خطاب إلى الحرية

أيتها الحرية الشرعية!

إنكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كرديًا بدويًا مثلي نائمًا تحت طبقات الغفلة، ولولاكِ لظللتُ أنا والأمة جميعًا في سجن الأسر والقيد. إنني أُبشرك بعمر خالد؛ فإذا ما اتّخذتِ الشريعةَ التي هي عين الحياة، منبعًا للحياة، وترعرعتِ في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فإنني أزف بشرى سارة أيضًا بأن هذه الأمة المظلومة ستترقى ألف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها. وإذا ما اتخذتك الأمة مرشدة لها، ولم تلوّنك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد أخرَجَنا إذن مَن له العظمة والمنة من قبر الوحشة والاستبداد، ودعانا إلى جنة الاتحاد والمحبة.

فيا رب ما أسعد هذه القيامة والنشور! وما أجمل هذا الحشر العظيم المصوّر لنا حقيقة «البعث بعد الموت» في هذا الزمان، يصورها تصويرًا مصغرًا، وذلك كالآتي:

لقد دبّت الحياة في المدنية القديمة المدفونة في زوايا آسيا وروم إيلي. والذين يتحرون نفعهم في ضرر العامة، ويتمنون الاستبداد، بدأوا يقولون: ﴿يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا (النبأ:40).

إن حكومتنا الجديدة، حكومة المشروطية، قد ولدت أشبه ما يكون بالمعجزة، لذا سننال في غضون سنة واحدة بإذن الله سر من يكلم الناس في المهد صبيًا.

إن ثلاثين سنة قضيناها صائمين عن الكلام متجملين بالصبر والتوكل على الله، سننال ثوابه بانفتاح أبواب جنة الرقي، أبواب المدنية التي لا عذاب فيها.

إن القانون الشرعي الذي هو براعة الاستهلال لحاكمية الأمة، شبيه بخازن الجنة، يدعونا إلى الدخول فيها.. فهيا يا إخوة الوطن لنذهب معًا، وندخلْها معًا، فإن بابها الأول: اتحاد القلوب. والثاني: محبة الأمة. والثالث: المعارف. والرابع: السعي الإنساني. والخامس: ترك السفاهة. وأحيلُ إلى أذهانكم بقيةَ الأبواب. علمًا أن إجابة الدعوة واجب شرعي.

ولأن فاتحة هذا الانقلاب العظيم بدأت أشبه بالمعجزة، فإن ذلك فأل حسن بأن تكون خاتمته أيضًا حسنة. وكالآتي:

إن هذا الانقلاب سيكسر أغلال الفكر البشري الثقيلة، وسيهدم السدود المانعة للرقي، وينجي الحكومة من ورطة الموت، ويظهر جوهر الإنسانية ويحررها مرسِلًا إياها إلى كعبة الكمالات.

نعم، إن هذا الفأل الحسن يبشرنا بأن خاتمة هذا الانقلاب ستكون بانقشاع ذلك السحاب المتراكم القاتم، بالرغبة العامة لدى الناس، وبشعورهم بالضرر المادي لسيئات المدنية الملوّنة بألوان السفاهات والإسرافات والملذات غير المشروعة.. وغيرها من الأمور التي دفعت دولة المدنية إلى الانقراض كانقراض الحكومة المستبدة. وعندها ستشرق شمس الشريعة وقمر المدنية في جو السماء الصافي بأسطع ما يكون، فتُنَوران آسيا وروم إيلي، وستنمو بذور الاستعدادات والقابليات بهطول أمطار الحرية، فتتزين عندئذ الأرض بأوهى حللها الملونة.

نعم، إنه معجزة نبوية وعناية إلهيةٌ للأمة المظلومة، وكرامة النية الخالصة للمجتمع كافة.

إن هذا الاتحاد، اتحادُ القلوب والمحبة الموجهة للأمة كافة،وهي معدن السعادة والحرية، قد أنعم بها المولى الكريم علينا مجانًا، بينما الأمم الأخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.

إن صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ إسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة وأخلاقنا الإسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الأرضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الأمة جميعًا ويهزها هزّ المجذوب.

وإياكم يا إخوان الوطن أن تقضوا عليها بالموت مرة أخرى بالسفاهات والإهمال في الدين.

إن القانون الأساسـي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قـد أصـبـح ملك الموت لقبض أرواح جميع الأفكار الفاسدة والأخلاق الرذيلة والدسـائس الشـيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا إخوة الوطن! لا تعيدوا الحياة لتلك الرذائل بالإسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة.

فلقد كنا إذن في القبر، وبليت عظامنا، والآن دخلنا في رحم الأم باتحاد الأمة والمشروطية.

إن مائة ونيفًا من السنين التي تأخرنا فيها عن مضمار الرقي والتقدم سنتجاوزها بإذن الله تعالى، بمعجزة نبوية، مستقلين -عملًا- قطار القانون الأساسي الشرعي وممتطين -فكرًا- بُراق الشورى الشرعية.

وسنكون في صف الأمم المتمدنة، بطيّنا هذا الزمان القاصر الشبيه بالصحراء الكبرى الموحشة. بل نتسابق معهم حيث إنهم درجوا على ركوب العربات التي تجرها الثيران، بينما نحن -بتكامل الوسائل التي يتوقف عليها العلم- سنَرْكَب مباشرةً القطارَ والمنطاد، فنسبقهم بفراسخ وفراسخ، وذلك بما تسهل لنا هضمَ تلك الوسائل حقيقةُ الإسلام الجامعة للأخلاق الإسلامية، والاستعدادُ الفطري الكامن فينا، وفيضُ الإيمان الذي نحمله، وشدةُ الجوع التي نشعر بها، فنسبقهم بإذنه تعالى كما كنا سابقين لهم في الماضي.

إنني أذكّركم بما يأتي بفضل ما أناطت بي مهمة الطالب من وظيفة، وبشهادة التخرج مِن سِلك الحرية:

يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيرًا سيئًا كي لا تفلت من أيديكم، ولا يخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر (حاشية) نعم، لقد سقونا عبودية مسمومة جدًا باستبداد أرهب وأشد (المؤلف). ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة.

والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ما كان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.

وبخلافه فإن تفسير الحرية والعملَ بها على أنها التحرر من القيود والانغمارُ في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخِ والإسراف، وتجاوزُ الحدود في كل شيء اتباعًا لهوى النفس.. مماثلٌ لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلًا عن أن هذا النمط من الحرية يُظهر أن الأمة غير راشدة ومازالت في عهد الصباوة وليست أهلًا للحرية. فهي سفيهة إذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع إلى الاستبداد السابق البائد.

إن عدم الأهلية للحرية الشرعية الحديثة الباهرة الواسعة يؤدي إلى مرض وبيل يتعرض له اتحاد الأمة العظيم فتتعرض الأمة إلى حالات فاسدة متعفنة.

بينما تفسير أهل التقوى والوجدان ليس على هذا النمط، ومذهبهم يخالف هذا التفسير؛ فنحن الأمة العثمانية نتصف بالرجولة، فلا تليق بقامة استعداد أمتنا البطلة فساتينُ النساء المزركشةُ بالسفاهة والهوى والإسراف.

وبناء على ما سبق لا ينبغي أن ننخدع، بل علينا أن نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: «خذ ما صفا دع ما كَدِر»، وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب -مشكورين- كلَّ ما يُعينُ على الرقي المدني من علوم وصناعات. أما العادات والأخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيرًا لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.

فنحن لـو أخذنا منهم المدنية -بسـوء حـظـنـا وسوء اختيارنـا- بما يـوافـق الهوى والشهوات -كالأطفال- تاركين محاسـنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجّلات، فإذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا لا ينبغي أن نتجمل بمساحيق التجميل.

حاصل الكلام: سنمنع بسيف الشريعة مساوئ المدنية وذنوبها من الدخول إلى حدود حريتنا ومدنيتنا حفاظًا على فتوة مدنيتنا وشبابها بزُلالِ عين حياة الشريعة.

ينبغي لنا الاقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام.

يا أبناء الوطن الغيارى!

إن منتسبي الجمعية الملية قد فتحوا لنا طريق السعادة بتضحية أرواحهم، فعلينا أن نعينهم بترك بعض لذائذنا، حيث إننا نجلس معًا على مائدة تلك النعمة.

إن أصحاب الأفكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل إلّا نشاهد مرة أخرى تلك الاستبدادات التي دُفنت في حُفَر الماضي ولا تلك المظالمَ التي جرت في سيل الزمان، أريد أن أقيم سدًا حديديًا بين الماضي والحاضر وذلك بإيضاح تاريخ حياة الحرية، وهو كالآتي:

إن هذا الانقلاب لو أعطى الحريةَ -التي أنجبها- أحضان الشـورى الشرعية لتربيها فستُبعث أمجاد الماضي لهذه الأمة قوية حاكمةً؛ بينما لو صادفت تلك الحريةُ الأغراضَ الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها.

لقد وُلِدت الحرية في الوقت المناسب، فتحتاج تنشئتها إلى ظروف وأحوال فطرية وليست إلى افتعالِ ظروف تحتاج إلى مشاق.

إن الحمية الإسلامية التي عانت سابقًا كثيرًا من الضوائق والبؤس، وهي ليست مستحقة لها، قد فارت فورانًا عظيمًا بحيث اكتملت الحرية في ذلك الرحم. فحالما يحين وقت الولادة وتظهر إلى الوجود ستعلن هيمنتها، فلا يتمكن أيّ شيء من التصدي لها وزلزلتِها، حيث إنها ستتأسس على أسس رصينة -كعرش بلقيس- على حقائق خمس تلك هي:

الحقيقة الأولى:

أن في الكل من القوة ما ليس لكلٍ، كقوة الحبل المتين الناشئة من خيوط رفعية دقيقة، أو كحكومتنا الحديثة المتبنية لأفكار الرأي العام وحكومتنا السابقة.

أيتها الأمة! نحن الآن ذلك الحبل المتين، فمن أضعفها بالأغراض الشخصية والآراء الفردية فقد جنى جناية لا تغتفر، حيث جنى على حقوق الأمة جميعًا.

الحقيقة الثانية:

أن السلطة المستندة إلى القوة والإكراه كانت هي الحاكمة في سالف الأزمان وهي محكومة بالتدني والانقراض، حيث إنها حصيلة الجهل والوحشية. فأية دولة جرت في عروقها دماءُ السلطة المستبدة فإن سطور صحائفِ تاريخِها تنعق نعيق البوم بالانقراض.

بينما في زمن المدنية فإن العلم والمعرفة هما السلطة الحاكمة على العالم، وحيث إن مولّدها هي المدنية ومن شأنها الزيادة وعمرها أبدي، لذا لو كانت مثل هذه السلطة الحاكمة مدبّرة لشؤون أية دولة كانت فإنها تنجي تلك الحكومة من قيد العمر الطبيعي وأجل الانقراض، فتدوم حياتها بدوام الأرض. وكتابُ أوروبا وصحائفها تعلن هذا بجلاء.

وإذا قيل: لقد كان بالإمكان إدارة الحكومة الضعيفة السابقة من قبل أشخاص اعتياديين، فيا ترى هل تثمر الأناضول وروم إيلي رجالًا دهاة خارقين يحملون على أكتافهم هذه الحكومة التي نعقد عليها الآمال؟

نقول جوابًا على هذا السؤال: نعم، إن لم يحدث انقلاب آخر.

والآن أنعم النظر في:

الحقيقة الثالثة:

كان الإنسان في السابق يتحرك في ميدان محدود وضيق جدًا، رغم استعداداته غير المتناهية، حتى إنه كان يعيش عيش حيوان مع كونه إنسانًا. لذا تدنت أفكاره وضاقت أخلاقه بنسبة محدودية تلك الدائرة.

فإذا ما عاشت الآن هذه الحرية الشرعية العادلة ولم تفسد، فستنكسر أغلال فكر الإنسان، وتتحطم الموانع الموضوعة أمام استعداده للرقي، فتتوسع ميدان حركته سعة الدنيا كلها. حتى إن قرويًا مثلي يستطيع أن ينظر إلى إدارة الدولة التي هي في أوج العلا كالثريا، ويربط نوى الأماني والاستعدادات هناك. وحيث إن كل فعل وطور يصدر يلقى صداه هناك، لذا ستتعالى همته كالثريا وتتكامل أخلاقه بالدرجة نفسها، وتتوسع أفكاره بقدر سعة الممالك العثمانية، وسيَسبق بإذن الله الأفذاذَ من أمثال أفلاطون وابن سينا وبسمارك وديكارت والتفتازاني.

نحن على أمل عظيم أن تثمر مزرعةُ الأناضول وروم إيلي شبانًا غيارى؛ فلا جرم أن الممالك العثمانية محلُّ ظهور الأنبياء، ومهد الدول الحضارية، ومشرق شمس الإسلام؛ فإذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الإنسانية بغيث الحرية، فإنها تتحول إلى شجرة طوبى من الأفكار النيرة وتمتد أغصانها إلى كل جهة، وسيجعل الشرق مَشْرِقًا للغرب، إن لم تفسد وتنخر بالكسل والأغراض الشخصية.

الحقيقة الرابعة:

إن الشريعة الغراء تمضي إلى الأبد لأنها آتية من الكلام الأزلي. والبرهانُ الباهر عليه هو أن الشريعة تتوسع وتنمو نموَّ الكائن الحي أي بنسبة نمو استعداد الإنسان وتَشَرُّبه من نتائج تلاحق الأفكار وتَغذِّيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من أغصان شجرة استكمال العلم.

فالحرية والعدالة والمساواة التي كانت يترفل بها خيرُ القرون والخلفاء الأربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على أن الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة؛ فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما وصلاح الدين الأيوبي دليل وأي دليل على هذا الادعاء.

ومن هنا فإني أقرر:

أن سبب تأخرنا وتدنينا وسوء أحوالنا إلى الآن ناتج مما يأتي:

1- عدم مراعاة أحكام الشريعة الغراء.

2- تصرفات بعض المداهنين تصرفًا عفويًا.

3- التعصب المقيت في غير محله سواء لدى عالم جاهل، أو جاهل عالم!

4- تقليد مساوئ المدنية الأوروبية تقليدًا ببغائيًا -بسوء حظنا أو سوء اختيارنا- مما ولّد تَرْكَنا لمحاسن المدنية التي تُستحصل بمشكلات ومصاعب.

فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد أحد متسعًا من الوقت للسفاهة. ولو انهمك أي منهما بها فلا يكون إلّا جرثومة خطرة في جسم المجتمع.

الحقيقة الخامسة:

إن فكر أفراد قليلين كان كافيًا لإدارة الدولة حيث الروابط الاجتماعية والضرورات المعاشية والمستلزمات الحضارية لم تكن كثيرة ومتشعبة، ولكن في الوقت الحاضر فقد كثرت الروابط الاجتماعية وتعددت الضروريات المعاشية وتزايدت الزخارف الحضارية إلى حد كبير، بما لا يمكن أن تَحمل تلك الدولةَ وتديرَها وتربيها إلّا مجلسُ نواب في حكم قلب الأمة ينبض بنبضها، والشورى الشرعيةُ التي هي في مقام فكر الأمة وعقلها، وحريةُ الأفكار التي هي بمنزلة سيف الدولة وقوتها. ومثال هذه الحقيقة هو الحكومة المستبدة السابقة وحكومة المشروطية الحاضرة.

وأذكّر أمورًا ثلاثة بناء على الوظيفة التي أناطتها إياي الحقيقةُ الثالثة وبشهادة تخرّج الحرية:

الأول:

كما أن الجسم محالٌ أن تتحلل إلى ذرات دفعةً واحدة كذلك تشكُّلُه من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال أيضًا. لذا فإن فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضعَ آخرين جدد في مواضعهم متعذر وإن لم يكن محالًا. علمًا أن الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن إصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن إصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهؤلاء يجب الاستفادة من تجاربهم، إذ إشغالُ مواضعهم الوظيفية يحتاج إلى أربعين سنة أخرى. وإلّا فإن إطالة اللسان بالسوء إلى الجميع وإهانتَهم يجعل هذا الاتحاد، اتحادَ الأمة العظيم، معرّضًا لوباء وبيل من أفكار فاسدة وأخلاق سيئة.

الثاني:

لقد نشأتُ في جبال الشرق فكنت أتخيل مركز الخلافة في هالة جميلة، ولكن ما إن أتيته قبل حوالي ثمانية أشهر حتى شاهدت أن إسطنبول شبيهة برجل متوحش لبس ملابس إنسان مدني، وذلك لما فيها من تنافر القلوب واستيحاش الأفراد بعضهم بعضًا. والآن يقدّم ذلك الشخص المدني نفسه لنا وهو بملابس نصف مدنية ونصف وحشية، وذلك بسبب اتحاد الأمة.

كنت سابقًا أحسب أن فساد الشرق نابع من تعرض عضوٍ منه للمرض، ولكن لما شاهدت إسطنبول المريضة وجسست نبضها، وشرّحتها، أدركت أن المرض هو في القلب، وسرى منه إلى جميع الجهات. فحاولت علاجه، ولكن أُكرمت بصفة الجنون!

وقد شاهدت أيضًا: أن الإسلام الذي يشكل المدنية الحقيقية قد تأخر عن المدنية الحاضرة ماديًا، فكأن الإسلام قد استاء من سوء أخلاقنا فمضى راجعًا إلى الماضي ليشكونا إلى خير القرون.

إن من أهم أسباب تأخرنا في مضمار المدنية بعد الاستبداد، هو تباين الأفكار واختلاف المشارب لدى منتسبي ثلاث شُعب كبيرة، يُعدّون مرشدين عموميين للجميع، وهم منتسبو المدارس الحديثة والمدارس الدينية والتكايا والذين يمثلون مصداق قول الشاعر:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

إن تباين الأفكار هذا قد هزّ أساس الأخلاق الإسلامية وفرّق اتحاد الأمة، وأخّرنا عن ركب الحضارة، لأن أحدهم يكفّر الآخر ويضلله، بينما الآخر يَعدّ الأول جاهلًا لا يوثق به. وهكذا ساد الإفراط والتفريط. وعلاج هذا الداء هو الصلح النابع من توحيد الأفكار، وربطُ العلاقات ووصلُها حتى يوصل إلى نقطة الاعتدال، فيتصافحَ الجميع، ويتفقوا جميعًا لئلا يُخلّوا بنظام الرقي.

الثالث:

إنني استمعت إلى الوعاظ. فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت أنه فضلًا عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:

1- إنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيرًا في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لا بد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.

2- إنهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم.

3- إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقًا لحاجات العصر. إلّا أنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.

فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محقِّقين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع، وأن يكونوا أيضًا مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة، وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم أيضًا أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة.

فلتحيا الشريعة الغراء، ولتحيا العدالة الإلهية، وليحيا اتحاد الأمة.

وسحقًا للاختلاف، وحبًا لمحبة الأمة،..

ولتمت الأغراض الشخصية وفكر الانتقام،..

وليعش الجنود الأشاوس الذين هم الشجاعة مجسمة،..

ولتعش الجيوش التي تمثل عظمة الدولة…

ولتدم جمعية الأحرار المتدينين وطلاب النور الذين هم العقل النير والتدبير الحكيم.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *