المقالة الثانية

عنصر البلاغة

هذه المقالة تبّين بضع مسائل تتعلق بروح البلاغة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الطيبات لله والصلوات على نبيه

المسألة الأولى

يخبرنا التاريخ بأسفٍ بالغ أنه لمّا انجذب الأعاجم بجاذبة سلطنة العرب فَسَد بالاختلاط مَلَكةُ الكلام المُضَري، التي هي أساسُ بلاغة القرآن؛ إذ لما تعاطى الأعاجمُ والدُخلاء صنعةَ البلاغة العربية حوّلوا الذوقَ البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر، وهو نظمُ المعاني، إلى صنعة اللفظ.

وذلك أن المجرى الطبيعي لأنهار الأفكار والمشاعر والأحاسيس إنما هو نظم المعاني.. ونظمُ المعاني هو الذي يشيَّد بقوانين المنطق.. وأسلوبُ المنطق متوجّهٌ إلى الحقائق المتسلسلة.. والفكرُ الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفُذ في دقائق الماهيات ونِسَبها.. ودقائقُ الماهيات ونِسبُها هي الروابط للنظام الأكمل في العالم.. والنظامُ الأكمل هو المندمِج فيه الحسنُ المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجردُ هو روضةُ أزاهيرِ البلاغة التي تسمى لطائفَ ومزايا.. وتلك الجنةُ المزهرة ودقائق الماهيات ونسبها هي التي تَجول فيها بلابلُ عاشقةٌ للأزاهير المسماة بالشعراء والبلغاء وعشاقِ الفطرة.. ونغماتُ تلك البلابل يمدّها صدىً روحاني هو نظم المعاني.

ولكن لما حاول الدُخَلاء والأعاجم الدخولَ في صفوف الأدباء، فلَتَ الأمرُ. لأن مزاج الأمة مثلما أنه منشأ أحاسيسها ومشاعرها، فإن لسانها القومي يعبّر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الأحاسيس. وحيث إن أمزجه الأمة مختلفةٌ، فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت أيضًا، ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.

وبناء على هذا فإنّ نظمَ اللفظ -الذي هو أرض قاحلة جرداء لا تصلح لأن تكون مَسِيلًا لجريان الأفكار ومَنبتًا لأزاهير البلاغة- اعترض مجرى البلاغة الطبيعي، وهو نظمُ المعنى فشَوّش البلاغةَ.

وحيث إن المبتدئين ومَن لا مهارة لهم أحوجُ من غيرهم إلى ترتيب اللفظ وتحسينه وتحصيلِ المعاني اللغوية -بسوء اختيارهم أو بسَوق الحاجة- فقد صرفوا جلَّ اهتمامهم إلى اللفظ ورغبوا فيما هو أسهلُ مجرىً وأظهرُ للنظر العابر وآنَسُ للعوام وأَولى بأن ينجذبوا إليه وينفعلوا به ويجتمعوا حوله، لذا انجذبوا إلى تنميق الألفاظ صارفين أذهانَهم عن تنسيق المعاني والتغلغل فيها، تلك المعاني التي كلما قطعت بها مفازة تراءت صحارى شاسعة باهرة منها.. وهكذا سار الأمر بهم حتى افترقت أذهانُهم فداروا حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني، بل حتى غلب اللفظُ المعنى وسخّره لنفسه، فاتسعت المسافةُ بين طبيعة البلاغة -وهي كون اللفظ خادمًا للمعنى- وصنعةِ العاشقين للفظ.

فإن شئت فادخل في «مقامات الحريري» فإنه مع جلالة قدره في الأدب، فقد استهواه حبُّ اللفظ وبذلك أخلّ بأدبه الرفيع، فأصبح قدوة للمغرَمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني -ذلك العملاق- ثلث كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة دواءً لعلاج هذا الداء.

نعم، إن حب اللفظ داء، ولكن لا يعرف أنه داء!

تنبيه: كما أن حب اللفظ مرضٌ، كذلك حب التصوير (الفني)، وحب الأسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله. بل ستكون هذه الأمراض بالإفراط أمراضًا مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن. حتى يُضحَّى بالمعنى في سبيل ذلك الحب، بل بدأ كثير من الأدباء بإساءة الأدب والأخلاق لأجل نادرة ظريفة، أو لإتمام قافية رنانة.

نعم، اللفظ يُزيَّن ولكن إذا اقتضته طبيعةُ المعنى وحاجتُه..

وصورةُ المعنى تُعظّم وتعطى لها مهابةٌ ولكن إذا أذِن بها المعنى…

والأسلوبُ يُنوَّر ويلمَّع ولكن إذا ساعده استعدادُ المقصود…

والتشبيه يلطَّف ويجمَّل ولكن إذا تأسس على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب…

والخيالُ يُنشط ويسيّح ولكن إذا لم يؤلِم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وأن يكون مثالًا للحقيقة متسنبلًا عليها.

المسألة الثانية

إن حيـاة الكلام ونموَّه: بتجسّم المعاني وبنفخ الـروح في الجمادات. وذلك بإلقاء الحوار فيما بينها بالسحر البياني الحاصل بقوة الخيال؛ المبنية على المغالطة الوهمية، المؤسسة على الدوران -أي ظن أحد الشيئين علّة للآخر في الوجود والعدم كما هو الاعتقاد العرفي-… فالسحر البياني إذا تجلى في الكلام بَعَثَ الحياة في الجمادات كالساحر، ويوقع بينها محاورة قد تنجرّ إلى المحبة أو المخاصمة، فيجسِّم المعاني ويحييها ويدرِج فيها الحرارةَ الغريزية.

فإذا شئت فادخل في البيت الصاخب:

يناجيني الإخلافُ من تحت مَطْلِهِ  فتختصم الآمالُ واليأس في صدري

أي: إن خلف الوعد يحاورني من تحت ستار المماطلة في الحق، ويقول: لا تنخدع. فتتخاصم الآمال واليأس ويهدّان منزل صدري المتزلزل.

فترى كيف مثّل الشاعر الساحر المحاربةَ والمخاصمة بتجسيمه الأمل واليأس وبعثه الحياة فيهما، وجعلهما في صراع مع مثير الفتن: إخلاف الوعد، حَتى جعل البيتَ كأنه مشهد سينمائي يتراءى أمام عقلك. نعم، إن هذا السحر البياني نوع من التنويم.

أو استمع إلى شكوى الأرض وعشقها إلى المطر في هذا البيت:

تشكّى الأرض غَيْـبتـه إليه وترشُف ماءَه رشفَ الرضاب

يضع أمام خيالك حالة قيس وليلى، فالأرض قيس ومعشوقها السحاب ليلى!

تنبيه: إن الذي جمّل هذا الشعر هو مشابهة ما فيه من الخيال إلى حدٍ ما بالحقيقة؛ إذ الأرض تُحدث صوتًا وأزيزًا إذا تأخر عنها المطر فتمص ماءه مصًا. والذي يشاهِد عنها هذه الحالةَ ينتقل خياله إلى تأخر المطر وشدةِ حاجة الأرض إليه، وبسر الدوران المعلوم وبتصرف الوهم يُفرغ الخيالُ نفسَه في صورةِ عشق وحوارٍ بينهما.

إشارة: لابد في كل خيال من نواة من حقيقة، مثل هذه النوية.

المسألة الثالثة

إن حلل الكلام أو جماله وصورته: بأسلوبه، أي بقالب الكلام؛ إذ الأسلوب يتنور ويتشرب ويتشكل باتخاذه تلاحق قطعات الاستعارة التمثيلية، المتركبةِ من الصور، الحاصلة بخصوصيات من تمايلات الخيال، المتولدة بسبب تلقيح الصنعة (البيانية) أو المباشرة أو التوغل أو دقة الملاحظة. فالأسلوب بهذا قالب الكلام كما هو معدن جماله ومصنع حلله الفاخرة. فكأن المتكلم ينادي بإرادته -التي تنبه العقل- فيوقظ المعاني الراقدة في زوايا القلب المظلمة، فتَخرج حفاةً عراةً وتَدخل الخيال الذي هو محل الصور، فتلبس (المعاني) ما تجده من صور في خزينة الخيال تلك، فتَخرج بعلامة مهما قلت، حتى قد تلفّ على رأسها منديلًا أو تَخرج لابسة نعلًا، أو تخرج بأزرار أو بكلمة تدل على أنها تربّت هناك.

فإذا أنعمتَ النظر في أسلوب الكلام -الكلام الطبيعي الفطري- ترى المتكلم في مرآة الأسلوب، حتى كأن نَفْسَه في أنفاسه ونبراته، وماهيتَه في نفثاته، وصنعتَه ومزاجه ممتزجان في كلامه، فلو تخيلتَ الأمر هكذا لما عوتبت في مذهب الخياليين.

فإن كان في خيالك مرض من الشك في هذا، فزُر مستشفى قصيدة «بردة المديح»، وانظر كيف كَتب الحكيمُ البوصيري وَصْفَته الطبية باستفراغ الدمع وحمية الندم:

وَاسْتَفْرغ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ  مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ

وإن اشتهيت شرب زلال المعنى من زجاج الحقيقة -أي الأسلوب- وترى امتزاجهما فاذهب إلى الخمّار واسأله:

ما الكلام البليغ؟ فسيقول لك بدافع من صنعته: الكلام البليغ ما طبخته مراجل العلم وبقي في دِنان الحكمة وصفّته مصفاة الفهم، فدار به الساقون الظرفاء، فشربتْه الأفكار، وتمشّى فيه الأسرار، فاهتزت به الأحاسيس.

وإن لم يَرُق لك كلام هؤلاء السكارى، فاستمع إلى مهندس الماء، هدهدِ سليمان عليه السلام، في النبأ الذي أتى به من سبأ، كيف وصف الذي علّم القرآن وأبدع السماوات والأرض، إذ يقول الهدهد: إني رأيت قومًا لا يسجدون لله: ﴿الَّذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ (النمل:25) فانظر، كيف اختار من بين الأوصاف الكمالية ما يشير إلى هندسة الهدهد.

إشارة: مرادي بالأسلوب: قالب الكلام وصورته، وآخرون يقولون غير هذا.

وفائدته البلاغية: التحام تفاريق القصة وقِطَعِها المشتتة، لتهتزّ القصة كلها بتحريك جزء منها حسب القاعدة: «إذا ثبت الشيء ثبت بلوازمه»؛ إذ لو وَضع المتكلم بيد السامع طَرفًا من الأسلوب فالمخاطب يمكن أن يرى تمامه بنفسه ولو مع شيء من الظلمة. فانظر أينما كان لفظ «بارز» فانه كالنافذة تريك ميدان الحرب.

نعم، هناك كثير من أمثال هذه الكلمات لو قيل إنها مَشاهد سينما الخيال فلا حرج.

تنبيه: إن مراتب الأسلوب متفاوتة جدًا؛ بعضها أرق من النسيم إذا سرى في السَّحر، وبعضها أخفى من دسائس دهاة الحرب في هذا الزمان، لا يشمّه إلّا ذوو الدهاء، كاستشمام الزمخشري من الآية الكريمة ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ (يس:78) أسلوبَ مَن يبرز إلى الميدان!

نعم، إن العاصي لله إنما يبارز خالقه ويحاربه معنىً.

 المسألة الرابعة

إن قوة الكلام وقدرته: أن تتجاوب قيوده، وتتعاون كيفياته، ويمد كلٌ بقدره مشيرًا إلى الغرض الأصلي ويضع إصبعه على المقصد. فيكون مثالًا ومصداقًا لدستورِ:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْـجَمَال يُشِيرُ

وكأن القيود مسيل ووديان، والمقاصد حوض في وسطها يستمد منها.

حاصل الكلام: يلزم التجاوب والتعاون والاستمداد، لئلا تتشوش صورة الغرض المرتسمة على شبكة الذهن والملتقطة بنظر العقل.

إشارة: ينشأ التناسب ويتولد الحسن ويلمع الجمال بنشوء الانتظام من هذه النقطة.

فتأمل في كلام رب العزة ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ (الأنبياء:46) المسوقةِ للتهويل، وتخويف الإنسان، وتعريفِه بعجزه وضعفه. فبناءً على القاعدة البيانية:

«ينعكس الضد من الضد» ترى الآية الكريمة تُبين تأثير القليل من العذاب بقصد التهويل والتخويف، فكل طَرَف من الكلام يُمِدّ المقصد -وهو التقليل- عن جهته وذلك بـ:

التشكيكِ والتخفيف في لفظ «إنْ».

والمسِّ وحده دون الإصابة في «مسّت».

والتقليلِ والتحقير في مادةِ «نفحةٌ» وصيغتِها وتنكيرها.

والتبعيضِ في «مِن».

والتهوين في «عذاب» بدلًا من نكال.

وإيماء الرحمة في «ربك».

كل ذلك يهول العذاب ويعظمه بإراءة القليل، إذ إنْ كان قليلُه هكذا فكيف بعظيمه.. نسأل الله العافية!

تنبيه: هذا نموذج نسوقه لك، إن قدرت فقس عليه؛ فإن جميع الآيات القرآنية يتلألأ عليها هذا الانتظام والتناسب والحسن. ولكن قد تتداخل المقاصد وتتسلسل، وتصبح توابع، كل منها مقارنة مع الأخرى دون اختلاط. فلابد من الحذر والانتباه، لأن النظرة العابرة كثيرًا ما تَزِلّ في هذه المواضع.

المسألة الخامسة

إن أصل الكلام وصورة تركيبه يفيد المقصد نفسه، كما أن غناه وثروته وسعته هو في بيان لوازم الغرض وتوابعه وهزّه بتلميحاتِ مستتبعاته وبإشارات الأساليب؛ إذ التلميح أو الإشارة أساس مهم يهزّ عطف الخيالات الساكنة ويستنطق جوانبها الساكتة، فيهيّج الاستحسان في أقصى زوايا القلب.

نعم، إن التلميح أو الإشارة إنما هو لمشاهدة أطراف الطريق ومطالعتها، وليس للقصد والطلب والتصرف، بمعنى أن المتكلم لا يكون مسؤولًا فيه.

فإن أحببت فادخل في هذه الأبيات لترى ما يستحق المشاهدة:

فانظر إلى شعرات لحية الشيخ الذي اعتلى فرسه وأراد أن يعرض فتوته تجاه حسناء، تجد فيها مفاتيح بلاغة كثيرة..

فدونك الأبواب افتحها:

قالتْ كبرتَ وشِبتَ قلتُ لها  هذا غبارُ وقايع الدهر

وأيضًا:

ولا يروّعك إيماض القتير به  فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

أي لا يخوّفك ابيضاض شعرات فإن نور العقل والأدب قد سالا من الدماغ إلى اللحية.

وأيضًا:

وعينُك قد نامتْ بليلِ شبيبةٍ فلم تنتبه إلّا بصبح مشيب

وأيضًا:

وكأنما لَطَم الصباح جبـينه فاقتصّ منه وخاض في أحشائه

يصف الشاعر فرسه فيريد: أن غرّته إنما هي أثر من لطمة الصباح على جبينه، وتحجيلَه إنما هو من خوضِ قوائمه الأربع في أحشاء الصباح.

وأيضًا:

كأن قلبي وشاحاها إذا خطرتْ  وقَلْبَها قُلْبُها في الصمت والخرس

أي يتحرك قلب الشاعر كوشاح في خصر المعشوق، بينما قلبها في سكون وصمت كسوارها. فلئن اشتاق قلبي إلى ذلك الزند القوي والخصر النحيف فإن قلبها مستغن عني… فالشاعر جمع في البيت الواحد الحسن والعشق والاستغناء والاشتياق.

وأيضًا:

وألقى بصحراء الغبـيط بعاعه  نـزولَ اليمانِي ذي العياب المحمّل

أي إن السيل القادم من المطر، ألقى بضاعته كالتاجر اليماني في صحراء الغبيط، فأخذت الأزاهير تتلون بتلك الأخلاط التجارية الممزوجة بالأصباغ والألوان وتلبس الحلل الزاهية حتى تحمر رؤوسها، مثلما لو نزل تاجر في قرية مساءً واشترى منه أهلها بضاعته المتلونة المتنوعة، يخرج في الصباح كلٌ من بيته في زينة وجمال وحتى راعي القوم يعصب رأسه بعصابة حمراء.

وأيضًا:

غَارَ الوفاءُ وفاض الغدرُ وانفرجتْ مسافةُ الخلف بين القول والعمل

فإن شئت فالتفِتْ إلى ما قبل هذه المقالة، تجد أمثلة كثيرة حول هذه المسألة.

منها: «إن مفتاح دلائل إعجاز الآيات وكشاف أسرار بلاغتها، البلاغة العربية لا الفلسفة اليونانية».

أو راجع الإشارة التي هي في خاتمة المسألة الأولى من المقالة الأولى، فإن فيها: «إن شريعة الخليقة أو الشريعة الفطرية قد فَرضت على الأرض المجذوبة السائحة ألّا تشذ عن صف النجوم المقتدية بالشمس».

نعم، إن الأرض مع قرينتها ﴿قَالَتَٓا اَتَيْنَا طَٓائِعينَ (فصلت:11) والطاعة في الجماعة أفضل.

فتأمل الآن في هذه الأمثلة، فإن كل مثال يُريك مِن أمامه ومن خلفه مقاماتٍ، بحيث تبرز مقامات أخرى خلفها.

المسألة السادسة

إن ثمرات الكلام هي: المعاني المتولدة في صور متعددة والمتفجرة في طبقات متفاوتة. فكما هو معلوم لدى الكيمياويين: إن الذهب عند استحصاله، يمرر في أنابيبِ معامل متعددة ويرسب ترسبات مختلفة في طبقات متفاوتة ويشكل بأشكال متنوعة. وفي الختام يحصل على قسم من الذهب. كذلك الكلام الذي هو خريطة مختصرة أُخذت من صورة المعاني المتفاوتة، فالمفاهيم المتفاوتة تتشكل صورُها كالآتي:

إنه باهتزاز قسم من أحاسيس القلب بتأثيرات خارجية تتولد الميول، وبتكّون معان هوائية منها وتعلّقها بنظر العقل توجِّه العقل إلى نفسها.. ثم بتكاثف قسم من ذلك المعنى البخاري يبقى قسم من الميول والتصورات معلقة.. ثم بتقطر قسم آخر يرغب فيه العقل.. ثم القسم المائع يتحصل منه ويُصلّب، فيضمه العقل ضمن الكلام.. ثم ذلك المتصلب لأنه يتجلى ويتمثل برسم خاص به، يُظهره العقل بكلام خاص حسب قامته المخصوصة.

بمعنى أن المتشخص من المعنى يأخذه العقل ضمن صورة خاصة للكلام. وما لم يصلّب يسلّمه ليد الفحوى، وما لم يتحصل يحمله على إشارات الكلام وكيفياته، وما لم يتقطر يحيله إلى مستتبعات الكلام، وما لم يتبخر يربطه باهتزازات الأسلوب وأطوار المتكلم التي ترافق الكلام.

ومن هذا النبع ينفجر مسمّى «الاسم»، ومعنى «الفعل»، ومدلول «الحرف» ومظروف «النظم»، ومفهوم «الهيئة»، ومرموز «الكيفية»، ومشار «المستتبعات» ومحرك «الأطوار المشايعة للخطاب» ومقصود «الدال بالعبارة» ومدلول «الدال بالاشارة» والمفهوم القياسي لـ«لدال بالفحوى» والمعنى الضروري لـ«لدال بالاقتضاء» وأمثالها من المفاهيم كل منها ينعقد في طبقة من طبقات هذه السلسلة.

فإن اشتقت فتطلع في وجدانك تشاهد هذه المراتب، وذلك إذا ما ألقى محبوبك شعاع حسنه وبريقه من نافذة العين إلى الوجدان؛ فذلك العشق المسمى بالنار الموقدة، يحرق مباشرة الحسياتِ ويلهبها، فتتهيج الآمال والميول، فتثقب تلك الآمالُ مباشرة سقفَ ذلك الخيال الذي في الطبقة العليا، ويستغيث فتسعى إلى تلك الآمال الخيالاتُ الممسكة بيدها محاسنَ المحبوب أو المشبعة بمحاسن غيرها، فتهاجم معًا وتنطلق من تلك الخيالات إلى اللسان وتستردف ميل زلال الوصال، وتضع على يمينها آلام الفراق، وتضع في يسارها التعظيم والتأدب والاشتياق، وتضع أمامها محاسن المحبوب المقتضي للعطف والترحم، فتنشر تحية ثنائها، وتنظم قلائد مدحها، المتجلية من الكل بوصف الفضائل المستجلِب لزلال الوصال، المطفِئ للنار الموقدة على الأفئدة. فانظر كم من المعاني ترفع رأسها من غير الطبقات التي تعرفها.

فإن لم تخف فانظر إلى وجدان كل من ابن الفارض وأبي الطيب المنبهر أكثر من عيونهما، وتأمل في ترجمان الوجدان في:

غرستُ باللحـظ وردًا فوق وجنتها  حقٌ لطرفيَ أن يجنِي الذي غرسا

وأيضًا:

فللعين والأحشاء أول هل أتى تلا عائدي الآسي وثالث تبت

وأيضًا:

صدٌّ حَمى ظمئي لُماكَ لماذا وهواك قلبي صار منه جُذاذًا

وأيضًا:

حشايَ على جَمر ذكيّ من الغضا  وعينايَ في روضٍ من الحُسن ترتعُ

فشاهد واستمع كيف أن عيونهم تتجول في جنة وسعيرُ وجدانهم تُعذِّب.

ولقد بيّن الشعراء خيالات رقيقة جدًا بالإشارة إلى محاسن المحبوب، وبالرمز إلى استغنائه، وبالإيماء إلى التألم من فراقه، وبالتصريح بالشوق إليه، وبالتلويح بطلب الوصال، وبالنص على الحسن الجالب للعطف.. مع ما يحرك الحسيات من أطوار.

إشارة: كما يلزم في نظام أية دولة كانت، أن يكون أجر الموظف حسب وظيفته وبمقدار خدماته وعلى وفق قابليته واستعداده، كذلك يلزم تقسيم العناية وتوزيع الاهتمام توزيعًا عادلًا، بحيث تأخذ كلُّ معنى من المعاني المتزاحمةِ في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبَه وحظه بنسبة قربه من مركز الغرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الأساس، وذلك ليحصل بتلك المعادلـة: الانتظامُ، ومـن الانتظام: التناسبُ، ومن التناسب: حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق: حُسنُ المعاشرة، ومن حسن المعاشرة: ميزان التعديل لكمال الكلام. وبخلاف هذا فإن مَن هو خادم وظيفةً وصبي طبعًا إذا دخل في مراتب كبيرة يتكبر فيفسد التناسب ويشوش المعاشرة. أي يلزم أخذ استعداد قيود الكلام بنظر الاعتبار.

نعم، يجب أن يرفع مقام كل شيء بقدر استعداده؛ إذ العين والأنف وما شابههما من الأعضاء مهما كانت جميلة فإنها تتشوه إذا جاوزت الحد ولو كانت ذهبًا.

تنبيه: قد يذهب جندي بسيط إلى مواضع من العدو لاستكشاف مالا يقدر عليه المشير، أو يؤدي تلميذ صغير من العمل ما لا يؤديه عالم كبير، إذ الكبير لا يلزم أن يكون كبيرًا في كل أمر، بل كلٌّ كبيرٌ في صنعته.

وكذلك قد يترأس معنى صغيرٌ بين تلك المعاني المتزاحمة، فيأخذ قيمةً أعلى، لأن وظيفته ذات أهمية كما سنبينها.

والذي يشير إلى تلك المعاني المتزاحمة، والمنارُ على قيمتها عدمُ صلاحية صريح الحكم المنصوص ولازمه القريب لسفارة الكلام وسَوقِ الخطاب وإرسالِ اللفظ لأجله؛ إما لكونه بديهيًا معلومًا مشهودًا.. أو خفيفًا وضعيفًا لا يُهتم به في الغرض الأساس.. أو لفقدان من يتقبله و يستمع إليه.. أو لا يوافق حال المتكلم ولا يفي بداعي الرغبة في التكلم.. أو لا يمتزج ولا يقبل الامتزاج مع شرف المخاطب ومنزلته.. أو يبدو غريبًا في مقام الكلام وتوابع المستتبعات.. أو ليس له استعداد للحفاظ على الغرض وتهيئة لوازمه.

بمعنى: أن كل مقام يستمع إلى سبب واحد من بين هذه الأسباب. ولكن لو اتحدت عمومًا ترفع الكلام إلى أعلى طبقة.

خاتمة:

هناك معان معلقة، ليس لها شكل مخصوص ولا وطن معين. فهي كالمفتش الذي يمكنه الدخول إلى أية دائرة كانت، وبعضها يقلّد لفظًا خاصًا بها. هذه المعاني المعلقة قسم منها معان حرفية هوائية، قد تستتر في كلمة، أو يتشربها كلام أو تتداخل في جملة أو قصة، فإن عصرت تقطّر ذلك المعنى كالروح فيها كما في معاني «التحسر» و«الاشتياق» و«التمدح» و«التأسف» وغير ذلك.