المسألة الخامسة

إن ما اشتهر من أن «جهنم تحت الأرض»، فنحن معاشر أهل السنة والجماعة لا نعيّن موضعَها على القطع واليقين، ولكن «التحتية» هي الظاهرة.

وبناءً على هذا أقول وبالله التوفيق:

أولًا: إن كرتنا الأرضية ثمرةٌ من ثمرات شجرة العالم العظيمة، عظمةَ شجرة طوبى، كما أثمرت سائر نجومها. فما تحت الثمرة يشمل تحت جميع أغصان تلك الشجرة. وبناء على هذا فـ«جهنم» تحت الأرض بين تلك الأغصان، فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخليقة منتشرة، أينما كانت جهنم فلها موضع بينها ولا تقتضي مسافة التحتية طولًا ولا اتصالًا بالأرض.

وفي نظر الحكمة الجديدة، أن النار مستوليةٌ على أكثر ما في الكون، وهذا يشفّ عن أن أصلَ هذه النار وأساسَها جهنم، ترافق الإنسان إلى الخلود وفي طريقه إلى الأبد، وستمزَّق يومًا ما الستارُ، وتبرز إلى الميدان قائلة: تهيأوا!

وأودّ أن ألفت نظركم إلى هذه النقطة:

ثانيًا: إن تحت الكرة وأسفَلها هو مركزها وجوفها، فعلى هذا فإن الأرض حبلى ببذرة شجرة زقوم جهنم، ستلدها يومًا ما. بل الأرض الطائرة في الفضاء ستبيض شيئًا كهذا، حتى إن لم تكن جهنم بتمامها في تلك البيضة فإن رأسها أو أيّ عضو منها مطويةٌ فيها بحيث تتحد مع الدركات وسائر الأعضاء منها يوم القيامة وتبرز على أهل العصيان جهنمُ مهولةً عجيبةً.

فيا هذا! الحسابُ والهندسة يمكنهما أن يأخذاك إلى موضع جهنم وإن لم تذهب أنت إليها؛ وذلك أن درجة الحرارة تتزايد درجة واحدة تقريبًا في الأرض بكل ثلاثة وثلاثين مترًا في باطن الأرض، بمعنى أن درجة الحرارة تكون في المركز ما يقرب من مئتي ألف درجة -في الأغلب- فنسبة هذه النار المركزية إلى درجة حرارتنا البالغة ألف درجة هي مئتا مرة.

وهذه تُثبت نفس ما ورد في الحديث المشهور -ما معناه- من أن نار جهنم أشد من نارنا بمئتي مرة.

ثم إن قسمًا من جهنم «زمهرير»، والزمهرير يحرق ببرودته؛ إذ قد ثبت في العلم الطبيعي أن الحرارة تصل إلى درجة تجعل الماء ثلجًا، وتحرق بالبرودة، حيث تمص الحرارة مصًا. أي إن النار التي تشمل جميع المراتب قسم منها «زمهرير».

تنبيه: إن العالم الأخروي الأبدي لا يُقاس بمقياس هذه الدنيا الفانية، ولا بسعتها، فاستعد سيتجلى لك شيء من الآخرة في ختام «المقالة الثالثة».

إشارة: من السعادة الأخروية، من تلك الجنة الوارفة الظلال، تنفتح أمام نظر العقل ثمانية أبواب ونافذتان وذلك:

بشهادة الانتظام في جميع العلوم..

وبإرشاد الاستقراء التام للحكمة..

وبرمز جوهر الإنسانية..

وبإيماء عدم تناهي ميول البشر..

وبتلميح القيامة النوعية المكررة في كثير من الأنواع، كالليل والنهار..

وبدلالة عدم العبثية..

وبتلويح الحكمة الأزلية..

وبإرشاد الرحمة الإلهية المطلقة..

وبلسان النبي الصادق الفصيح..

وبهداية القرآن المعجز البيان..

المسألة السادسة

إن الخاصيةَ المميزة للتنزيل الإعجازُ، والإعجاز يتولد من ذروة البلاغة، والبلاغة مؤسسة على مزايا وخصائص، لاسيما الاستعارة والمجاز. فمن لم ينظر بمنظارهما لا يفُزْ بمزايـاها.. فكم في التنزيل من «تنزّلات إلهية إلى عقول البشـر» تُسـيل ينابيعَ العلوم في أسـاليب العرب تأنيسـًا للأذهـان، والتي تعبِّر عن مراعاة الأفهام واحترامِ الحسـيات ومماشـاةِ الأذهان.

ولما كان الأمر هكذا، فلا بد لأهل التفسير ألّا يبخسوا حقَّ القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة.

ولقد تحقق أجْلى من أية حقيقة كانت أن معاني القرآن الكريم حق، كما أن صور إفادته للمعاني بليغة ورفيعة. فمن لا يُرجع الجزئياتِ إلى ذلك المعدن ولا يُلحقْها بذلك النبع يكن من المبخِسين حقَّه. وسنبين مثالًا يلفت النظر: ﴿وَالْجِبَالَ اَوْتَادًا (النبأ:7) يلوّح بمجاز بديع -الله أعلم بمراده- إذ يجوز أن يكون المجاز المشار إليه يومئ إلى تصوّر كهذا:

أولًا: إن الكرة الأرضية الشبيهة بالسفينة والغواصةِ العائمة في بحر الفضاء الواسع قد حافظت على توازنها، وأرسيت أثناء اشتباكها بالهواء في جوف المحيط الهوائي، بجبالها الشبيهة بالأعمدة والأوتاد. بمعنى أن الجبال في حكم الأعمدة والسارية لتلك السفينة.

ثانيًا: إن الاهتزازات الناجمة من انقلابات الأرض الداخلية تهدأ وتسكن بالجبال؛ إذ هي كالمسامات للأرض. فمتى ما حصل فورانٌ وغضب في الجوف تتنفس الأرضُ بمنافذِ جبالها، فيسكن غضبها وتهدأ حدّتها، أي إن استقرار الأرض وهدوءها بجبالها.

ثالثًا: إن عمودَ عمارة الأرض الإنسانُ، وحياة الإنسان متوقفة على محافظة منابعها من ماء وتراب وهواء، مع ضمان الاستفادة منها. والجبالُ هي التي تحقق ذلك بتضمنها لمخازن الماء وتصفيتِها الهواء وتلطيفها الحرارة والبرودة، وهي سبب في تنقية الهواء، ومنبعُ تراكم الغازات المضرة الداخلة فيه. وفي الوقت نفسه تترحم على التراب فتحفظه من التوحل والتعفن وتقيه من استيلاء البحر.

رابعًا: إن وجه المشابهة والمناسبة من حيث البلاغة هو:

لو فرضنا شخصًا ركب منطاد الخيال، فصعد إلى السماء بعيدًا عن الأرض؛ فإذا نظر إلى سلسلة الجبال من هناك وتخيلَ الطبقة الترابية خيام البدو المفروشة على الأوتاد، والجبالَ المنفردة خيمة منصوبة على عماد.. أتراه قد خالف طبيعة الخيال؟ ولو تصورتَ وصوّرتَ لبدويّ تلك السلاسل الجبلية -مع المستقلة بذاتها- خيامَ قبائل الأعراب ضُربتْ في صحراء الأرض مع تخللها خيامًا مفردة، لم تبعد عن أساليب العرب الخيالية.. أو لو تصورتَ أنك قد تجردت من هذا العالم المشيد، وبدأت تتأمل في الأرض التي هي مهد البشرية بمنظار الحكمة وفي السماء التي هي السقف المرفوع، وتخيلتَ بعد ذلك أن السماء المحددة بدائرة الأفق المماسة معها، كالفسطاط المضروب على الأرض، المرتبط بأوتاد الجبال، فإنك لا تُتهم في خيالك هذا.

سيرد مثال أو مثالان لهذا الأمر في ختام المسألة الثامنة.

المسألة السابعة

إن ﴿دَحٰيهَا و﴿سُطِحَتْ و﴿فَرَشْنَاهَا و﴿تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ وما شابهها من الآيات المذكورة في القرآن الكريم، يتشبث بها أهلُ الظاهر إرباكًا للأذهان، ونحن لسنا بحاجة إلى الدفاع، لأن المفسرين العظام قد كشفوا سرائرَ ما في ضمائر هذه الآيات، ما فيه الكفاية، فلم تبق لنا حاجة. وقد أعطوا درسًا للعبرة، وسطروا السطر الأساس لنحذو حذوهم.

ولكن بكوا قبلي فهيّجوا لي البكاء وهيهات ذو رحم يرق لبكائي

إن إعلام المعلوم، لاسيما إن كان مشاهَدًا عبثٌ، كما هو معلوم. أي لابد من وجود نقطة غرابة تُخرجه من العبثية.

فلو قيل: انظروا إلى الأرض كيف جعلناها مسطحة ومهدًا مع كرويتها، وقد نجت من تسلط البحار.. أو إذا قيل: انظروا كيف تجري الشمس لتنظيم معيشتكم مع استقرارها… أو مثل: انظروا كيف تغرب الشمس في عين حمئة وهي بعيدة عنا ألوف السنين.. عند ذلك تخرج معاني الآيات من الكناية إلى الصراحة.

نعم، إن نقاط الغرابة هذه هي نكات بلاغية.

المسألة الثامنة

إن مما ورّط الظاهريين، بل السبب الأول الذي دفعهم إلى القلق والتردد، هو: التباس الإمكانات بالوقوعات، والخلط بينهما.

فيقولون مثلًا: إذا كان الشيء هكذا، فهو ممكن في القدرة الإلهية، وهو أدلّ على عظمته تعالى في عقولنا، فهو إذن واقع!…

هيهات! أيها المساكين! أين عقولكم من أن تكون مهندسة الكون؟ فأنتم عاجزون عن أن تحيطوا بالحسن الكلي بعقلكم الجزئي هذا! لو كان أنف بطول ذراع من ذهب ربما يستحسنه من حصر فيه النظر!

ثم إن الذي حيّرهم، هو توهمهم منافاة الإمكان الذاتي لليقين العلمي، فيتقربون إلى مذهب «اللاأدرية» بترددهم وتشككهم في العلوم العادية اليقينية، بل لا يخجلون، إذ يلزم مسلكهم هذا أن يتشكك الإنسان في أمور بديهية كوجود بُحيرة «وَانْ» وجبل «سبحان»، لأن هذا ممكن في مسلكهم، أي أن تنقلب بحيرة «وان» إلى دبس، وينقلب جبل «سبحان» إلى عسل مغطى بالسكر! أو أنهما يذهبان إلى بحر العدم -كقسم من أصدقائنا الذين لم يرضوا بكروية الأرض فسافروا فزلّت أقدامهم- بمعنى: يلزم عدم التصديق بالحال السابقة للبحيرة والجبل!

أيها المحرومون من المنطق! أين أنتم؟ تأملوا! فقد تقرر في علم المنطق: أن الوهميات التي في المحسوسات، من البديهيات.([1]) فإن أنكرتم هذه البداهة، فليس لي إلّا أن أقدم لكم التعازي بدل النصائح بموت العلوم العادية، بينما السفسطة قد بعثت لديكم.

البلاء الرابع: الذي شوّش أهل الظاهر هو: التباس الإمكان الوهمي بالإمكان العقلي.([2])

علمًا أن الإمكان الوهمي متولد من عِـرق التقليد، لا من أساس. وهـو الـذي يولد السفسطة، وحيث لا دليل له، يفتح في البديهيات طريقًا إلى الشك والاحتمال والظن، هذا الإمكان الوهمي غالبًا ما ينتج من عدم المحاكمة العقلية، ومن ضعفٍ عصبي قلبي، ومن مرض عصبي عقلي، ومن عدم تصور الموضوع والمحمول. بينما الإمكان العقلي هو تردد في أمر لا يظفر بدليل قطعي على وجوده وعدمه ما لم يكن واجبًا ولا ممتنعًا. فإن كان الإمكان ناشئًا عن دليل فهو مقبول وإلّا فلا اعتبار له.

ومن أحكام الإمكان الوهمي هذا أن قسمًا من المتشككين يقولون: ربما لا يكون الأمر على ما أظهره البرهان، لأن العقل لا يستطيع أن يدرك كل شيء. وعقلنا يعطي لنا هذا الاحتمال. نعم… لا.. بل الذي يعطيكم هذا الاحتمال هو شككم ووهمكم. لأن العقل من شأنه المضي على برهان.

صحيح أن العقل لا يتمكن أن يدرك ويوازن كل شيء، ولكن مثل هذه الماديات ولاسيما ما لا يفلت من البصر مهما كان صغيرًا فإنه يزنه ويدركه. ولو لم نتمكن من دركه نكون في تلك المسألة غير مكلفين، كالأطفال..

تنبيه: إن مخاطبي الفكري الذي أخاطبه بالظاهري وذي النظر السطحي والذي أفضحه وأعنفه وأوبّخه هو في غالب الأحوال عدو الدين ممن يبخس حقَّه ولا يرى جمال الإسلام وينظر إليه من بعيد بنظر سطحي عابر.. ولكن أحيانًا هو من أهل الإفراط والغلو ممن يفسد الدين من حيث يريد الإصلاح، وهم أصدقاء الدين الجاهلون.

البلاء الخامس: هو تحري الحقيقة في كل موضع من كل مجاز، مما أخذ بيد أهل التفريط والإفراط إلى الظلمات.. نعم، لابد من وجود حبة من حقيقة لينمو وينشأ منها المجاز ويتسنبل، أو إن الحقيقة هي الفتيلة التي تعطي الضوء، أما المجاز فهو زجاجها الذي يزيد ضياءه. نعم، المحبة في القلب، والعقل في الدماغ، وطلبهما في اليد والرِّجل عبث.

البلاء السادس: هو قَصر النظر على الظاهر، مما طمس على النظر، وسَتَرَ البلاغةَ، فلا يتجاوزون إلى المجاز، مادامت الحقيقة ممكنة في العقل. وحتى لو صاروا إلى المجاز يمسكون عن معناه.

وبناء على هذا فإن تفسير أو ترجمة الآيات والأحاديث لا يبينان حسن بلاغتهما. وكأن لديهم أن قرينة المجاز امتناع الحقيقة عقلًا.. بينما القرينة المانعة كما يمكن أن تكون عقلًا يمكن أن تكون حسًا وعادةً ومقامًا وبأشياء أخرى.

فإن شئت فادخل من الباب الواحد والعشرين بعد المئتين من «دلائل الإعجاز» تلك الجنة الفردوس، ترَ أن ذلك الداهية عبد القاهر الجرجاني قد أخذ إلى جانبه أمثال هؤلاء المتعسفين يوبّخهم ويعنفهم.

البلاء السابع: هو حصرهم العَرَضَ كالحركة على الذاتي، والأينية مما نكّر المعرَّف ولزم إنكار الوصف الجاري على غير مَن هو له. وبهذا حادت شمس الحقيقة عن جريانها. أمَا نظر هؤلاء إلى أساليب العرب، كيف يقولون: صادفتنا الجبال، ثم فارقتنا.. تراءت لنا وبعُدَت عنا.. والبحر أيضًا ابتلع الشمس… الخ. وكم يقلبون الخيال لأسرار بيانية كما في المفتاح للسكاكي، وهذا لطافة بيانية مؤسسة على مغالطة وهمية، بسرّ الدوران.([3])

وسأبين هنا مثالين مهمين لينسج على منوالهما: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ (النور:43) ﴿وَالشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاۜ (يس:38).

هاتان الآيتان الكريمتان جديرتان بالملاحظة والتدبر؛ لأن الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، إذ الاستعارة البديعة في الآية الأولى تتوقد بحيث تذيب الجمود المتجمد، وتشق كالبرق ستار سحب الظاهر. أما البلاغة في الآية الثانية فهي مستقرة وقوية ولامعة بحيث تقف الشمس لمشاهدتها.

فالآية الأولى نظيرتها: ﴿قَوَاريرَ مِنْ فِضَّةٍ (الإنسان:16) التي تضمنت استعارةً بديعة مثلها، وذلك: كما أن أواني الجنة ليست زجاجًا فهي ليست فضة كذلك، بل مباينة الزجاج للفضة قرينة الاستعارة البديعة. أي إن الزجاج بشفافيته والفضة ببياضها ولمعانها كأنهما نموذجان لتصوير أقداح الجنة، أرسلهما الرحمن إلى هذا العالم ليهيّجا الرغبةَ لدى المشتاقين إلى الجنة ممن يبذلون أنفسهم وأموالهم في طلبها.

ومثل هذا تمامًا، تتقطر استعارةٌ بديعة من الآية الكريمة: ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ

أن موضع هذه الاستعارة مبنيٌّ على تصوّر التسابق والمحاكاة بين الأرض والسماء بحكم الخيال وهي كآلاتي:

كما أن الأرض تتزين بجبالها المتزمّلة بحلل الثلج والبرد أو تتعمم بها، وتتبرج ببساتينها، فالسماء كذلك تقابلها وتحاكيها فتتجمل متبرقعةً بالسحاب المتقطع جبالًا وأطوادًا وأودية وتتلون بألوان مختلفة مصورة لبساتين الأرض.

فلا خطأ إذن في التشبيه إن قيل أن تلك السُحب المتقطعة شبيهة بالجبال أو بالسفن أو بقافلة الإبل أو بالبساتين والوديان، إذ يخيل -في نظر البلاغة- أن قطعات السحاب سيارة وسبّاحة في الجو كأن الرعدَ راعيها وحاديها، كلما هزّ عصا برقِه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعاتُ وارتجّت وتراءت جبالًا كالعهن المنفوش، وكأن السماء تدعو ذرات بخار الماء بالرعد لتسلم السلاح والجندية ثم بأمر الاستراحة يذهب كلٌّ إلى مكانه ويختفي.

وكثيرًا ما لبس السحابُ زيَّ الجبال ويتشكل بهيكله ويتلون ببياض البرد والثلج ويتكيف بالرطوبة والبرودة. ولهذا فبين الجبال والسحب مجاورة وصداقة، فاستحق -في نظر البلاغة- أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما، فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه.

وفي مواضع من القرآن تظهر هذه الأخوة والتبادل؛ إذ قد يظهر هذا في زيّ ذاك وذاك في زي ذلك وفي بريقه.. ومن منازل التنزيل مصافحةُ الجبال والسحب، مثلما هناك معانقةٌ ومصافحةٌ مشهودة على صحيفة كتاب العالم، إذ نرى السحابَ موضوعًا على جبل وكأن الجبلَ مَرسىً لسفن السحاب.

الآية الثانية: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاۜ

نعم، إن كلمة تجري تشير إلى أسلوب بيانيٍّ كما أن كلمة ﴿لِمُسْتَقَرٍّ تلوّح إلى حقيقة. بمعنى أنه يجوز أن يكون الأسلوبُ البياني المشار إليه بـ ﴿تَجْري هو الآتي:

إن الشمس كسفينة مدرَّعة مصنوعة من ذَوب الذهب تجري وتسبَح في بحر السماء الأثيري -المعبّر عنه بموج مكفوف- وهي وإن أُرسيَت في مستقرها إلّا أن ذلك الذهب الذائب يجري في ذلك البحر العظيم، بحرِ السماء. ولكن ذلك الجريان إنما هو بالنظر الحسي الذي يُراعى لأجل التفهيم، فهو جريان تبَعي وعرضي. إلّا أن للشمس جريانين حقيقيين؛ ولابد أن يكون لها جريانٌ، لأن المقصد -من الآية- بيانُ الانتظام… وحسب أساليب العرب وفي نظر النظام إن كان الجريان ذاتيًا أو تبعيًا فالأمر سواء.

ثانيًا: إن الشمس في مستقرّها وعلى محورها متحركةٌ، لذا فإن أجزاءها التي هي من ذوب الذهب تجري أيضًا، هذه الحركة الحقيقية هي حبّةٌ من تلك الحركة المجازية المذكورة بل هي محرّكها.

ثالثًا: إنه من مقتضى الحكمة أن جريان الشمس وجنودِها التي هي سياراتُها في فضاء العالم في جريـان مشـاهَد، لأن القـدرة الإلهيـة قـد جعلت كل شـيء حيـًا ومتحركًا ولم تجعل شيئًا محكومًا عليه بالسكون المطلق، ولم تسمح الرحمة الإلهية أن يتقيد أي شيء كان بالعطالة المطلقة التي هي أخت الموت وابنة عم العدم. لذا فالشمس أيضًا طليقةٌ بشرط إطاعتها للقانون الإلهي، فلها الحرية في الجريان، ولكن بشرط ألّا تتدخل في حرية غيرها. إن الشمس سلطان الفضاء وهي المتمثلة للأمر الإلهي، والمنفّذة للمشيئة الإلهية في كل حركاتها.

نعم، إن جريان الشمس كما يكون على سبيل الحقيقة يمكن أن يكون على سبيل المجاز أيضًا، وكما أن جريان الشمس حقيقي وذاتي يمكن أن يكون عرَضيًا وحسيًا أيضًا. والمنار على المجاز كلمةُ ﴿تَجْري والملوِّح للعقدة الحياتية لفظ ﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا.

نحصل مما سبق: أن المقصد الإلهي في هذه الآية الكريمة إبرازُ النظام والانتظام، فالنظام ساطع كالشمس، وبناء على قاعدة: «كُلِ العسلَ ولا تسل» فإن الحركة المُنتجة للنظام سواء كانت من الشمس أو من دوران الأرض، أيما كانت، فلسنا مضطرين إلى تحرّي السبب الأصلي لأنه لا يخلّ بالقصد الأساس في ذكر الآية. شبيه ذلك: الألف مثلًا في «قال»، تحصل بها الخفة، فأيًا كان أصل الألف، فالخفة حاصلة والألف ألف، حتى لو كان أصلها قافًا بدل الواو..

إشارة: فمع هذه التصويرات فإن الجمود البارد والتعصب على الظاهر ينافي حرارةَ البلاغة ولطافتها كما أنه يجرَح ويخالف استحسان العقل الشاهد على الحكمة الإلهية التي هي أساسُ نظام العالم الشاهد على الصانع.

وذلك: إذا استقبلت مثلًا جبل «سبحان» من بُعد فراسخ، وأردتَ أن يتبدل وضعُه بالنسبة لجهاتك الأربع، أو تشاهده في كل جهة من جهاتك. فبدلًا من أن تتخطى خطوات يسيرة نحوه، تُكلِّف جبلًا ضخمًا ذلك الجرمَ العظيم أن يأتي إليك من جهاتك الأربع وقطعَه دائرة عظيمة تحار في تصوّرها. فهذا المثال العجيب للإسراف والعبثية واختيار الطريق الأطول وترك الأقصر، أعدُّه جنايةً على نظام العالم.

والآن انظر بنظر الحقيقة المنصفة إلى هذا التعصب البارد، كيف يعارض حقيقةً باهرة ثابتة بشهادة الاستقراء التام. تلك الحقيقة هي:

لا إسراف ولا عبث في الخلقة، والحكمةُ الأزلية لا تترك الطريق القصير المستقيم، ولا تختار الطريق الطويل المتعسف، لذا فلِمَ لا يجوز أن يكون الاستقراءُ التام قرينةَ المجاز؟ وما المانع الذي يُتصور؟

تنبيه: إن شئت فادخل المقدمات، واجعل المقدمةَ الأولى هي الصغرى والمقدمة الثالثة هي الكبرى لتنتج لك: أن الذي يشوّش أذهان الظاهريين، انجذابُهم إلى الفلسفة اليونانية، حتى نظروا إليها نظر المسلَّمات في فهم الآيات.. ومما يُضحك الثكلى: أن بعضًا فهموا من كلام مَن هو أجلّ من أن لا يميّز جوهرَ الحقيقة عن زخارف الفلسفة، قوله بالكردية «عناصر جهارن ﮊِ وانن ملَك» أي: أن الملائكة أجسام نورانية مخلوقة من عناصر، لا كما يزعمه الفلاسفة من أنهم مجرّدون عن المادة. ففهموا من هذا الكلام ومن هذا التصريح أن العناصر أربعة وهي من الإسلام!

فيا للعجب! إنّ كونَها أربعةٌ، وكونَها بسيطة هي من اصطلاحات الفلاسفة، ومن أسس العلوم الطبيعية الملوثة، ولا علاقة لها أصلًا بأصول الإسلام. بل هي قضية يُحكم عليها بظاهر المشاهدة.

نعم، إن كل ما يمسّ الدين لا يلزم أن يكون من الدين، فإن قبول كل مادة تمتزج مع الإسلام أنها من عناصر الإسلام يعني الجهلَ بخواص عنصر الإسلام نفسه، لأن العناصر الأربعة الأساسية للإسلام، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لا تولد مثل هذه المواد ولا تركّبها.

حاصل الكلام: أن تلك العناصر.. هي عناصر، وهي بسيطة، وهي أربعة، وهي من مستنقع الفلسفة، وليست من معدن الشريعة الخالص، ولكن لدخول أخطاء الفلسفة في لسان سلفنا، وجدوا محمَلًا صحيحًا لها. لأن السلف عندما قالوا أربعة فهي ظاهرًا أربعة، أو هي حقيقة أربعة، وهي التي تولد الأجسام العضوية: مولد الماء والحموضة والآزوت والكربون. وإن كنت حرًا في تفكيرك فانظر إلى شر هذه الفلسفة، كيف ألقت الأذهان إلى السفالة والأسر. فمَرحى للفلسفة الجديدة المتحررة التي قضت على تلك الفلسفة اليونانية المستبدة قضاءً مبرمًا.

تَحققَ إذن مما سبق: أن مفتاحَ دلائل إعجاز الآيات وكشافَ أسرار البلاغة، هو في معدن البلاغة العربية، وليس في مصنع الفلسفة اليونانية.

أيها الأخ! لما كان الاهتمام واللهفة في كشف الأسرار أبلَغنا هذا المقام. وجعلناك تصحَبنا ونقلق فكرك، ونشعر بما تعانيه من أتعاب… فالآن نطوّف بك في ميادين عنصر البلاغة ومفتاح الإعجاز في المقالة الثانية.

وإياك أن ينفّرَك إغلاقُ أسلوبها، وظاهرُ مسائلها المهلهل؛ لأن دقةَ معانيها هي التي أغلقتها، وجمالَ معانيها بذاتها هو الذي جعلها مستغنية عن الزينة الظاهرية.

نعم، إن صِداقَ المستغنية المتغنجة، إنعام النظر، ومنازلُها سويداءُ القلب. فما خلعتُ عليها من ملابسَ يخالف طراز هذا العصر، ذلك لأنني قد ترعرعت في الجبال، وهي مدرسة شرقي الأناضول فلم أتعلّم الخياطة الحديثة!

ثم إن أسلوب بيان الشخص يمثل شخصيته. وأنا كما ترون وتسمعون: مَعَمًّى، مُشكِل الحل.

 تـم… تم…


[1] يعني بهذا أن من البديهي أن لا يحصل الوهم في المحسوسات لأن ما يُدرك بها يسمى علمًا لا وهمًا، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، أما السوفسطائيون فإنهم يجوّزون الوهم في المحسوسات ويقولون: إن حبة العنب إذا وضعت في ماءٍ داخل قارورة زجاجية فإنها تُرى كبيرة أكبر منها إذا كانت خارجها، فهذا وهمٌ حصل بالمبصرات.
فيجابون بأن الحبة لم تتغير إنما عرض عليها الماء داخل القارورة فأصبحت تُرى هكذا، وإلّا فهي لم تتغير. (د.عبد الملك).

[2] الفرق بينهما هو أن الإمكان الوهمي قد يوجد وقد لا يوجد، بينما الإمكان العقلي لا يتخلف. (د.عبدالملك).

[3] لعله الدوران عند علماء الأصول، وهو: توقف المعلول على علته وجودًا وعدمًا، أي كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انعدمت انعدم، والله أعلم. (د. عبد الملك).