أخرى أن القرآن الكريم هو كلام الله الأزلي بأسطع الأدلة والبراهين القاطعة.

وكلما تقترب الفلسفة من معنى الحكمة يصبح كل كتابِ حكمةٍ عظيمةً ومؤلفُه حكيماً بارعاً في طريق إثبات وجود الباري الكريم بالصفات المقدسة التي تليق به.

وبسلوك الأستاذ النُّورْسِيّ هذا الصراط العلمي القويم، صراطَ القرآن الكريم النوراني، نال شرف إنقاذ إيمانِ آلاف من طلبة الجامعات. وهو الحائز لميزات علمية وأدبية وفلسفية كثيرة في هذا الجانب.

تصوفه

لقد سألت يوماً عالماً جليلاً من الطريقة النقشبندية، يجهد بكل ما وسعه اتباع الرسول الكريم ﷺ في حركاته كافة: «ما سبب توتر العلاقات بين المتصوفة والعلماء؟».

فقال: «لقد ورث العلماء علم الرسول ﷺ والمتصوفة عملَه، لذا يطلق على من يرث علم الرسول وعمله معاً «ذو الجناحين» وعليه فالمقصود من الطريقة العمل بالعزائم دون الرخص، والتخلق بأخلاق الرسول ﷺ والتـزكية من الأسقام المعنوية كافة والفناء في رضا الله تعالى، والذي يحوز على هذه المرتبة العظمى لا شك أنه من أهل الحقيقة. وهذا يعني أنه قد توصل إلى الغاية المقصودة والمطلوبة من «الطريقة». ولكون نيل هذه المرتبة العظمى لا يتيسر لكل أحد، وضع عظماؤنا قواعد معينة تُوصل إلى الهدف المقصود بيسر وسهولة. والخلاصة: أن الطريقة تدور ضمن دائـرة الشريعة، فالساقط منها يسقط في دائرة الشريعة، أما الذي يخرج من دائرة الشريعة -معاذ الله- فإنه يخسر خسراناً مبيناً».

واستناداً إلى مقولة هذا العالم الجليل، ليس هناك فارق جوهري بين ما انتهجه بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ من الصراط النـوراني والتصوف الحقيقي الذي لا شـائبة فيه. وكلاهما يؤديان إلى رضاء الباري الكريم وبدوره إلى الجنة العالية ورؤية جمال المولى الكريم.

وبناء عليه يستطيع أيّ من إخواننا المتصوفين الذين يستهدفون تلك الغاية النبيلة الأصيلة قراءة كليات رسائل النور بكل ودّ ومحبة دون أيّ مانع يذكر، بل إن رسائل النور قد وسّعت دائرة مراقبة التصوف بالصراط القرآني وأضافت إليها وظيفة التفكر بمثابة ورد مهم.

أجل، إن السالك المنشغل بمراقبة قلبه يفتح بهذا التفكر آفاقاً واسعة أمام نظره وقلبه، فيشاهد ويراقب بفؤاده ولطائفه كافة الكائنات بكل عظمتها، ابتداءً من الذرات إلى السيارات، ويرى بكل وجد في تلك العوالم تجليات أسماء الله تعالى وصفاته الجليلة بألف تجلٍ وتجلٍ، وبهذا يرى ويحس بعلم اليقين وعين اليقين بل بحق اليقين أنه في مسجد لا منتهى له يدخله ما لا تستوعبه الأرقام من الجماعات، الذاكرين خالقهم بكل خشوع وشوق وودّ ونشوة. ويرددون بصوت واحد تتخلله الألحان العذبة والأنغام المنسجمة والإيحاءات المتناسقة بشتى اللغات معاً: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر».

وهكذا يدخل المتبع للسبيل النوراني الإيماني البرهاني الذي افتتحته رسائل النور إلى القرآن والإيمان والعلم مثل هذا المسجد العظيم، ويستفيد الكل بقدر إيمانه وإخلاصه وعلمه من هذا النبع الزاخر.

أدبه

لقد افترق الأدباء والشعراء والمتفكرون والعلماء منذ القدم من حيث اللفظ والمعنى والأسلوب والمحتوى إلى قسمين. فمنهم من اهتم بالأسلوب والإفادة والوزن والقافية فحسب، وضحّوا بالمعنى للأسلوب، وهذا ما ظهر واضحاً في الشعر. أما القسم الآخر فقد رجحوا المحتوى والمعنى ولم يضحوا بالمغزى للفظ والأسلوب.

ولأن الأستاذ عبقريّ فذّ لم يصرف عمره الزاخر المعطاء، بتنسيق الكلمات وتنظيم الألفاظ، بل على العكس من ذلك جعل شغله الشاغل إحياء الحس الديني والشعور الإيماني ومفهوم الفضائل والأخلاق أمنيته ومبتغاه بترسيخها في الأرواح والوجدان والأفكار لتنتقل عبر العصور والدهور للأجيال القادمة. ومن الطبيعي لمثل هذا المجاهد المضحي بكل ما لديه من النَّفَس والحياة لتحقيق هذه الغاية السامية أن لا ينشغل بزخارف اللفظ وشكليات الأسلوب.

ومع هذا يمكن القول: إن الأستاذ من حيث رشاقة الذوق ورهافة الفؤاد وعمق الفكر وبُعد الخيال صاحب ملكة أدبية إبداعية خارقة، لذا ينتهج أسلوباً مميزاً وتعبيراً متغايراً حسب الموضوع؛ فبينما يريد إقناع العقل بالدلائل المنطقية في المواضيع الفلسفية تراه يستعمل التعابير الوجيزة، ولكن عندما يروم الارتقاء بالقلب، والاستعلاء بالروح يأخذ بمجامع النفس؛ فمثلاً: عندما يبحث عن السماء، والشموس، والنجوم، وأنوار الأقمار، ولاسيما عن عالم الربيع وتجليات قدرة الخالق وعظمته في هذه العوالم، يتخذ أسلوبُه لطافة ورقّة، وكأن كل تشبيه من كلامه يستذكر لوحة فنية رائعة محاطة بهالة من أجمل الألوان وأعذبها.. وكل تصوير من تصويراته تنفخ الحياة في عالم مليء بأكبر الخوارق.

ومن هذا السر يمكن لطالب النور الجامعي أن يشبع حسه وفكره وروحه ووجدانه وخياله جميعاً بقراءة كليات رسائل النور. وكيف لا يطمئن ورسائل النور باقة مختارة من جنان القرآن الكريم المستوعب للعوالم والأكوان، ففيها عبير رياض الرحمن المبارك ونفحاته ونوره وضياؤه.


[1]  هذه المقدمة كتبها العالم الفاضل والشاعر التركي الكبير «علي علوي قوروجو» ساكن «المدينة المنورة»، وبعثها إلى الأستاذ النورسي، فأشار بوضعها في بداية كتاب «تاريخ الحياة» باللغة التركية. وقد تفضل مشكوراً الأخ «جميل شانلي» بترجمتها إلى العربية.