الفصل الرابع أوراق من الذكريات

الصلاة في أوقاتها

كان الأستاذ جمّ الخشوع في صلاته ويقرأ الآيات آية بعد آية، وبعدما يقف منتصباً للصلاة ينوي ثم يكبر بـ«الله أكبر» بصوت عال جداً يكاد دويه يهز البيت الخشبي الذي يسكنه، وكانت الرهبة تملأنا ونحن خلفه مأمومون.

كان يهتم كثيراً بأوقات الصلاة وحريصاً عليها كل الحرص، وأسوق هنا مثالاً:

خرجنا يوماً من إسبارطة إلى أميرداغ ولم يبق إلّا خمس دقائق للوصول إلى أميرداغ وإذا بوقت الصلاة قد حان، فنظر الأستاذ إلى ساعته فأقام بنا الصلاة. ولم يكن الأستاذ يبالي بالبرد القارس ولا بالمطر إذا ما حان وقت الصلاة. فكنا نؤديها في أوقاتها في الحل والترحال، وكان يقول:

«إن أكثر من مائة مليون شخص من كل أرجاء العالم الإسلامي يجتمعون في الجامع المعظم ويشكلون جماعة كبرى لأداء كل صلاة في وقتها، فكل فرد من هذه الجماعة يدعو للجماعة كلها بقوله: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ﴾ فهذه الآية الكريمة تصبح بمثابة دعاء وشفيع لكل فرد من أفراد الجماعة. نفهم من هذا: عِظم الثواب غير المتناهي والأخروي الذي يناله الفرد المؤدي صلاته في أوقاتها فالذي لا يشترك إذن مع هذه الجماعة لا يحصل على حظه من ذلك الثواب، مثله في هذا: الجندي الذي لم يجلب قصعته لأخذ طعامه من المطبخ الرئيس فلا يستلم أرزاقه المخصصة، أي إن الذي لا يؤدي الصلوات في أوقاتها كأنه لا يأخذ أرزاقه المعنوية من القدر الرئيس في المطبخ المعنوي للجماعة الكبرى».

تسبيحات الأستاذ

يقول ملا حميد: «كنت أنشرح كثيراً عندما أصلي مقتدياً بالأستاذ، كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعاً. وكان يرشدنا إلى أن التسبيحات والأذكار عقب الصلاة إنما هي بحكم نوى وبذور للصلاة، وكان يسبّح ويذكر الله بصوت رخيم حزين، فعندما يقول: «سبحان الله.. سبحان الله» كنا نسمعه يصدر على مهل من أعماق أعماق قلبه.

إنني شخصياً لم أرَ مثل الأستاذ قط مَن يصلي ثم يسبح بهذا الخشوع والحزن، مع أنني رأيت كثيراً من الشيوخ والعلماء.

وعندما كان يقول: «لا اله إلّا الله» ويبدأ بالتسبيحات ويستمر بها يصبح صوته كفرقعة المدافع في قوته وشدته، فلو كان عنده شخص من أهل الطريقة الصوفية إذن لأخذته الجذبة والشوق!».

أذكار الليل

كان الأستاذ ينام قليلاً ويأكل قليلاً جداً بحيث لا يكفي لإشباع حاجة الإنسان الاعتيادي وكان يقول لنا: «النوم الفطري والطبيعي هو خمس ساعات في اليوم».

وكان من عاداته -التي لم يتخل عنها طوال حياته المباركة- أن يقضي الليالي بالتسبيح والتهليل والدعاء والمناجاة والتهجد، وكان على وضوء دائم، وكان جيران الأستاذ في إسبارطة وبارلا وأميرداغ يقولون لنا: «كلما نظرنا إلى بيت الأستاذ في الليل رأينا مصباحه الخافت مضاء، ونسمع أنين أذكاره الحزين ودعاءه الرقيق».

الأشهر الثلاثة

عندما كان الأستاذ في إسبارطة، حلت الشهور الثلاثة: رجب، شعبان، رمضان. فقام بتوزيع أجزاء القرآن الكريم، لكل طالب جزء من التلاوة اليومية ليختم القرآن الكريم كل يوم في هذه الشهور المباركة، فيرفع إلى الملأ الأعلى قرآناً كاملاً من طلاب النور في «ساو، قوله أونلو، أتابَيْ، بازانون» فحظيت هذه النواحي ببركة ختم القرآن يومياً بعمل الأستاذ هذا. وفي الوقت نفسه كان الأستاذ يدعو الله سبحانه كثيراً ويذكر أسماء الطلاب في دعائه مستشفعاً برسول الله ﷺ ومنادياً باسمه وأصحابه الكرام.

وكان يستيقظ من الليل مبكراً ليصلي صلاة التهجد وينهي أوراده وتسبيحاته قبل صلاة الفجر بساعة، ثم يتضرع باسطاً يديه للدعاء رافعاً بهما إلى السماء، فيطيل في الدعاء بمقدار ساعة كاملة تقريباً، ونحن في هذا الوقت لا نجرؤ على دخول غرفة الأستاذ حتى يفرغ من دعائه، علماً أنه كان ينام بعد صلاة العشاء مباشرة دون انتظار شيء.

ليالي رمضان

كان الأستاذ في النصف الثاني من شهر رمضان المبارك يقيم الليل كله ولا ينام وما كان يسمح لنا أن ننام أيضاً. وفي أكثر الأحيان كان يتفقدنا فإذا رأى أحدنا نائماً يرش عليه الماء ويوقظه، فعلمنا السهر. فكنا نقيم الليالي المباركة ونبقى مستيقظين حتى صلاة الفجر وبعدها ننام. وكان يذكرنا بالحديث الشريف: «تَحَرّوا لَيلَة القَدر في الوتر من العَشر الأوَاخرِ من رَمضَان». ويعلمنا بأن هذه الليالي تتضمن ليلة مباركة هي ليلة القدر يعادل الثواب فيها ثواب عبادة ثمانين سنة.

وكان الأستاذ ينشغل بأوراده طوال شهر رمضان ويقرأ جزءاً واحداً كاملاً من القرآن الكريم كل يوم ويحثنا على التلاوة فكنا نقرأ جزءاً كل يوم أيضاً. وكان يعطينا من زكاة فطره. ويقول لنا: «أنتم طلاب علوم، يمكنكم أن تتبادلوا فيما بينكم زكاة الفطر». فنقوم بتطبيق ما يأمرنا به. فكنا نبتاع القمح بتلك الدراهم. ففي بعض الأحيان كنا نوصي بعمل الخبز. ولا نصرف شيئاً ولا ننفق إلّا باقتصاد تام.

[وقد لخص لي الأخ الكبير «مصطفى صونغور» مداومة الأستاذ على قراءة الأذكار والأوراد بالآتي:]

كان الأستاذ لا يسمح قطعاً بترك الأذكار الواردة سنةً مؤكدة عقب الصلوات وهي «سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر» ثلاثاً وثلاثين مرة وكذا «لا إله إلا الله» كما ورد ذلك في رسالته في «ملحق قسطموني» حول المتكاسل في الأذكار وكان يدعو بدعاء «ترجمان الاسم الأعظم» الذي يبدأ «سبحانك يا الله، تعاليت يارحمن، أجرنا من النار، بعفوك يارحمن» عقب صلاة الصبح والعصر.

أما بين المغرب والعشاء فكان يذكر ما ورد في بداية «اللمعات» من دعاء سيدنا يونس وأيوب عليهما السلام.

وبالنسبة لدعاء الجوشن الكبير والأوراد القدسية للشاه النقشبند، فقد داوم عليهما وبيّن أهميتهما في نهاية «اللمعة الثالثة عشرة». أما «دلائل النور» فهي مختارات من الصلوات المشهورة لدى الأولياء كالشيخ الگيلاني والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي والجنيد البغدادي وأمثالهم من الأقطاب. ولم يبين الأستاذ لهذه الصلوات وقتاً معيناً، وقد شاهدناه في سجن أفيون سنة 1949 يقرؤها قبل الفجر بعد انشغاله بالعبادات أربع ساعات ليلاً. ولكن عندما تجاوز به العمر في سنة 1954 قال قصرت أورادي إلى ساعتين.

وعلاوة على ذلك كان يقرأ «السكينة» و«التحميدية» تسع عشرة مرة يومياً، وقد شاهدناه يقرأ ذلك الدعاء ونحن داخلون عليه للدرس. إلّا أننا لم نسمع عنه ولم نشاهد أنه خصص وقتاً معيناً لقراءته.

وحسب ما أدركنا من الأستاذ، إنه ليس هناك قيد لقراءة الأدعية كلها يومياً. أو تخصيص قراءة أحد الأدعية يومياً. بل الأفضل أن يقرأ مقداراً معيناً من دعاء الجوشن يومياً.

التجويد المعنوي

كان الأستاذ يقرأ في الصلوات الجهرية -عندما كان في بارلا- ولاسيما صلاة الصبح السورَ التي تبدأ بـ«الحمد لله».. وكانت قراءته قراءة فوق المعتادة، فكأنه كان يشرح الآيات ويفسرها حيث كانت قراءته تحيط بروحه، فتشعر كأن هالة من نور إلهي يغمرك. فقراءته كانت تختلف تماماً عن قراءة غيره من قراء القرآن. فقد كان يقرأه حسب معناه أي حسب التجويد المعنوي.

بتّ ليلة عنده في بارلا. كان يقوم الليل كله إلا قليلاً أما مصلياً أو ذاكراً أو مسبحاً. وما كان ينام إلا قليلاً.

شاركني في الدعاء

كان يقوم لصلاة التهجد كل ليلة. وكنت أحياناً أراه وهو يصلي فلا أستطيع النوم. وعندما كان يراني مستيقظاً يقول لي: ما دمت مستيقظاً فتعال وشاركني في الدعاء.

ولكني كنت أجهل قراءة أي دعاء، فكان يقول لي: سأدعو أنا وردِّد أنت بعدي: آمين، فأنا أدعو بدعاء سيدنا يونس عليه السلام وبدعاء «أويس القرني» وأطرق باب رحمة الله بهما.

وكنت أغفو أحياناً في أثناء الدعاء فكان ينظر إليّ ويقول: لقد كنتُ أنا أيضاً مثلك.. ولكنك ستتعود.

لا راحة بعد اليوم

عندما كان ينشغل الأستاذ بعباداته وتضرعاته ومناجاته كان يجلس جلسة التشهد في الصلاة، وكان يطيل هذا النوع من الجلوس ساعات طوالا، حتى إنه من جراء هذا الجلوس تقرحت إصبع قدمه.

فذات يوم طلب من أحد طلابه وهو -مَلّا رَسُول-  مرهماً لمداواة إصبعه الذي كان منهمكاً في إيقاد الحطب وإشعاله في الموقد. فالتفت إليه ملا رسول قائلاً: ونحن أيضاً نخشى الله ونخافه يا أستاذنا، ولكنك ترتعد من خشيتك حتى تكاد مرارتك تنفجر. فلو كنت تجلس مطمئناً مثلنا لما تقرحت إصبعك!

فأجابه قائلاً: ملا رسول! ملا رسول! لقد جئنا إلى هنا لكي نظفر بحياة أبدية خالدة، بهذا العمر القصير والدنيا القصيرة. أأعيش هنا كيفما أشاء ثم أدّعي الجنة وأطلبها.. لا يجوز هذا أبداً…! فلا أجرؤ على العيش كما أهوى!

كان الأستاذ يقول هذا وملا رسول يضع المرهم على الجرح أملا بالشفاء.

كيف كان يقضي أوقاته؟

يقول أحد تلاميذه: على جوانب نبع «الزرنباد» الصافي القريب من جبل «أرَك» تتكاثف الأشجار وتلتف أغصانها وتتشابك، صنعنا للأستاذ ما يشبه منصة خشبية كي يجلس عليها فوق الشجر. أما نحن فكنا نجلس على الأرض تحت ظلال الأشجار.

كان الأستاذ لا يصرف وقته سدى قط، فلا أراه إلا قائماً يصلي أو داعياً متضرعاً أو مسبحاً ذاكراً أو متأملاً في ملكوت السماوات والأرض، فهو حتماً منشغل بشغل يهمه. وحينما يزوره الأصدقاء كان يكلمهم، ويأخذ معهم بأطراف الحديث، وأول ما يبادرهم بالسؤال: هل من مسجد في قريتكم؟ وأي درس يدرّسه أئمة المساجد؟ فإذا أجابه الزائر بأنه ليس لديهم مسجد ولا معلم يعلمهم كان يتألم كثيراً ويحزن، ويعجب من أمرهم كيف يعيشون في مكان ليس فيه مسجد ولا مرشد؟!

وكان يغضب كثيراً من الغيبة والكذب ولا يسمح -بأي حال- لأحد أن يغتاب أحداً عنده.

لم يؤذ حتى النملة

بدأ الجو يبرد شيئاً فشيئاً حيث الشتاء مقبل ونحن لازلنا على جبل أرك، كنا نتوقع هطول أمطار غزيرة وتساقط الثلوج بكثرة وكان المكان الذي نبقى فيه هو على شكل ربوة أو مرتفع صغير، فأراد الأستاذ أن نبني غرفة. فبدأنا ببناء الغرفة على هذا المرتفع، وعندما حفرنا الأساس وجدنا مملكة للنمل، ولما رأى الأستاذ النمل أمرنا بالتوقف، فسألناه عن السبب، قال: هل يجوز بناء بيت بهدم بيت آخر؟ لا تخربوا بيوت هذه الحيوانات. احفروا في مكان آخر غيره.

فبدأنا نحفر في مكان آخر فوجدنا مملكة أخرى أيضاً للنمل، وحفرنا ثالثة فوجدنا الشيء نفسه. وهكذا تكررت العملية ثلاث مرات. فسألني أحد الطلاب الذي كان يساعدني في هذا العمل: هل سيستمر الأمر هكذا؟ علينا أن نحفر في مكان ما فإذا ظهر النمل واريناه التراب لئلا يراه الأستاذ ومن بعد ذلك نستمر بالحفر، وإلا فسوف نظل إلى العشاء ولما نقم بشيء، فليس في هذه المنطقة شبر إلا وفيها مملكة للنمل.

وعلى كل حال بنينا غرفة صغيرة للأستاذ هناك، فكان الأستاذ كلما يرى النمل ويشاهد مملكته في الغرفة يقدم له البرغل والسكر وفتات الخبز.

فسألناه عن سبب تقديمه السكر للنمل فأجابنا ضاحكاً: فليكن السكر شاياً لهم!

كان الأستاذ شديد الشفقة والرأفة بالأحياء فلم أره طول حياته يؤذي حيواناً حتى النمل.

نظرة حرام

يقول تلميذه: عندما كنا مع الأستاذ في جبل «أرك»، أعددت مجموعة من الأسئلة علني أجد جوابها عنده، ولكن أثناء حديثه في جلستنا الاعتيادية أخذت جواب أسئلتي من دون أن أسأله عنها، وبقى لدىّ سؤال واحد فقط دون جواب، وهو سؤال يتعلق بالنظر إلى النساء.. ظل السؤال يدور في صدري من دون أن أبوح به، وإذا بالأستاذ يضرب فخذه بقوة ويقول: أنا لست راضياً عن أعمال سعيد القديم وتصرفاته، سوى ثلاث حالات كانت عنده، فأنا راض عنها… ثم قال: كنت أستبدل كل أسبوع ملابسي وأختار أجملها وأكثرها أناقة أيام كنت في إسطنبول ذات الحياة البراقة البهيجة.. كنت أذهب إلى أجمل مناطقها حتى إن أصدقائي العلماء التفتوا إلى هذه الظاهرة، فعينوا أحدهم -دون علمي- مراقباً لتصرفاتي وأوصوه بملاحظة جميع ما أقوم به واعمل.

وبعد مضي ثلاثة أيام -من المراقبة الخفية- جمعتنا جلسة معهم، فقالوا لي:

يا أخانا سعيد أنت على حق مهما عملت من عمل، فأنت مسدّد إلى الحق وسيوفقك الله.

استغربت هذا الكلام ومن حكمهم هذا عليّ، وعندما استفسرت عن السبب. قالوا:

كنا نراقبك منذ ثلاثة أيام، ونحصي تصرفاتك في جميع مناطق إسطنبول، ومن دون علمك، فلم نر ما يخالف الإسلام قط بل رأيناك منهمكاً بنفسك دون الآخرين، ولهذا نسأل الله أن يوفقك في مسعاك…

نعم، يا إخوتي! كما أن ناراً صغيرة بل حقيرة -كعود الكبريت- تحرق غابة عظيمة كثيفة تدريجياً وتجعلها أثراً بعد عين، كذلك النظرة إلى النساء تحرق عمل المؤمن اليومي شيئاً فشيئاً.. وأخشى أن تكون عاقبتها وخيمة. ثم أضاف: إن سعيداً القديم وهو في عنفوان شبابه وفي قلب إسطنبول وطوال عشر سنوات لم ينظر نظرة حرام ولو مرة واحدة ولله الحمد.

إصلاح الأسس

كان الأستاذ يعظ الناس في جامع «نورشين» أيام الجمع، فكان الحديث في الوعظ يدور حول مسائل الحشر، والآخرة، والتوحيد وما شابهها من مسائل الإيمان الأساسية وحقائقه الكبرى. فسأله «ملا رسول» ذات يوم قائلا: أخي الأستاذ، نحن لا نكاد نفهم موعظتك فكيف غيرنا؟! فأجابه الأستاذ: نعم، إن مواعظي غير مفهومة غالباً، لأن غايتي إصلاح الأسس التي يبنى عليها الإيمان، فإذا أصبح الأساس صلباً قوياً فلا يؤثر فيه مؤثر بعد حتى الزلازل. فليجلس أحدكم إذاً بجنبي كي يذكرني عندما يصبح الموضوع غامضاً، لأبسطه بسطاً وأشرحه واضحاً.

حياة كلها عمل

في صباح يوم جميل من أيام الربيع، ذهبت لأجمع الحطب، وكان الأستاذ يعاونني في العمل، فلم أقبل منه ذلك. فقلت: أستاذي الكريم إنني أكفيك العمل فلا تتعب نفسك.

أجابني قائلاً: أخي، إن همتي وغيرتي لا تسمحان لي بالقعود وأنت تعمل أمامي. فلو عرفتَ ما في الغيرة والهمة من خير لكنت تقضي عمرك كله دون أن تخلد إلى الراحة، فما كانت تفوتك دقيقة فارغة..

حقاً لقد كانت حياته كلها عملاً.

حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة

يقول ملا حميد: في أول زيارتي للأستاذ وأنا أحسبه شيخاً من شيوخ الصوفية بادرني بالقول وقبل أن أتكلم بشيء: «أخي أنا لست شيخاً، أنا إمام كالغزالي والإمام الرباني، فأنا مثلهم إمام، فعصرنا عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة».

الرعاية باتباع السنة

وفي إحدى زياراتي للأستاذ شربنا الشاي عنده، ولم أنهِ ما في القدح من شاي، وبقيت فيه فضلة منه، فقال لي الأستاذ: أخي أنت لا تعرف السنّة.

كان يقصد إرشادنا بأن إنهاء الشيء في القدح سنة من سنن الرسول ﷺ وترك الفضلة فيه إسراف والإسراف خلاف السنة.

أثر التواضع

كنت طالباً في كلية الآداب، بينما أنا جالس في الصف أستمع إلى الدرس إذ جاء أحدهم وقال لي: إن رجلاً في الباب يطلبك فأسرع إليه، فلما أتيته رأيت شاباً رشيقاً وجميلاً يرتدي زي القرويين، عرّف نفسه قائلاً: أنا المعلم «مصطفى صونغور» جئت إليك من عند الأستاذ.

وأخذ يضمني إلى صدره، وأنا في حالة خجل شديد لا أرغب في الاحتضان، حيث كنت أقول في نفسي كيف أحتضن هذا القروي وأنظار الطلاب من أهل المدينة مصوبة إلينا، فقد رأيت أن نفسي تستنكف الموقف الحرج. ولكن شخصية هذا الشاب القوية وإخلاصه التام وتضحيته في سبيل الإيمان وحبه الجم لرسائل النور قد أثرت فيّ كثيراً. فالذي أريد أن أقوله هو أن رسائل النور والأستاذ نفسه يكسبان الإنسان حالة صميمة وخالصة وجادة، ويجعلان الإنسان يتوجه إلى الباري عز وجل بقلب سليم وبتواضع حقيقي دون غرور أو حب للنفس، حيث يصبح الإنسان فعلا في حالة فطرية جميلة وبصورة دائمة، لأنه ينظر دائماً إلى الوجه الحسن من أمور الدنيا ولا يفكر إلا بالجميل منها.

فهذه الحالات كانت تبرز بشكل أوضح عند الأستاذ. وأينما التقيتَ مع أي طالب من طلاب النور إلا ورأيت فيه هذه الصفات الخاصة فتغمرك أخوة خالصة وتواضع جاد. ولذلك عندما رأيت الأستاذ لأول مرة أخذتني الحيرة من شدة تواضعه. حتى دفعني هذا التواضع الشديد منه إلى أن أسأل أحد طلابه قائلا: هل يعرف الأستاذ القراءة والكتابة؟ وهل يعرف اللغة العربية؟

وعلى الرغم من أن الأستاذ لا يتحدث عن نفسه قط، بل كان جلّ حديثه حول رسائل النور إلا أن تعامله معك كصديق حميم وأخ مخلص يجعلك تنجذب إليه سواء أكنت طالباً أم صديقاً، فترتبط معه من صميم قلبك، فهو يحاول ربطك بحقائق القرآن ورسائل النور التي هي تفسيره في هذا العصر.

القول اللين

يقول أحد تلاميذه: عندما كان أحد المسؤولين من ذوي المناصب العالية يأتي لزيارة الأستاذ كان يذكر له أولا محاسنه وفضائله، ويشوقه بهذا الكلام الطيب إلى الإيمان ويحبب إليه خدمة الإيمان. فعندما كنا في «أميرداغ» كان علينا أن نقدم تقريراً طبياً حول حالة الأستاذ الصحية إلى المحكمة في «صامسون». وكان الناس يعتقدون بأن طبيب المدينة هو رجل ملحد شيوعي وأنه يعادي الأستاذ. ولم نكن نعتقد بأن هذا الطبيب سيكتب التقرير المطلوب للأستاذ، ولكن قبل زيارة الطبيب وحينما أتي الطبيب لزيارته كان الأستاذ متمدداً على فراشه يعاني من مرض شديد ومع هذا جلس مع الطبيب ساعات طويلة وحده. فبقدر ما فهمنا بعد ذلك من هذه الجلسة، أن الأستاذ قد تكلم مع الطبيب عما عاناه من مصاعب ومشاق، وأن غايته في الحياة ليست سوى الإيمان. ثم بين له أنه بحاجة إلى تقرير طبي، ولكنه قال للطبيب: لا أطلب منك أن تزودني بالتقرير باسمك، لأنني أخشى عليك الأذى. بل حوِّله إلى مدينة «أسكي شهر». ثم أعطاه الأستاذ كتاب «الحجة الزهراء» وأوصاه بالصلاة.. ولما خرج الطبيب من غرفة الأستاذ قال: يا خسارتنا.. لم نتعرف على هذا العالم من قبل.. فقد أصبحت مديناً لربي بقضاء الفوائت.

بل خادماً للقرآن

يذكر أحد الطلاب: كنا جالسين مع الأستاذ ذات يوم، فقال: كان بعض الطلاب -في سجن أفيون- يبدون شيئاً من الضيق والضجر. وعندما كنت أرى منهم هذا الوضع أتألم وأحزن. فقلت يوماً: يا رب أليس لي بين هؤلاء طالب؟ (أي طالب مخلص لا يبدي تذمراً) ولم أكمل الدعاء بعد حتى قام «طاهري موطلو»  قائلاً: نعم يا أستاذي!

فسررت لهذا الكلام سروراً بالغاً. وكان خير تسلية لي في حينه.

كان الأستاذ يطلق على الأخ طاهري بـ«الرائد». وحقاً لقد كان يتصف بخصال وشمائل قلما تجدها في غيره، فقد كان يصوم الأشهر الثلاثة طوال ثلاثين سنة من عمره، ولم أر منه أن صلى الوتر بعد العشاء وإنما كان يقوم الليل ويصلي التهجد ثم يوتر. لقد كان كنـز الدعوات لطلاب النور. وكان في طاعة تامة لأوامر الأستاذ ويطبقها بحذافيرها. لذا لم أسمع من الأستاذ أن قال لأحد من طلبة النور مثلما قاله للأخ طاهري، حين قال بحقه: «إن الأخ طاهري ولي من أولياء الله الصالحين، فعليه أن لا يعد نفسه أنه في الدنيا».

وفي أحد الأيام قال الأستاذ له: أتريد أن تعدّ نفسك في هذه الدنيا -أي تميل إليها قليلاً-؟ أم تريد أن تستخدم عاملاً وخادماً للقرآن الكريم؟ فأجاب: أستاذي الحبيب أرجوك.. بل خادماً للقرآن.

فقال الأستاذ ملتفتاً إلينا: بارك الله فيه، إنه حقاً ولي من الصالحين!

كان الأخ طاهري أكبرنا سناً، كما أنه أكثرنا عملا في سبيل القرآن؛ فما كانت تفوته كلمة أثناء قراءته القرآن الكريم أو أثناء تصحيحه الرسائل. ولقد ضحى بحياته كلها في سبيل خدمة القرآن. فإخلاصه الكامل في العمل كان يزيدنا نشاطاً وحيوية وشوقاً إلى خدمة الإيمان مهما كانت الظروف… كان رحمه الله مخلصاً لله. كل عمله كان لله. كنا نتخذه أباً معنوياً لنا لشدة شفقته علينا… لم يعرف التعب إليه سبيلاً ولم نره ملّ يوماً من العمل… رحمه الله رحمة واسعة.

لا تعب في الخدمة

لم يكن للأستاذ أي وقت فراغ طول حياته؛ فهو إما يقرأ أو يصحح أو يُقرأ له وهو يستمع.. كان في كلامه لطافة جمة وفيض كبير، إذ ما كنا لنتضايق ولا نملّ حتى لو طال الدرس من الصباح حتى المساء، وما كنا نضجر لو مشينا طريقاً طويلاً معه وابتلينا بمصاعب معه أو نال منا الجوع ما نال. وكلما شعرنا بضيق ننظر إلى وجهه الوضاح فترتاح نفوسنا وتنشرح صدورنا ونتحمس للعمل بشوق أكثر دون توقف ليلاً ونهاراً، رغم أننا قد لا ننام. فقد كنا نسهر الليالي الطوال من دون أن نشعر بالتعب لأجل الخدمة في نشر حقائق القرآن.

لا حياة لنصف إنسان

عندما كان كتاب «تاريخ حياة الأستاذ» تحت الطبع، وصلت رسالة إلى الأستاذ يسأل فيها صاحبها عن جواز الصورة الفوتوغرافية، قرأنا الرسالة على الأستاذ فتبسم وطلب قلم رصاص وجئنا له بالقلم فمر بخط على عنق الصورة وقال معقباً: لا حياة لنصف إنسان. فابعثوا له بالجواب مقروناً بهذه الصورة بهذا الشكل.

وهناك حادثة شبيهة بهذه وهي أنه: بعدما أخلي سبيل الأستاذ من سجن «أفيون» أستأجر بيتاً وبقي الأخ زبير معه في خدمته وملازمته.

وفي أحد الأيام جاء الأخ طاهري من مدينة إسبارطة لزيارة الأستاذ فبات ليلة واحدة ضيفاً عند الأستاذ. فكان الأخ طاهري يخرج محفظته من جيبه كلما أراد أن يدخل الصلاة لاحتواء النقود على صورة إنسان. وفي الصباح الباكر وبعد أن ودع الأخ طاهري أستاذنا قصد محطة نقل المسافرين، وعندما همّ بقطع تذكرة السفر فطن أنه نسي محفظته في دار الأستاذ، وأسرع بالرجوع إلى دار الأستاذ واستأذن بالدخول وأتاه الأخ زبير بمحفظته فلمحه الأستاذ وقال له: «لا تكرر هذا مرة أخرى، فلا حياة لنصف إنسان!».

لا أعمل بالرؤيا

في أحد الأيام بعث أحد الإخوة من مدينة «دياربكر» برسالة إلى الأستاذ يكتب فيها ما رآه أحد الإخوة هناك من رؤيا صالحة.

فقد رأى فيما يرى النائم مجلساً يحضره الرسول العظيم ﷺ ومعه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم والشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس الله سره، فيدخل عليهم جبريل عليه السلام ويقول لهم: إن طبع الرسائل ونشرها والقيام بخدمة القرآن على هذه الشاكلة المعنوية قد انتهى دوره حيث جاء دور الجهاد المادي.

قرأنا الرسالة على الأستاذ، فطلب الأستاذ ورقاً وقلماً في الحال وأملى علينا هذا الجواب: إن ما رأيتموه من رؤيا يا أخي هو رؤيا مباركة ولكنها تحتاج إلى تأويل وتعبير وتفسير، فالجهاد المادي في الرؤيا هو الجهاد المعنوي في سبيل خدمة الإيمان، لأن الظهور على الأعداء والغلبة عليهم لا يقتصر على الجهاد المادي، فرؤياكم إشارة إلى انتصار البراهين الإيمانية المعنوية الساطعة على الكفر المطلق، فإياكم والتأويل المادي، والظن بأن الجهاد هو جهاد مادي فحسب، هذا فضلاً عن أنني لا أعمل بالرؤيا.

خدمة الإيمان

كان الأستاذ يرشد طلابه في دروسه التي يمليها علينا قائلاً:

«إخواني، إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام. أما توفيقنا ونجاحنا في العمل وإقبال الناس إلينا ودفع المعارضين عنا، فهو موكول إلى الله سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور. وحتى لو غُلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتنا، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة.

مثال هذا: «كان جلال الدين خوارزم شاه -وهو أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة-.. كان يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه: سيظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم! فأجابهم: إن ما عليّ هو الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة إنما هي من تقديره هو سبحانه.

وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل: «إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به فهذا أمر موكول إلى الله. فأنا عليّ أن أؤدي ما عليّ من واجب، ولا أتدخل فيما هو من شؤونه سبحانه»».

حسن الظن

لم يكن الأستاذ يقبل أن يغتاب أحد أمامه، فإذا ما قلنا في مجلسه: يا أستاذنا إن فلاناً قال كذا وكذا، يجيبنا بقوله: «أنتم على خطأ، إنه صديق حميم لي، وهو من قراء رسائل النور، وشخص مثله لا يقول ما تذكرونه عنه. كأنكم تريدون أن تقطعوا ما بيننا من علاقات ووشائج».

وأحياناً كانت ترده رسالة أو يقول له أحدهم: إن العالم الفلاني يعادي الأستاذ ورسائلَ النور، ويقول الأستاذ: إن هذا الرجل هو من أهل العلم فهو صديقنا، فيضطر القائل أن يسكت. وكان دائماً يحاول أن يؤَوِّل الأمور بحسن الظن ويحثنا على ذلك ويقول: «نحن مكلفون بحسن الظن».

الترابط الوثيق

ذات مرة جاءت من مدينة «قونيا» جماعتان من طلاب النور لزيارة الأستاذ فشكت الجماعة الأولى من تصرفات الجماعة الثانية إلى الأستاذ قائلين: إنهم لا يأخذون حذرهم ولا يحتاطون للأمر بل يقومون بإلقاء الدرس في المسجد. والجماعة الثانية شكت أيضاً من الجماعة الأولى، فقال لهم: «إخوتي! إن الإسلام لا حاجة له بخدمتكم وعملكم بقدر ما هو بحاجة ماسة إلى تساندكم وترابطكم، فعليكم أن تقرؤوا بين حين وآخر كلا من رسائل: «الإخلاص» و«الأخوة» و«الهجومات الست» فيما بينكم ذلك لأن تساندكم وإخلاصكم وثباتكم وصلابتكم السائدة فيما بينكم منذ البداية ستكون مفخرة لهذه البلاد».

وعندما كان الأستاذ يدرّس مواضيع الفداء والتضحية يذكر طلابه في الولايات الشرقية ذكراً حسناً ويضرب بهم الأمثال العالية.