[الباب الرابع: في الأدلة والحجج الخ]([1])

اعلم أن الدليل باعتبار الصورة هو المقصد الأعظم من المنطق.. وهو بسيط عند الأصوليين، فالنظر في أحواله.. ومركب عند المنطقيين، فالنظر فيه.. فالدليل: ما يكتسب بالنظر في أحواله، أو فيه حكم آخر.. فالاستدلال: إما بالجزئي على الكلي.. فهو الاستقراء، وهو أساس أدلة العربية بل في ابتداء حصول كل العلوم.. وإما بالجزئي على الجزئي، وهو التمثيل، وهو المعتبر في أصول الشرع، بل في كل التشبيهات.. وإما بالكلي على الجزئيّ، أو على الجزئي الإضافي.. وهو القياس المنطقي، والجاري في تعليم العلوم..

ثم إن البدهي من هذا القسم الذي يكتسب به نظريات هذا الباب؛ القياس المقسم.. والاستثنائي وغير المتعارف المعبّر عنه -في الأكثر- بقياس المساواة… والشكل الأول الراجع محصّلهُ إلى قياس المساواة.. وأصله: قياس غير متعارف. هكذا: زيد مساو لعمرو، وعمرو مساو لبكر؛ فزيد مساو لبكرٍ بالضرورة. وكل مساو المساوي مساو.. فزيد مساو، وهو المطلوب. فهذا التكلّف لتحصيل تكرر الأوسط. والأصح أنّ تكرر الأوسط شرط العلم بالإنتاج.. فيمكن لزوم الإنتاج بدونه؛ كأكثر شرائط اقترانيات الشرطية. وأما شرط تحقيق الإنتاج الذي لا يمكن لزوم النتيجة بدونه: فكإيجاب الصغرى وكلية الكبرى في الأول، وأن لا تكون المقدمتان سالبتين أو جزئيتين في الكل وغيرها.

اعلم أن الدليل لما كان العلم به بالمعنى العام علّةً للعلم..كذلك بالنتيجة وجب تقديمه. فالدور بكلا معنييه باطل، وكذا المصادرة.. وان تكون المادة مناسبة ذاتًا وكيفية للنتيجة.

فان قلت: الذهن كاللسان يتعاقب فيها الصغرى والكبرى، فكيف يكون كلاهما علّة مؤثرة؟..

قلت: الأفكار علّة معدّة للمطالب باعتبار الحضور.. وعلّة مجامعة([2]) باعتبار الحصول.

فإن قيل: الإيمان الذي هو التصديق([3]) مكلف به، والمكلف([4]) به فعل اختياري مع أن اللزوم ضرورة والتصديق انفعال؟

قلت: التكليف بترتيب المقدمات..

فان قلت: الدليل يستلزم النتيجة مقدمة أساسيّة للإنتاج. مع أنه نظرية. فإن أثبت بدليل فذلك الدليل أيضًا متوقف على مثل هذه المقدمة؟

قلت: هذه المقدمة تثبت بدليل، تثبت هذه المقدمة فيه، في نفس الأمر بالانتقال الطبيعي، لأن علم العلم ليس بلازم بالضرورة، لأن ذلك الدليل من المعقولات الأولى.

فإن قلت: علم صدق كليّة الكبرى التي في قوة قضايا متعددة بعدد الأفراد التي منها موضوع النتيجة شرط للإنتاج، حتى في أَبْدَهِ الأشكال، مع أن العلم بصدقها، يتوقف على العلم بالنتيجة. فما هذا الدور؟..

قلت: إن لاختلاف العنوان تأثيرًا في اختلاف الأحكام؛ معلوميّة ومجهولية، ضرورية ونظرية. فموضوع النتيجة تحت عنوان موضوع الكبرى قد يكون ضروريًا.. وتحت عنوانه نظريًا. ثم إن للإنتاج شرائط عموميّة.. وقد مرّ نبذة منها باعتبار المادة والصورة. وخصوصيته فسيأتي.

ومن الشرائط العموميّة التفطّن الذي هو كالجماع بين الزوجين.. وملاحـظة النتيجة في بطن الكبرى..

ثم اعلم أن الاستقراء له وقع عظيم واستعداد واسع، بل هو المؤسس للعلوم، بل هو المفصّل للعقل بالملكة. فقد بخسوا حقه في الاختصار فيه. ومنه: ما هو مفيد لليقين، وهو التّام الذي كالتواتر الحالي. أو تتبع قليل أفراد في نوع واحد بالنظر بطبيعة النوع.. وهو أيضًا مفيد لليقين، بسبب انضمام حدسٍ معنوي إليه.. ومفيد للظّن، وهو الاستقراء الناقص في أكثر الجزئيات؛ إذ بسر الحكمة يكون الأكثر هو الباقي على الأصل الذي لايعلل. وإذا اختصروا فلنختصر..

ثم إن التمثيل أيضًا مفيد لليقين، إن كان مقدّماته يقينيّة، أي وجود الشرائط وانتفاء القوادح ويقينيّة المسلك الذي تثبت العليّة به.. وبندرة اليقينية بكلّها أطلقوا إفادة الظنّ.

ثم للتمثيل الذي منه التشبيه أيضًا، أركان أربعة: وهو المقيس، والمقيس عليه، والجامع، وحكم الأصل. لا حكم الفرع، فإنه نتيجة.

اعلم: أن للقياس التمثيلي مجالًا واسعًا، فيجري في فنون شتّى وفي المحاورات. لكن القدح المعلّى للشرع..

ومن شرائطه فيه: أن لا يكون حكم المشبّه به مختصًا.. أو تعبّديًا.. أو مستثنىً.. أو متغيرًا عند التعدي. الخ..

ومن مسالكه فيه: الإجماع، والنصّ، والإيماء بالحكم على المشتقّ، والسّبر بالتقسيم، وطرد غير الصالح، والمشابهة، وإلغاء الفارق، والعكس. أي الوجود عند الوجود.. وقيل الطرد وهو عكس العكس.. والدّوران كلاهما.. وتنقيح المناط بطرد الخصوصيات.. وتحقيق المناط بإثباتٍ في الصور الخفيّة؛ كالسرقة في الطّرار والنباش، وتخريج المناط، والمناسبة.. والوصفُ المناسب، هو الذي لو عرض على العقول لتلقّته بالقبول.. وهو إما حقيقي أو إقناعي.. والحقيقي: إما ضروري، وهو الأقطاب الخمسة. أي حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والناموس؛ المناسِبة للقصاص… والجهاد، وحدّ السكر أو الشرب، وحدّ السرقة، وحدّ القذف؛ وحدّ الزنا. وإما حاجّيّ: كما في أساسات المعاملات… وإما استحساني: كالتنزيه من القاذورات، وعدم تولية النساء والعبيد.. والإقناعي: كبطلان بيع الخمر للنّجاسة.. وقس، فتأمل!

ثم العلة: لابد أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا، لا كالمشقّة وبراءة الرحم…

والعلة علامة، وإنما المؤثر خطاب الله.. كما أن المؤثّر في عالَم الخلق قدرة الله. فتأمل!

ثم المانع: إما من انعقاد العليّة، أو عليّةِ العلة، أو ترتب الحكم أو دوامه.. كبيع المعدوم، وبخيار الرؤية، وبخيار المجلس، وبخيار الشرط أي العيب. كما أن الرّمي قد لا يصيب، أو يصيب لا يجرح، أو يجرح يندمل، أو لا يندمل بذمن([5])..

ومن القوادح: النقض، أي تخلّف المعلول عن العلة، والمعارضةُ، والكسر، وعدم التأثر. وقس، فتأمل!

اعلم، انّا إذا تحرّينا مطلوبًا؛ فإن كان لجملته نسبة إلى شيء، فاستثنائي.. أو لأجزائه، فاقتراني.. والاستثنائي من شرطية واستثنائية، حملية أو شرطيّة. فشرط الشرطية: الإيجابُ وعدمُ الاتفاق.. والكليةُ عند عدم كليّة الاستثنائية أو شخصيّتِها. إذ سلب اللزوم أو العناد لعمومه، لا يستلزم شيئًا. وللزوم النتيجة للدّليل، لاسيما للمقدمة الاستثنائية؛ لم تَقدر الاتفاقية على الإنتاج. وسرّ الكلية ظاهر.

ثم الشرطية: إن كانت متصلة.. فالمستقيم استثناء عين المقدم لا التالي، لإمكان العموم.. وغيرُ المستقيم استثناء نقيض التالي، لا نقيض المقدّم، لإمكان أعميةِ نقيضِ ممكن الأخصيّة. وغير المستقيم يرتدّ مستقيمًا بعكس نقيض الشرطيّة.

وإن كانت منفصلة حقيقيّة، فله أربع نتائج باستثناء عين كلٍ أو نقيض كلٍ. ويرتدّ هذا إلى المستقيم باستلزام الحقيقية لأربع متصلات.

وإن كانت مانعة الجمع، فاستثناء عين كلٍ لأخصيّته، لا نقيضه لأعميّته بالردّ إلى المستقيم بواسطة تلازم مانعة الجمع للمتّصلة، مقدّمتها([6]) عين أحد جزئيها([7]).. وإن كانت مانعة الخلوّ، فعكسها ومثلها في الرد والبرهان.

فإن قلت: المستقيم يكفي، إذ الباقي بالردّ يظهر؟

قلت: مراعاةُ طبيعة الفكر والتحصيل([8]) وغيرها،([9]) أحوجتنا إلى الطرق المعوجّة؛ فكم من أشياء هي مقدمة طبعًا، أو تالٍ طبعًا، أو المحصل نقيضها. وقس.. فلو استقمت لم يستقم..

اعلم أن القياس من محض الحمليات يسمّى اقترانيًّا.. ومن محض الشرطيات أو المختلط يسمى اقترانية، فأصولها خمسة.. وفروعها خمسة آلاف. والضابط فيها: أن الجزء الغير المشارك يبقى في النتيجة، مع نتيجة التأليف بين المتشاركين. ونتيجة التأليف لازم([10]) للمشارك باعتبار. وملزوم الملزوم ملزوم. ومعاند([11]) الملزوم كاللامعاند اللازم في الجملة. فمن متّصلتين في الشكل الأول مع الاشتراك في جزء تامٍ مبنيّ على أن اللازم اللازم لازم.

ومن منفصلتين مع الاشتراك في غير تامّ،([12]) نتيجته منفصلة مركبّة من الجزء الغير المشارك، مع نتيجته التأليف بين الجزء الآخر؛ الحملية والمنفصلة الكبرى. لأن معاند الملزوم معاند اللازم بجهة..

ومن متصلة وحملية.. المشاركة لأحد جزئيها، ينظر المتشاركين بشرائط الأشكال. ثم يؤخذ نتيجته التأليف.. ثم يضمّ إلى الجزء الغير المشارك مقدّمًا أو تاليًا.

ومن المنفصلة والحملية الواحدة، فالنتيجة منفصلة مركّبة من غير المشارك، مع نتيجة التأليف بين الحملتين، مع مراعاة الشكل الذي هو منه. وإن كانت الحملية متعددة عدد أجزاء المنفصلة، فانظر إلى كلّ متشاركين منها، وخذ نتيجة التأليف من كل جزئين؛ فإن اتحدت الحمليات في طرف، فالنتيجة حملية.. وهو القياس المقسم المشهور، وإلّا فالنتيجة منفصلة مركبّة من نتائج التأليفات؛ كـ«الكاتبُ إما جاهل أو غافل. والجاهل لابدّ أن يُعَلّم، والغافل لابدّ أن يُنبّه».. فالكاتب إما لابـدّ أن يعلّم وإما لابـدّ أن ينبّه.


[1] كلنبوي ص30 س19..

[2] مقارنة.

[3] المنطقي مع لازمه.

[4] حال.

[5] ولعله «بزمن». ع.ب.

[6] (أي المتصلة). أجير.

[7] (أي مانعة الجمع). أجير.

[8] أي محصلية الأشياء.

[9] من نكات البلاغة.

[10] إن كان الصغرى متصلة.

[11] إن كان منفصلة.

[12] إن كانت تامًا فمتصلة.. إن حقيقيّة.