مقدمة:

ومن المعقولات الثانية ما يسمى بالأمور العامة، ومنها الوحدة والكثرة. فالوحدة إما حقيقي أو اعتباري. فالاعتباري: فالاتحاد في الجنس المجانسة، وفي الفصل، أو أخصّ الصفات المماثلة. وفي الكم المنفصلة؛ المساواة. وفي المتصلة؛ الموازاة أو المحاذاة أو الموافقة أو المطابقة. وفي الوضع المشاكلة وفي الملك المشاركة. وفي مقول الإضافة والفعل والانفعال، المناسبة. وفي «متى» المعاصرة. وفي مقول «أين» المجاورة.

وأما الكثرة، والاثنينية. إن لم يكن فيها التماثل، فالتخالف.. فإن لم يعبّر فيها التماثل فالتخالف، فإن لم تعبر([1]) فيها منع الاجتماع، فالتغاير.. وان اعتبر منع الاجتماع من جهة واحدة في زمان واحد وفي محل واحد، فالتقابل. فإن توقف تعقل أحدهما على الأخرى فالتضايف.. وإلاّ فإن كان طرفاها وجوديين، فباعتبار الصدق التباين. وباعتبار الوجود، التضادّ.. وإن كان أحد الطرفين عدميًا، فإن اشترط قابلية المحلّ؛ فعدم ملكة، وإلّا فالتنافي في المفردات، والتناقض في الجمل أو فيهما. والإيجاب والسلب في الجمل.

ثم التناقض من أحكام القضايا التي لها دخل في الاستدلال، لأنا كثيرًا ما نثبت لزوم النتيجة للدليل وغيرها بالخلف، وهو إثبات الشيء بإبطال النقيض.. فلابد من معرفة فحوى التناقض..

اعلم أن التناقض من الأحكام التي يتوقف عليها بيان الأشكال النظرية. فإن غير الأول نظري، يثبت إنتاجه بقياس الخلف المؤسس على أخذ النقيضين، وبقياس الاستقامة المتوقف على معرفة العكوس.

ثم التناقض لا يحتاج إلى كثير مؤونة بحسب الحقيقة، فبعد معرفة الشيء يكون نقيضه بدهيًا. لأن نقيض كل شيء رفعه، والرفع نفي، والنفي عدم، والعدم كالوجود أعرف الأشياء، لأنهما أعمّ. والشيء معلوم بالفرض.. إلّا أن العدم الغير المحصل لا يكون مصدرًا للآثار المقصودة لنا. فأرادوا ضبط قضايا محصّلة، هي لوازم النقائض الحقيقية أو عينها.. مثلًا: إن نقيض «زيد ليس بقائم»، «ليس زيد بقائم». وهو كما ترى.. ولذا عرّفوه بـ(اختلاف قضيتين). أي لا مفردين. لأنه لا مدخل له في الخلف. أو مفرد وقضيته (بالإيجاب والسلب). أي لا بالأفراد والتركيب وغيرهما.. (بحيث يقتضي لذاته). أي لا بواسطة مقدمة أجنبية، هي «معاندُ مساوِ الشيء معاند للشيء»، (امتناع صدقهما وكذبهما)، أي بينهما انفصال حقيقي.

ثم يستفاد من التعريف اشتراطه بثلاث اختلافات واتحاد واحد، أو اثنين أو ثلاثة أو ثمانية أو أربعة عشر. أما الاختلاف ففي الكيف بصريح التعريف، وبالتخلف. في «ابنك أيها العزب قائم، ولا قائم» والاختلاف في الكم للتخلّف أيضًا في الموضوع والمقدم الأعمّ بالكذب في الكليّة، والصدق في الجزئية، والاختلاف في الجهة، وسيجيء..

ثم الاتحاد الواحد: ففي النسبة.. لأنه إذا اختلف أحد طرفيها أو قيد من قيودها، اختلفت النسبة. فبعكس النقيضين إذ اتّحدت، اتحدتا في قيودها.. أو الاتحاد في الموضوع يقيّد به، والمحمول بقيوده الأربعة، أو فيها وفي الزمان، لأن الزمان لا يتأتى أن يصير جزء المحمول في الجملة أو في الموضوع.. وفي الجزء والكلّ، لا الجزئية والكلية. وفي الشرط. كـ«الجسمُ مفرق للبصر، ليس بمفرق» بشرط البياض والسواد. وفي المحمول، والزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل.. أو في هذه الثمانية مع التبادل في قيود الموضوع والمحمول بسر التخلف في الكل…

اعلم أن القضية باعتبار كل قيد من قيودها تتضمن قضية قد تصير مناط الحكم.

واعلم أيضًا آن نقيض الشيء عدمه.. وأن القضية ذات القيود الثلاثة لها ست عدمات. فلابد في أخذ نقيضها من عدم يعمها.. وما هو إلّا عدم الأخص من قيودها، فإن عدم الأخص أعمّ، وعدم الأعمّ أخصّ، يجوز خلوّهما. وفي الموجهة القيد الأخصّ هو الجهة. ففي «الإنسان حيوان بالضرورة» مدار التناقض حيوانية الإنسان ضرورية. وسلب الضرورة إمكان، فنقيض الضرورية الذاتيةِ الممكنةُ العامة في جانبها المخالف.. وهو يستلزم سلب الضرورة في جانبها المخالف، وهو الموافق للضرورة.

ولما كان بين الثبوت لكل الأفراد والسلب عن البعض تناقض؛ فكذلك بين الثبوت في جميع الأزمان والسلب في البعض أو بالعكس ذاتًا أو صفة تناقضٌ.. فنقيض الدائمة المطلقة المستلزمة لوقت، والعرفيةِ الحينية الوقتية، أو بالعكس.

وأما الوقتية، فكالشخصية باتحاد الوقت.. فنقيضها الممكنة الوقتية. وأما المنتشرة، فلما انتشرت الوقت كان كالنكرة في الإثبات.. فإنما يناقضه الإمكان، إذا نفاه على سبيل العموم كالنكرة في سياق النفي حكمًا.

اعلم أن نقيض المركبات ليست من جنسها، وإنما أخذوا منفصلة محصلة، هي لازمة نقيضها؛ بسبب أن أصل القضية كالوجود له فرد واحد، وهو وجود جميع أجزائها. ونقيضها الذي كعدمها متعدد الأفراد، حتى في مركب ذي خمسة أجزاء، للعدم أحد وثلاثون فردًا، وذات جزئين ثلاثة أفراد. فلهذا لا يعين عدم جزء الأخصية، بل ينشر ويردد فيما لا تداخل بين أجزائه، ومن الإبهام والترديد بتولد إما حملية شبيهة المنفصلة، أو منفصلة شبيهة الحملية.

ثم إن المتشابهتين في المتصلة متساويتان، وفي المنفصلة متلازمتان. إن كانتا جزئيتيّن، ومتخالفتان. يعنى أن المنفصلة أخصّ، إن كانتا كليّتين. مثلًا: كل عدد إما زوج وإما فرد.. وكل إنسان إما كاتب وإما أمي. ولا يصدق إما كلّ عدد زوج، إما كل عدد فرد.. وإما كل إنسان كاتب، إما كل إنسان أميّ. بل مبعض بسبب أن كليّة الحملية، كل فرد، إذا لم يتم الحكم. وتقديم «إما» على «كلّ» يصيّره مجموعيًا، إذ دخوله بعد تمام الحكم.. وبعد تمام الحكم كُلُّ كلٍّ إفراديٍ يكون كلّا مجموعيًا.

واعلم أيضًا أن المركب متحدّ موضوع جزئيّها حقيقة بالضرورة لأجل التركيب والمحلل لا ضرورة في حقيقة موضوعي الجزئيين. ونحن نأخذ نقيض جزئين([2]) المحللّ. فلابد أن يكون المحلل عين المركب في الموضوع، ليكون نقيض نقيضه. ففي القضايا المركبة، الكليّة المحلل عين المركب.. بسرّ «كلّ»، فإنه محيط.. فلا إشكال في أخذ نقيضها.

وأما المركبات الجزئية: فلما كان مفهوم الجزئية المركب أخصّ، بسرّ الاتحاد من مفهوم الجزئيتين المحللتين لعدم ضرورة أن يكون البعضان مشيرين إلى ذات واحد، فيكون نقيض المحللّ الأعمّ أخصّ من نقيض المركب. فلهذا كذب: بعض الحيوان إنسان لا دائمًا، وجودية لا دائمة.. مع كذب «لا شيء من الحيوان بإنسان دائمًا، وكل حيوان إنسان دائمًا». والنقيضان لا يرتفعان.

فلأخذ نقيض المركبة الجزئية ثلاث مسالك: أحدها: تثليث التقسيم. أي إما لا شيء.. وإما كل.. وإما مبعض. والثاني: تقييد الموضوع بنقيض المحمول في النقيض السالبة.. وتقييد الموضوع بعين المحمول في النقيض الموجبة. والثالث: بالترديد بين نقيض جزئي المحلل ليتحد الموضوع، فيكون حملية مرددّة المحمولِ.

ثم إن من الشرائط الاتحادية في التناقض الاتحاد في النوع. أي الذهنية بنوعيها. والخارجية بقسميها للتخلف بالاختلاف، وفي الشرطيات الاتحاد في الجنس اتصالًا وانفصالًا، والنوعِ لزومًا وعنادًا واتفاقًا للتخلف أيضًا.

ثم إن تناقض الجملتين يستلزم عدم الجمع والرفع في الوجود.. وفي المفردين في الوجود بوجوهه.


[1] (لعل الصواب: يعتبر، كما يفهم من السياق) أجير.

[2] (لعل الصواب: جزئَي، بحذف النون للإضافة). أجير.