نظرة الأستاذ النُّورْسِيّ إلى سيرته الذاتية

حياتي بذرة لخدمة القرآن

«لقد تحقق لديّ يقيناً أن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيـري، إذ أُعطي لها سيرٌ معينٌ ووُجّهت وجهةً غريبةً لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بـمثابة مقدمات تمهيدية لبيان إعجاز القرآن بـ«الكلمات»([1]) حتى إنه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس -دون سبب أو مبـرر وبـما يخالف رغبتي- أُمضي أيام حياتي في قرية نائية خلافاً لـمشربي وعازفاً عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتُها سابقاً.. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لا يداخلها شك من أنه تهيئة لي وتحضير للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لا شائبة فيها.

بل إنني على قناعة تامة من أن المضايقات التي يضايقونني بها في أغلب الأوقات والعنت الذي أرزح تحته ظلماً، إنما هو لدفعي -بِيَد عناية خفية رحيمة- إلى حصر النظر في أسرار القرآن دون سواها. وعدمِ تشتيـت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من أنني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وُهبتْ روحي مجانبةٌ وإعراضٌ عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فأدركت أن الذي دفعني إلى ترك المطالعة -التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة- ليس إلّا كون الآيات القرآنية وحدها أستاذاً مطلقاً لي.([2])

نعم، إن بذرة شجرة الصنوبر التي هي بحجم حبة الحنطة تكون منشأً لشجرة صنوبـر ضخمة؛ فالقدرة الإلهية تخلق تلك الشجرة العجيبة من تلك البذرة، وقد لا توجد للبذرة إلّا حصة واحدة من مليون حصة من الخلق، حيث سَطّر فيها قلمُ القدر فهرساً معنوياً لتلك الشجرة. فلو لم يُسـند الأمر إلى القدرة الإلهية للزم وجود مصانع تَسَعُ مدينة كاملة كي تتكون تلك الشجرة العجيبة بأغصانها المتشعبة.

وهكذا، فإن إحدى دلائل عظمة الله وقدرته سبحانه هو أنه يخلق من شيء صغير جداً كالذرة، أشياء عظيمة عظمة الجبال. وبمثل هذا المثال أُعلنُ باقتناع تام وبخالص نيتي ولا أتكلف التواضع ونكران الذات، فأقول: إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة، لكي تكون مبدأً لخدمة إيـمانية جليلة، قد منحت العناية الإلهية منها في هذا الزمان شجرة مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم.

فأُقسم لكم لتطمئنوا فأقول: إنني ما كنت أجد في نفسي قابلية ولا مزيّة ولا أهلية فائقة لتلك الخوارق التي مرّت في حياتي، لذا كنت أتقلب في حيرة. بل ما أجد في نفسي كفاءة لتدبير أمورها وارتباطها بعلاقات بالمجتمع فكيف لها بدهاء خارق وولاية خارقة!

نعم، لقد ظهرت حالاتٌ جلبت الأنظار إليّ، ولكنها كانت خارجة عن إرادتي واختياري، حتى بدت كأنها نوع من جلب الإعجاب، وما كانت إلّا من قبيل عدم تكذيب حسن الظن الذي كان يحمله الناس نحوي.

ولكن لما كنت أجهل الحكمة في عدم كوني في الحقيقة على ما يظنه الناس بي، ولا أفيد شيئا للدنيا، وها قد أصبحتُ موضع توجه الناس بما يفوقني بألف مرتبة ومرتبة، لذا كنت أتلقى هذا الأمر باعتباره خلافاً للحقيقة كليا.

ولكن بفضل الله وكرمه، وألف حمد وشكر له، إذ قد أنعم عليّ فهم شيء من حكمة ذلك الأمر، في أواخر أيامي بعد قضاء ما يقرب من ثمانين سنة من العمر…

فمثلاً: إن هذا المسكين سعيداً، برغم حاجته الشديدة إلى الكتابة وجودة الخط، وانشغاله بها منذ سبعين سنة، واضطراره إلى تصحيح مأتي صفحة في اليوم الواحد أحيانا، لا يملك من الخط ما يتعلمه طفل ذكي في العاشر من العمر في عشرة أيام. هذا الأمر محيّـر حقاً، إذ لم يكن سعيد محروماً من القابليات كلياً، فضلا عن أن أشقاءه يجيدون الخط وحسن الكتابة.

فأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن حكمة بقائي نصف أُمّي برداءة الخط وأنا في أشد الحاجة إليه هي: أنه سيأتي زمان لا يمكن للقدرات والقوى الشخصية والجزئية أن تقاوم وتصدّ هجوم أعداء رهيبين، فيبحث «سعيد» بحثا حثيثا عن الذين يملكون خطاً جيداً ليشركهم في خدمته فيشكلون معاً آلاف الأقلام التي تحوّل تلك الخدمة الشخصية الجزئية إلى خدمة كلية عامة قوية، إذ يجتمعون حول تلك البذرة، بذرةِ النور، اجتماعَ الماء والهواء والنور، ويمدّون تلك الشجرة المعنوية بالعون. ففضلا عن هذه الحكمة، فإن إذابة أنانيته في حوض الجماعة المبارك كإذابة قالب الثلج نيلاً للإخلاص الحقيقي، حكمةٌ أخرى تدفع لخدمة الإيمان.([3])

إنني ضمرت ضمور البذرة النابتة، وأعتقد أن الأهمية والقيمة والحيوية والشرف والمنـزلة كلها قد سارت إلى رسائل النور التي نـمت من تلك البذرة، ولأجل ذلك أُظهر قيمة رسائل النور وأهميتها إظهاراً لإعجاز القرآن».([4])


[1] أي كليات رسائل النور.

[2] المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون.

[3] الملاحق، ملحق أميرداغ 2.

[4] الشعاعات، الشعاع الثامن، الرمز الثامن.