كلمة للقارئ الكريم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

لقد سمى الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ مؤلَّفه هذا بـ«رجتة العلماء» أي الوصفة الطبية للعلماء، وذلك لِما كان يشعر به ويلمسه من حاجة العلماء ولاسيما علماء عصره، إلى تناول مثل هذه العلاجات التي يضمها الكتاب.

فكتب مؤلَّفَه هـذا باللغة التركية ثم ترجمه إلى لغة العلم السائدة لـدى أهـل العلم وهي اللغة العربية. إلّا أنه أجمل فيه ما فصّل هناك. حتى غدا النص العربي غامضًا مغلقًا -إلّا للعلماء- مما اضطر إلى كتابة «تنبيه» في مستهل الترجمة العربية في طبعتها الأولى وكما يأتي:

«وجبَ عليك أن لا تتعجل في مطالعتها وأن تسأل أهلَ الذكر إن كنتَ لا تعلم، وعليك برفيقتها التركية فإنها شرحَت مُعَمَّياتها وقرّبتها إلى أفواه أفهام العوام».

وفي ختام التنبيه كرّر قوله:

«واسترفِق رفيقةً تركية القدِّ تفصّل ما أجمل… فعليك بالصحبة معها».

ونرى أيضًا أن الأستاذ النُّورْسِيّ عندما ضُمَّ إلى عضوية دار الحكمة الإسلامية التابعة للمشيخة الإسلامية للدولة العثمانية، سجَّل هذا الكتاب ضمن كتبه التركية في سجل الدار المذكورة.

بمعنى أن الكتاب قد أُلّف أصلًا باللغة التركية ثم لخّصه المؤلف نفسه في عبارات مجملة جدًا باللغة العربية.

أخلُص من هذا أن السبب الذي دعاني إلى ترجمة الكتاب وتحقيقه وعدم الاكتفاء بترجمة المؤلّف العربية هو الغموض الشديد في النص العربي إلى حد استعصاء الفهم -إلّا للعلماء- بينما المؤلَّف التركي يستفيد منه العلماء وكثير من المهتمين والمثقفين.

والسـبب الآخر والأهم الـذي دعـانـي إلى القيـام بالترجمة والتحقيـق هـو أنني لما أكرمني المولى القدير بتحقيق آثار الأسـتاذ النُّورْسِيّ العربية: «المثنوي العربي النوري» ثم «إشارات الإعجاز» و«الخطبة الشامية» رأيت أنه من الواجب عليّ تقديم هذا الكتاب للقارئ الكريم بأسلوب مفهوم حيث المؤلف عدّه مقدمةً لتفسيره الجليل «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز». فـلله الحمد والمنة على توفيقه الكريم وله الفضل أولًا وآخرًا.

والكتاب بحد ذاته يحوز أهمية بالغة للمهتمين بالفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية، إذ يُبرز ما كان يدور في أذهان العلماء وكتب التفاسير المتداولة في ذلك العصر -أواخر الدولـة العثمانية- فضلًا عن أن الموازين والقواعد التي وضعها المؤلِّف لتقويم المفاهيم الغريبة والدخيلة في كتب متداولة لدى العلماء، ما تزال تحفظ تلك الموازينُ بجدَّتها وحيويتها وحقيقتها… ولعل هذا هو السـبب الذي أدّى إلى تسـمية الكتاب بـ«محاكمات عقلية» أو «صيقل الإسلام» أملًا من المؤلف أن يشحّذ به سيفَ الإسلام ويُجَلّيه من أدران وصدأ.

كان نهجي في الترجمة والتحقيق الآتي:

أولًا: ترجمة النص التركي المطبوع في دار سوزلر للنشر بإسطنبول سنة 1977م مع الاعتماد على نسخة من الطبعة الأولى (مطبوعة سنة 1327-1911م بمطبعة «أبو الضياء» بإسطنبول) وعلى هذه النسخة تصحيحات المؤلف نفسه. تفضّل بها عليّ الإخوة العاملون في دار سوزلر، جزاهم الله خيرًا.

ثانيًا: مقابلة الترجمة بعد الانتهاء منها بترجمة المؤلف الموجزة بطبعتها الأولى المنشورة تحت اسم «رجتة العلماء». وبطبعتها الثانية المنشورة ضمن كتاب «الصيقل الإسلامي» بمطبعة النور بأنقرة سنة 1958م.

ثالثًا: اقتباس بعض عبارات المؤلف العربية من ترجمته.

رابعًا: ضبط الآيات الكريمة وبيان مواضعها من السور.

خامسًا: تخريج الأحاديث الشريفة بمعاونة إخوة لهم باع طويل في علم الحديث.

سادسًا: كتابة هوامش لشرح بعض الاصطلاحات العلمية الواردة في الكتاب.

سابعًا: وضع تراجم مختصرة لعدد من الأعلام التي وردت في الكتاب ولمؤلفاتهم ممن لم ينالوا حظًا من الشهرة عند القارئ، مع إغفال المشاهير المعروفين عندهم.

وبعد أن تم العمل بفضل الله ودِدت أن لو قام أحدُ العلماء الأفاضل بمراجعة ما قمتُ به من تحقيق وترجمة. علّه يرشدني إلى ما فيه الأصوب. فشاء الله أن يكون ذلك العالم هو الشيخ الجليل والعالم المبجّل والأستاذ القدير الدكتور عبد الملك السعدي، فما إن عرضت عليه الفكرة حتى رحّب بها وقبِلها بتواضع جم، فقرأ الكتاب قراءةَ عالم مدقق ونبّهني على نقاط قد غفلت عنها، ووَضَع هوامش ذيّلتُها باسمه، ثم كلّل جهدي بمقدمة قيّمة نافعة بإذن الله فجزاه الله عنا خير جزاء.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

 وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إحسان قاسم الصالحي