المقصد الثاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللّهم صل على سيدنا محمد الذي دل على وجوب وجودك…

أما بعد:

فيا عاشق الحقيقة! إن كنت تتحرى الحقائق بمطالعة وجداني أنا، فطهِّر قلبَك -تلك اللطيفةَ الربانية- من الصدأ، أي الرغبةِ في المعارضة والخلاف.. والتزامِ طرف المخالف والمعارض.. وإعذارِ النفس بإرجاع أوهامك إلى أصل لتحقيقها.. وطلبِ رؤية نتيجة المجموع في كل فردٍ، الذي يضعف بانفراده عن حمل النتيجة، فيجلب لك استعدادًا سيئًا لردّ النتيجة.. والتطلعِ بطبيعة الصبيان، وسجية الأعداء، أي التشبث بحجج واهية.. وتقمصِ طبيعة المشتري الذي يتحرى العيوب والنقائص.. وأمثالِها من الأمور.

فاصقُل تلك المرآة وطهِّرها منها، ثم أبدأ بالموازنة والمقابلة واجعل الشعلة الجوّالة الناتجة من امتزاج أكثر الأمارات قرينةً منوِّرة على أقلها، كي تتنور هذا القليلُ من أوهامك المظلمة ويندفعَ.

ثم استمع بقلب شهيد وبإنصاف ورويّة، ولا تعترض حتى يبلغ الكلام أجلَه، فإنه إلى الختام جملة واحدة، حكمٌ واحد، ومن بعد ذلك إن بقي لك ما تقول فاذكره.

استمع إلى ما أقول فإني أبدأ بالأصغر: برهانِ النبوة مطلقًا، ثم الأكبر: نبوة محمد ﷺ.

اعلم أن حكمة الصانع الجليل.. وعدمَ العبثية في أفعاله.. ومراعاتَه النظام في أقل ما في العالم.. وعدمَ إهماله أخسّ ما فيه.. وضرورةَ حاجة البشرية إلى مرشد.. كلُّ ذلك يستلزم قطعًا النبوةَ في نوع البشر.

إن قلت: لمْ أفهم هذا الإجمال، يرجى التفصيل:

أقول: اسمع، فإنك تشاهد أن النبوة المطلقة التي هي بمثابة معدنِ نظام البشرية المادي والمعنوي، ومركز انتظام أحوالِ كثير من الأنواع التي ضمّتها تحت تصرفها قوةُ العقل.. هذه النبوة المطلقة برهانُها رُقِيُّ الإنسان على الحيوانية في ثلاث نقط:

النقطة الأولى:

إدراكُ الإنسان وكشفه عن الترتيب في الأشياء، الناشئ من العلل المترتبة المتسلسلة في الخلقة.. وقابليتُه العلمية والتركيبية، ومعرفتُه الحاصلة من تحليله مركباتِ بذور كمالات الإنسانية إلى بسيطات، وإرجاعِها إلى أصلها.. وقدرتُه على محاكاة الطبيعة، ومساوقةِ نواميس الله الجارية في الكون بصنعته ومهارته، بالسر الكامن في القاعدة: «بدايةُ الفكر نهايةُ العمل، نهاية الفكر بداية العمل».

فالإنسان الذي هذه قابلياتُه، يدرك قصورَ نظره في صنعته، وزحمةَ الأوهام عليه، وافتقارَه في جبلته الإنسانية.. ممّا يدلّه على حاجته الماسة إلى نبي مرشد، يحافظ على موازنة النظام المتقن في العالم.

النقطة الثانية:

هي استعدادُ الإنسان غير المتناهي، وآمالُه ورغباته غير المحصورة، وأفكارُه وتصوراته غير المحدودة، وقوتُه الشهوية والغضبية غير المحدّدة.

فنرى الإنسان يتأسفُ ويتأفف ويقول: ليت كذا وكذا، حتى لو مُنح ملايينَ السنين من العمر وتَمَتَّعَ بلذائذ الدنيا وحَكَم حكمًا نافذًا في كل شيء.. وذلك بحكم اللاتناهية المغروزة في استعداده، فكأن عدمَ الرضا هذا يرمز ويشير إلى أن الإنسان مرشّح للأبد، ومخلوق للسعادة الأبدية. كي يتمكن من تحويل استعداده غير المحصور من طور القوة إلى طور الفعل في عالم غير متناهٍ وغير محدود بحدود، وأوسعَ بكثير من عالمه هذا.

إن عدم العبثية، وثبوتَ حقائق الأشياء تومئان إلى أن هذه الدنيا الدنيةَ الضيقةَ المحصورة، وتَزَاحُمَ كثير من الأعراض فيها والتي لا تخلو من التحاسد والاضطراب، لا تسعُ كمالاتِ الإنسانية، بل تحتاج تلك الكمالاتُ إلى عالَم أرحب لا تَزَاحُمَ فيه، كي يتسنبل استعدادُ البشر وينمو نموًا كاملًا، فيكونَ منسجمًا مع نظام العالم بانتظام أحوال كمالاته.

ولقد أُومئ إلى الحشر استطرادًا، وسيُبرهَن بالبرهان القاطع في موضعه. ولكن الذي أريدُ قوله هو:

أن استعداد الإنسان مسدّدٌ نحو الأبد. فإن شئت فتأمل في جوهر الإنسانية، وقيمة ناطقيته، ومقتضى استعداده، ثم انظر إلى الخيال الذي هو أصغر خادم لجوهر الإنسانية، واذهب إليه وقل: أيها الخيال السيد، أبشر فسيوهَب لك عمرٌ يزيد على ملايين السنين مع سلطنة الدنيا وما فيها.. ولكن عاقبتك الفناء والعدم وعدم العودة إلى الحياة، ثم انظر كيف يقابلك الخيالُ؟ أبالبشارة والسرور أم بالحسرة والندامة؟

بل إن جوهر الإنسانية سيئنّ في أعماق الوجدان: «آه.. واحسرتاه.. على فقدان السعادة الأبدية». وسيعنّف الخيال ويزجره: «يا هذا لا ترضَ بهذه الدنيا الفانية».

فيا أيها الأخ!

إن كانت سلطنةُ الدنيا الفانية لا تُشبع خادمَ سلطان الإنسانية أو شاعرَه أو صَناعَه أو مصوّره -وهو الخيال- ولا تُرضيه، فكيف تشبعه وهو السيد الذي يعمل بين يديه الكثيرون من أمثال ذلك الخادم؟

نعم، إنها لا تشبعه، ولن تشبعَه إلاّ السعادة الأبدية المكنونة في صَدَف الحشر الجسماني.

النقطة الثالثة:

هي اعتدالُ مزاج الإنسان، ولطافةُ طبعه، وميلُه إلى الزينة، أي ميله الفطري إلى العيش اللائق بالإنسانية.

نعم، إن الإنسان لا يعيش عيشَ الحيوانات، ولا يسعه ذلك؛ فهو محتاجٌ لتحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه إلى تلطيفها وإتقانها بصنائع جمّة لا يقتدر هو بانفراده عليها كلها، ولهذا احتاج إلى الامتزاج مع أبناء جنسه، ليتشاركوا فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. ولكن لتجاوز قوى الإنسانية على الآخرين -بسر عدم التحديد- تحتاج الجماعةُ إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقل كل واحد لا يكفي في درك العدالة، احتاج النوعُ إلى وضع قوانين كلية.. ثم لمحافظة تأثيرها ودوامها، لابد من مقنن يجريها.. ثم لإدامة حاكمية ذلك المقنن في الظاهر والباطن يحتاج إلى امتياز وتفوق -مادة ومعنىً- ويحتاج أيضًا إلى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم.. ثم لتأسيس إطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج إلى إدامةِ تصوّرِ عظمةِ الصانع وصاحبِ الملك في الأذهان.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج إلى مذكِّر مكرِّر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرِّر إلّا العبادة… وهذه العبادة تُوجِّه الأفكارَ إلى الصانع الحكيم، وهذا التوجه يؤسس الانقياد، والانقيادُ هو للإيصال إلى النظام الأكمل والارتباط به، وهذا النظامُ الأكمل يتولد من سر الحكمة، وسر الحكمة يشهد عليها إتقان الصنع وعدم العبثية.

فإذا علمت هذه الجهات الثلاث من تمايز الإنسان عن سائر الحيوانات أنتج لك بالضرورة: أن النبوة المطلقة في نوع البشر قطبٌ بل مركزٌ ومحور تدور عليه أحوال البشر وذلك كالآتي:

دقق النظر في الجهة الأولى:

إنه لما لم يكفِ ميلُ الإنسان الطبيعي وسَوقُ إنسانيته، وقَصرُ نظره، واختلاطُ الأوهام في طريق عقله.. احتاج البشر أشد الحاجة إلى مرشد ومعلم.. فذلك المرشد هو النبي ﷺ.

ثم تدبر في الجهة الثانية:

إن اللاتناهية المغروزةَ في الإنسان، وميلَه إلى التجاوز في طبيعته، وعدمَ تحدد قواه، وعدمَ انضباط آماله… هذه اللاتناهية في الميول والآمال لا يسعها قانونُ البشر الذي لا ينطبق على قامة استعداده النامية كثمرة لميله إلى الترقي الذي هو غصنٌ من شجرة ميلِ الاستكمال في العالم.

فعدمُ كفاية هذا القانون البشرى الحاصل نتيجة تلاحق الأفكار والتجارب التدريجية، لإنماء بذور ثمرة استعدادات الإنسان، جعل الإنسان يحتاج إلى شريعة إلهية حية خالدة تحقّق له سعادة الدارين معًا مادةً ومعنىً، وتتوسع حسب قامة استعداداته ونموها…فالذي أتي بالشريعة هو النبي ﷺ.

إذا قلت: إننا نشاهد أن أحوال الملحدين أو ذوي الأديان المنحرفة تجري على وفق العدالة والانتظام.

الجواب: إن تلك العدالة والانتظام إنما نشآ بتذكير أهل الدين وإرشاداتهم؛ فأُسس العدالة والفضيلة شيّدها الأنبياءُ عليهم السلام، أي إن الأنبياء هم الذين أرسوا تلك القواعد والأسس، ثم أَخَذَ هؤلاء بالفضيلة وعملوا بها ما عملوا، زد على ذلك فإن نظامهم -وكذا سعادتهم- ليس دائمًا بل موقتًا، فهو إن كان قائمًا ويستقيم من جهة فهو منحرفٌ ومائلٌ من جهات كثيرة، أي مهما يبدُ منتظمًا في صورته ومادته ولفظه ومعاشه فإنه في سيرتِه ومعناه وروحِه فاسدٌ ومختل.

أيها الأخ! الآن بدأ دورُ الجهة الثالثة… تفكر جيدًا في الآتي:

إن الإفراط والتفريط في الأخلاق يفسدان الاستعدادات والمواهب، وهذا الإفسادُ ينتج العبثية، وهذه العبثية مناقضٌ للحكمة الإلهية المهيمنة برعاية المصالح والحِكَم حتى على أصغر شيء في العالم.

إن ما يقال من: «مَلَكة معرِفة الحقوق» أي الإحساس إحساسًا ماديًا بضرر كل ما هو فاسد، وكذا ما يقال من: «ملَكة رعاية الحقوق» الحاصلة من تنبيه الأفكار العامة وبث الوعي فيها. هذان الأمران يجعلهما الملحدون بديلًا عن الشريعة الإلهية. إن تصوّرَهم هذا واستغناءهم عن الشريعة توهمٌ باطل ليس إلّا؛ لأنه لم يظهر لحد الآن شيء من هذا الأمر في الدنيا وقد هرمَت، بل حتى مقدماته! وإنما صحَّ العكسُ، إذ كلما رقت المحاسنُ رقت المساوئ أيضًا وتزينت بأرغب زيٍّ وأخدعه.

نعم، إن نواميس الحكمة لا تستغني عن دساتير الحكومة، كما تحتاج البشرية أشد الحاجة إلى قوانين الشريعة والفضيلة الحاكمة على الوجدان.

وهكذا فملَكة تعديل الأخلاق الموهومة لا تكفي للمحافظة على القوى الثلاث في الحكمة والعفة والشجاعة… لذا فالإنسان بالضرورة محتاج إلى نبي يمسك بميزان العدالة الإلهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع.

إشارة: لقد ظهر أُلوف الأنبياء عليهم السلام وأعلنوا النبوة وأثبتوا نبوتهم بمعجزاتهم التي تربو على الألوف. فجميعُ أولئك الأنبياء الكرام يعلنون بمعجزاتهم بلسان واحد وجودَ النبوة المطلقة في نوع البشر…

فهي برهان قاطع على النبوة المطلقة، صغرى البراهين. وهذا ما يسمى بالتواتر بالمعنى أو سمُّوه ما شئتم من الأسماء، فهو دليل قوى.

تنبيه: إن جهة الوحدة لهذه المحاكمات العقلية هي:

أنه إذا أُخذت العلومُ جميعها ونُظر إلى ما كشفته بقواعدها الكلية من اتّساق وانتظام.. ودُقق النظرُ في أفعالٍ واهية وأمور ضعيفة تترابط وتتصل بخميرة تجمع مصالحَها الجزئية المتفرقة، تلك هي اللذة أو المحبة أو أمر آخر أودَعته العناية الإلهية في تلك الأفعال والأمور كما في المأكل والمنكح.. وإذا عُلِم عدمُ العبثية الثابتُ بشهادة الحكمة، وعدمُ الإهمال… فإن النتيجة الحاصلة بالاستقراء التام هي:

أن النبوةَ التي هي قطب المصالح الكلية ومحورُها ومعدنُ حياتها ضروريةٌ لنوع البشر. فلو لم تكن النبوة لهلك النوع البشري. إذ كأنه أُلقي من عالم مختل إلى عالم منظَّم، فيخل بالقوانين الجارية العامة.. فلو قبِل هذا الفرضُ فكيف تُجابِه الإنسانيةُ سائرَ المخلوقات في العالم؟..

تنبيه: أيها الأخ! إذا انتقش في ذهنك صغرى براهين الصانع، فتهيأْ لندخل إلى مبحثِ كبرى براهينِه وهو نبوةُ محمد ﷺ.

إشارة وإرشاد: البرهان الأكبر صادقٌ. فإذا ما طالعتَ آثار الأنبياء المنقوشة في صحيفة العِبَر في العالم، واستمعت إلى أحوالهم الجارية بلسان التاريخ واستطعتَ أن تجرّد الحقيقة -أي جهة الوحدة- من تأثير صور الزمان والمكان.. ترى أن أمورًا دفعت البشريةَ إلى تسميتهم بالأنبياء هي:

أن حقوقَ الله وحقوقَ العباد التي هي ضياء العناية الإلهية وشعلة المحاسن المجردة، قد اتخذها الأنبياءُ عليهم السلام دستورَ حركتهم..

ومعاملةَ الأنبياء مع أممهم..

وتلقي الأمم لهم..

وتركَهم منافعهم الشخصية لأجل دعوتهم..

وأمورًا أخرى غيرها دفعت البشرية إلى إطلاق النبوة عليهم.

أما الأسس التي هي مدار النبوة فهي تظهر بأكمل وجهٍ وأظهره فيه ﷺ، إذ هو أستاذُ أبناء البشر في سن كمال البشر، ومنبعُ العلوم العالية في مدرسة جزيرة العرب ومعلمُها.

بمعنى أنه بالاستقراء التام ولاسيما في النوع الواحد، ولاسيما بتأييد القياس الأولوي، وبإعانة القياس الخفي المبني على الانتظام المطرد تنتج نبوة محمد ﷺ.

وبتجريد الخصوصيات المسماة بتنقيح المناط، فإن جميع الأنبياء عليهم السلام، يشهدون بلسان معجزاتهم على صدق محمد ﷺ البرهانِ الباهر على وجود الصانع الجليل.

اعتذار:

إني لا أورد كلامي في جمل قصيرة، فتكونُ غامضة مع شيء من الإغلاق، إذ لما كانت هذه الحقائق قد مَدت جذورَها في كل جهة فإن المسألة تطول، لذا لا أريد تجزئة صورة المسألة والإخلالَ بها وإيلام الحقيقة. وإنما أريد إحاطةَ الحقيقة بسُور دائري حولها، كي تنحصر الحقيقة ولا تفلت، فإن لم أستطع مسكَها فليمسكها غيري. وإن أعذرتموني فبها ونعمَت، وإلّا فكلٌ حرّ فيما يراه، ولا سبيل إلى الإكراه.