وفي اليوم نفسه والأمل يطفح مني ذهبتُ إلى مجلس آخر، مجلس دنيوي فسألوني.

لِمَ لا تتدخل بالسياسة منذ مجيئك؟

قلت: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة.

نعم، إن السياسة الحاضرة لإسطنبول شبيهة بالأنفلونزا تسبب الهذيان. فنحن لسنا متحركين ذاتيًا، بل نتحرك بالوساطة. فأوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقّن بالتنويم -المغناطيسي- ونحن نتصورها نابعة من أنفسنا ونجري أثر تلقينها بتخريب أعمى أصم. فمادام المنبع في أوروبا فالتيار القادم إما سيكون تيارًا سلبيًا أو إيجابيًا.

فالذين يتبعون السلبي هم كالحَرفِ الذي يعرّف «دلّ على معنى في نفس غيره، أو لا يدل على معنى في نفسه» بمعنى أن جميع أفعاله ستكون لصالح الخارج مباشرة، لأن إرادته لا حكم لها. فلا تنفعه النية الخالصة. ولاسيما التيار سلبي فيكون أداة -لا تعقل- للخارج بضعف من جهتين.

أما التيار الآخر الإيجابي فيلبس لبوس التأييد والموافقة من الداخل، فهو كالاسم الذي يعرّف بأنه ما «دلّ على معنى في نفسه». فأفعاله لنفسه، ولكن ما يتبعها للخارج. إلّا أنه لا يؤاخذ عليه لأن لازم المذهب ليس مذهبًا. ولا سيما إذا انضم بجهتين إلى الإيجابي والضعيف في التيار الخارجي، فيمكن أن يجعل الخارجَ أداةً له لا تشعر.

قالوا: ألا ترى الإلحاد يتفشى؟ إنه من الضرورة الاندفاع إلى الميدان باسم الدين.

قلت: نعم، ضروري، ولكن بشرط قاطع هو أن يكون الدافع المحرك عشقُ الإسلام والحمية الدينية. إذ الخطورة هي أنه إن كان الدافع أو الموجّه هو السياسة أو التحيز، فالأول قد يعفى عنه حتى لو أخطأ بينما الثاني مسؤول عن عمله حتى لو أصاب.

قيل: كيف نفهم ذلك؟

قلت: مَن فضّل رفيقه السياسي الفاسق على متدين يخالف رأيه السياسي، بإساءة الظن به، فالدافع إذن هو السياسة.

ثم إن إظهار الدين الذي هو ملك مقدس للناس كافة -بالتحيز والتحزب- أنه أخص  بمن في مسلكه دون غيره، يثير الأكثرية الغالبة ضد الدين، فيكون سببًا في التهوين من شأن الدين.. فالدافع إذن هو التحيز.

مثال: يتصارع اثنان فما إن يشعر أحدهما أنه سيُغلب، عليه أن يعطي القرآن الذي بيده إلى القوي ليقوم الآخر بحمايته ولئلا يسقط القرآن معه في الوحل، مُظهِرًا محبته وتبجيله للقرآن، فتكون محبته للقرآن لكونه قرآنًا، ولكن لو اتخذه تُرْسًا تجاه القوي، فإنه يثير غضبه بدلًا من أن يحرك غيرته لحمايته.

فمن يحرم القرآنَ من خادم قوي ويجعلْه في يد ضعيف، حتى إذا سقط سقط معه أيضًا، فهذا يعني أنه يحب القرآن لنفسه لا للقرآن.

نعم، إن خدمة الدين وسَوق الناس إليه إنما تكون بالحث على الالتزام وتذكير أصحابه بوظائفهم الدينية. وبخلاف ذلك، فإن مخاطبتهم بـ«إنكم ملحدون»، يسوقهم إلى التعدي.

ألا لا يُستغلَّ الدينُ في الداخل في الأمور السلبية التخريبية. ولقد رأيتم الاعتداء على الشريعة بظن أن الخليفة الذي دام حكمه ثلاثين سنة قد استُغل في إجراءات سياسية سلبية. تُرى مَن الذي يستفيد من آراء السياسيين السلبيين الحاليين؟ أتعرفونهم؟.. إنني أرى أنهم الخصوم الألداء الذين غرزوا خناجرهم في قلب الإسلام.

قالوا: كنتَ تعارض الاتحاد والترقي، إلّا أنك تسكت عنهم الآن.

قلت: لكثرة هجوم الأعداء عليهم.

إن هدف الهجوم الذي يشنّه الأعداء هو العزم والثبات اللذان يتحلون بهما وعدمُ كونهم وسيلة لتنفيذ مآرب الأعداء في تسميم أفكار المسلمين. وهذا من حسناتهم.

إنني أرى أن الطريق طريقان؛ ككفتي الميزان؛ خفة إحداهما تولد ثقل الأخرى.

فأنا لا أصفع أنور بجانب «انترانيك»، ولا أصفع «سعيد حليم» بجانب «فنزيلوس». وفي نظري أن الذي يصفعهما سافل منحط.

قالوا: التحزب ضرورة من ضروريات المشروطية.

قلت: إن خطوط الأفكار عندنا بدلًا من أن تتقارب للتلاقي تنحرف مبتعدة الواحدة عن الأخرى كلما امتدت. لذا لا نجد نقطة التلاقي، لا في الوطن، ولا في الكرة الأرضية. فالأفكار أشبه ما تكون بالوجود والعدم لا يجتمعان، حيث إن وجود أحدهما يقتضي عدم الآخر.

إن العناد يلزم أحيانًا المغالين في التعصب الضلال والباطل، حتى إذا ساعد الشيطان أحدهم قال له: «إنه -أي الشيطان- مَلك» ويترحم عليه، بينما إذا رأى ملَكًا في صفِّ مَن يخالفه في الرأي، قال: «إنه شيطان قد بدل ملابسه»، فيبدأ بمعاداته ويلعنه. ويرى الأمارة الواهية برهانًا بظنه الحسن، بينما يرى البرهان أمارة واهية بسوء الظن، كمن ينظر في المنظار أحد طرفيه الذي يقرّب والآخر يبعّد الشيء. وهذا ظلم فاضح يبيّن الحكمة في الآية الكريمة: ﴿اِنَّ الْاِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم:34) وذلك لأن قواه وميوله لم تتحدد فطرةً بخلاف الحيوان، فميله -أي الإنسان- نحو الظلم لا يحد ولا سيما إذا انضمت إلى ذلك الميل الأشكال الخبيثة للأنانية كالإعجاب بالنفس وتحري المصلحة الشخصية والكبر والعناد والغرور، تتولد جرائم بشعة لم تجد البشرية لها اسمًا، ولا جزاء لها إلّا نار جهنم، مثلما هي دليل على ضرورة وجودها.

فمثلًا: إذا استاء من صفةٍ جانية لشخص، فإنه يشمل ظلمه إلى جميع صفاته البريئة أيضًا بل إلى أحبته بل إلى من في مسلكه، فيكون متمردًا أمام الآية الكريمة

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى (الأنعام:164).

ومثلًا: قد قال أحد الحريصين بدافع الانتقام: سيُغلب الإسلام، وسيتمزق قلبه. فلأجل أن يظهر صدق كلامه المشؤوم النابع من روح سقيمة وفكر كاذب، يتمنى أن يُهان المسلمون ويُصفِّق له ويتلذذ من ضربات العدو. فهذا التصفيق والترحيب واللذة جعلت الإسلام في موضع مجروح.

حيث العدو الذي غرز خنجره في قلب الإسلام لا يكتفي بسكوتنا عليه بل يقول: رحِّب بي، تلذَّذْ من أعمالي، وكنّ لي حِبًا…

فدونكم ذنبًا عظيمًا وظلمًا شنيعًا لا يجازيهما إلّا ميزان الحشر الأعظم.

قيل: كنا نعلم أننا نُغلب، فقد دفعونا إلى المصيبة عن علم.

قلت: كيف تكون نتيجة الحرب بديهيًا بالنسبة لكم وأنتم لا ثقافة لكم؛ وتكون خافية عن شخص عظيم كهندنبرغ؟ أخشى أن يكون ما تسمونه فكرًا هو رغبة، والعياذ بالله. إذ يلبس الانتقامُ الشخصي الظالم أحيانًا لباس الفكر. يا هؤلاء لقد وقعتم في طين نجس تلوثون وجوهكم به وكأنه المسك والعنبر؟

فهذا إيضاحي وبياني لما دار في مجلس مثالي في الليل المنير وفي محفل الدنيويين في النهار المظلم. فليست هذه المحاورة من بنات الفكر ولم تَسِل من العقل سيلانًا بل تفجرت من القلب. فإن شئت فاقبلها وإن شئت رُدَّها وارفضها، ولكن بشرط أن تفهمها.

* * *

ذيل الرؤيا

سكت في الحج في أثناء سرده الرؤيا، لأن إهمال الحج وإهمال ما ينطوي عليه من حكم لا يُنزل المصيبة وحدها بل ينزل غضب الله وقهر الجبار. وجزاؤه ليس كفارة الذنوب بل كثّارتها.

نعم، إن إهمال السياسة الإسلامية الرفيعة في الحج والمتضمنة توحيد الأفكار بالتعارف وتشريك المساعي بالتعاون هو الذي أدّى إلى تهيئة الوسط الملائم للأعداء ليستخدموا ملايين المسلمين في العداء للإسلام.

فها هو الهندي جالس يبكي على رأس أبيه الذي قتله، ظنًا منه أنه عدوّه.

وها هما التتار والقفقاس، واقفان عند قدمَيْ جثةٍ ساعدا على قتلها.. وبعد فوات الأوان يدركان أنها والداهما.

وها هم العرب قتلوا شقيقهم البطل خطًا، ومن حيرتهم لا يعرفون كيف يبكون وينتحبون.

وهاهي إفريقيا قتلت أخاها دون علم به، والآن تصرخ وتولول.

وها هو العالم الإسلامي ساعد على قتل ولده المقدام غافلًا دون علم به، فهو يلطم وينفّش شعره كالوالدة الحنون.

فالملايين من المسلمين دُفعوا إلى سياحات طويلة في العالم، تحت لواء العدو الذي هو الشر المحض، بدلًا من شدّ الرحال إلى الحج وهو الخير المحض.

فاعتبروا!

[كما أن الضرورات تبيح المحظورات، كذلك تسهّل المشكلات].

إن الدجاجة التي يضرب بها المثل في الخوف والجبن تهاجم الجاموس الضخم حفاظًا على فراخها.. فها هي الجسارة الفائقة.

وخوف العنز من الذئب يضرب به المثل، إلّا أن خوفه ينقلب إلى دفاع ومقاومة في حالة الاضطرار حتى يقارع الذئب.. فها هي الشجاعة الخارقة.

نعم، إن الميل الفطري لا يُقاوَم، فغرفة من ماء إذا وضعت في كرة من حديد، فتّت الماءُ الحديدَ كلما تعرض للبرودة في الشتاء، وذلك لميله إلى الانبساط والتمدد.

فجسارة الدجاجة الرؤوم على فراخها.. وشجاعة الاضطرار لدى العنز العزيز النفس يمثلان هيجانًا فطريًا.. فمثل هذا الهيجان الفطري إذا تعرض له ظلم الكافر البارد، فتّت كل شيء أمامه كالماء في كرة الحديد. (والقرويون الروس أمثلة شهود على هذا).

ومع هذا فإن الشهامة الخارقة التي تنطوي عليها ماهية الإيمان، والشجاعة التي تتحدى العالم الكامنة في طبيعة العزة الإسلامية يمكن أن تُظهر المعجزات في كل وقت وآن بانبساط الأخوة الإسلامية وتَوَسُّعِها.

ستشرق شمس الحقيقة يومًا

أفيظل العالم في ظلام إلى الأبد؟

* * *