لقد صادفتُ -بسـوء التصادف- أهل الإفراط والتفريط من مهاجمي الحكومة والمعترضين عليها. فقسـمٌ من أهـل الإفراط كانـوا يضللون الأتـراك -الذين هم قوام الإسلام بعد العرب- حتى تجاوز بعض جهلاءِ هذا القسم إلى تكفير أهل القانون محتجين بوضع «القانون الأساسي» و«إعلان الحرية» قبل هذا بثلاثين سنة ومستدلين بالآية الكريمة: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَٓا اَنْزَلَ اللّٰهُ.. (المائدة:44). فهؤلاء المساكين لم يعرفوا أنّ ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ هو يعني: «مَن لم يصدّق». فيا للعجب… كيف لا أعارض مَن ظن الاستبدادَ السابق حريةً وهاجم القانون الأساس! ولكن مع أن أولئك كانوا يعارضون الحكومة إلّا أنهم أرادوا استبدادًا أشدّ، لهذا كنت أرفضهم وأردّ عليهم، فمضللو أهل «الحرية» هم الآن من هذا القسم.

أما القسم الثاني: وهم أهل التفريط، فلا يعرفون الدين، ويعترضون -ظلمًا- على المسلمين ويهاجمونهم بدون إنصاف محتجّين بالتعصب، فالذين انسلخوا من عثمانيتهم وتجردوا منها، والذين يريدون التمثل بأوروبا وتقليدها كليًّا، هم الآن من هذا القسم.

أيها العوام! فالآن… نستودعكم الله…

انتظروا فإن لي دعوى أبحثها مع الخواص، ولي مسألة مهمة مع الحكومة، مع الأشراف، مع أولئك الذين ليسوا من الماسونيين من جماعة الاتحاد والترقي.

يا طبقة الخواص! نحن العوام ومعاشر أهل المدرسة الدينية نطالبكم بحقنا!..

س: ما تريدون؟.

ج: نريد أن تصدقوا قولكم بفعلكم، ولا تعتذروا بقصور غيركم، ولا تتواكلوا فيما بينكم وتتكاسلوا في خدمتنا الواجبة عليكم، وأن تتداركوا فيما فاتنا بسببكم، وأن تستمعوا إلى أحوالنا وتستشيروا حاجاتنا، وأن تستفسروا عن أوضاعنا، وتَدَعوا لَهوَكم جانبًا!..

الحاصل: إننا نطلب ضمان مستقبل العلماء في الولايات الشرقية، ونطلب نصيبنا من معنى «الاتحاد» و«الترقي» لا من الاسم، فنطلب ما هو هيّن عليكم وعظيم عندنا.

س: أفصح عن مقصدك ولا تتركه مبهمًا. ماذا تريد؟.

ج: نطلب تأسيس «مدرسة الزهراء» -شقيقة الجامع الأزهر- التي تتضمن الجامعة. نطلب تأسيسها في «بتليس» مع رفيقتها في كل من «وان» و«دياربكر» جناحَي بتليس، اطمئنوا أننا نحن الأكراد -لسنا كالآخرين- فنحن نعلم يقينًا أن حياتنا الاجتماعية تنشأ من حياة الأتراك وسعادتهم.

س: كيف؟ مثل ماذا؟ ولِمَ؟

ج: إن لها بعض شرائط تربوية، ومجاري واردات، ومحاسن ثمرات…

س: ما شرائطها؟.

ج: ثمانية:

أولاها: التسمية باسم «المدرسة» لأنه مألوف ومأنوس وجذّاب، ومع كونه عنوانًا اعتباريًا إلّا أنه يتضمن حقيقة عظيمة ممّا يهيّج الأشواق وينبّه الرغبات.

ثانيها: مزج العلوم الكونية الحديثة ودرجها مع العلوم الدينية مع جعل اللغة العربية واجبة، والكردية جائزة، والتركية لازمة.

س: ما الحكمة في هذا المزج، حتى تدعو إليه دائمًا وتدافعُ عنه؟.

ج: لتخليص المحاكمة الذهنية (العقلية) من ظلمات السفسطة الحاصلة من أربعة أنواع من الأقيسة التمثيلية الفاسدة([1]) وإزالة المغالطة التي تولدها الملكة المتفلسفة على التقليد الطفيلي.

س: كيف؟ مثل ماذا؟.

ج: ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيلُ والشبهات في الثانية.

الشرط الثالث: انتخاب المدرسين فيها، إما من العلماء الأكراد من ذوي الجناحين من الموثّقين والمعتمَدين من قِبَل الأكراد والأتراك أو ممن يعرفون اللغة المحلية ليُستأنس بهم.

رابعها: الاستشارة باستعداد الأكراد وقابلياتهم، وجعل صباوتهم وبساطتهم نصب العين، وكم من لباس يُستحسن على قامة، يستقبح على أخرى، وتعليم الصبيان قد يكون بالقسر أو بمداعبة ميولهم.

الشرط الخامس: تطبيق قاعدةِ «تقسيم الأعمال» بحذافيرها، حتى يتخرجَ من كل شعبة متخصصون مَهَرة مع أنها مداخل ومخارج بعضها ببعض.

الشرط السادس: إيجاد سبيل بعد تخرج المداومين وضمان تقدمهم واستفاضتهم حتى يتساووا مع خريجي المدارس العليا ويتعامل معهم بنفس المعاملة مع المدارس العليا والمعاهد الرسمية، وجعل امتحاناتها كامتحانات تلك المدارس منتجة، دون تركها عقيمة.

الشرط السابع: اتخاذ دار المعلمين -موقتًا- ركيزة لهذه المدرسة ودمجُها معها، ليَسرِي الانتظام والاستفاضة من العلم من هذه إلى تلك، والفضيلةُ والتدين من تلك إلى هذه، حتى يكون كل منها ذا جناحين بالتبادل.

س: ما وارداتها؟

ج: الحميّة والغيرة..

س: ثم؟

ج: إن هذه المدرسة كنواة تتضمن -بالقوة- شجرة طوبى. فإن اخضرّت بالحميّة والغيرة استغنت عنكم وعن خزائنكم المنضوبة، وذلك بجذبها الطبيعي لحياتها المادية.

س: بأي جهة؟

ج: بجهات عديدة:

الأولى: الأوقاف، لو انتظمت انتظامًا حقيقيًا، لأسالَت إلى هذا الحوض عينًا سيالة بتوحيد المدارس.

الثانية: الزكاة، فنحن شافعيون وأحناف، فإذا أبدت -بعد حين- تلك المدرسةُ الزهراء خدماتِها للإسلام والإنسانية، فلا ريب أن يتوجه إليها قسم من الزكاة وتحصرها لنفسها باستحقاق، وحتى لو كانت لها زكاة الزكاة لكفتها.

الثالثة: النذور والصدقات… فكما أن هذه المدرسة تكوّن وتمثل عند العقول أسمى «مدرسة» وبنظر القلوب والوجدان أقدسَ زاوية (تكية) وذلك بما تنشره من ثمرات وما تعمه من ضياء وما تقدمه للإسلام من خدمات جليلة. أي فكما هي مدرسة دينية فهي مدرسة حديثة، وتكية أيضًا. وحينها يتوجه إليها قسم من النذور والصدقات التي هي من جملة التكافل الاجتماعي في الإسلام.

الرابعة: الإعارة.. بتوسيع وارداتِ دار المعلمين -بعد الدمج لأجل التبادل المذكور- توسيعًا نسبيًا… يمكن إعارة تلك الواردات إليها موقتًا، وحينما تستغني -بعد مدة- ستردّ تلك العارية.

س: ما ثمرات هذه المدرسة حتى تصرخُ وتدعو إليها بحماسة من قَبْل عشر سنين بل من قبل خمس وخمسين سنة؟.

ج: هي -مجملًا- تأمين مستقبل العلماء الأكراد والأتراك،([2]) وإقحامُ المعرفة عن طريق «المدرسة» إلى كردستان، وإظهارُ محاسن «المشروطية» و«الحرية» والاستفادة منها.

س: يحسن بك أن توضح أكثر وتفصّل.

ج:

الأول: توحيد المدارس الدينية وإصلاحها…

الثاني: إنقاذ الإسلام من الأساطير والإسرائيليات والتعصبِ الممقوت، تلك التي صدّأت سيف الإسلام المهنّد.

نعم، إن شأن الإسلام الصلابةُ في الدين وهي المتانة والثبات والتمسك بالحق، وليس التعصب الناشئ عن الجهل وعدم المحاكمة العقلية، وفي نظري أن أخطر أنواع التعصب هو ذلك الذي يحمله قسم من مقلدي أوربا وملحديها، لِمَا يصرّون بعناد على شبهاتهم السطحية، وليس هذا من شأن العلماء المتمسكين بالبرهان.

الثالث: فتح باب لنشر محاسن المشروطية.

نعم، ليس هناك في العشائر مِن فكرٍ يجرح المشروطية، ولكن إن لم تُستحسن في نظرهم فلا يستفاد منها، وهذا أشد ضررًا؛ فلاشك أن المريض لا يستعمل دواءً يظنه مشوبًا بالسم.

الرابع: فتح طريق لجريان العلوم الكونية الحديثة إلى المدارس الدينية، بفتح نبع صافٍ لتلك العلوم بحيث لا ينفر منها أهل المدارس الدينية، ولقد قلت مرارًا بأن فهمًا خطًا وتوهمًا مشؤومًا قد أقاما -لحد الآن- سدّين أمام جريان العلوم.

الخامس: أكرر ما قلته مرارًا -بل مئة مرة- أن هذه المدرسة تصالح بين أهل المدرسة «الدينية» والمدرسة «الحديثة» وأهلِ الزوايا «التكايا»، وتجعلهم يتّحدون -في الأقل- في المقصد، وذلك بما تحدث فيما بينهم من الميل وتبادل الأفكار.

نعم، نشاهد بأسى وأسف أن تباين أفكارهم كما فرّق الاتحاد فيما بينهم فإنّ تخالُف مشاربهم قد وقّف التقدم والرقي أيضًا، وذلك لأن كلًا منهم -بحكم التعصب لمسلكه ونظره السطحي لمسلك الآخر- انساق إلى الإفراط والتفريط، ففرّط هذا بتضليل ذاك، وأفرط ذاك بتجهيل هذا.

الخلاصة: أن الإسلام لو تجسّم لكان قصرًا مشيدًا نورانيًا ينوّر الأرض ويبهجها؛ فأحد منازله «مدرسة حديثة»، وإحدى حجراته «مدرسة دينية»، وإحدى زواياه «تكية»، ورواقه مجمع الكل، ومجلس الشورى، يكمل البعض نقص الآخر.. وكما أن المرآة تُمثل صورة الشمس وتعكسها فهذه المدرسة الزهراء ستعكس وتمثل أيضًا صورة ذلك القصر الإلهي الفخم في البلدان الخارجية.

يا أيها الأشراف! اخدمونا كما خدمناكم وإلّا… يا أهل الحكومة الذين تدّعون الوصاية علينا بعدم بلوغنا سن الرشد كما تظنون أمِّنوا وسائل سعادتنا كيما نطيعكم، وإلّا.. فيا أعضاء الاتحاد والترقي القدماء يا من تعهّدتم وتحمّلتم بحق الواجب الاجتماعي للأكراد والأتراك حسنًا فعلتم وقمتم بهذا المزج، فإن أحسنتم فحسنًا وإلّا.. [فردّوا الأمانات إلى أهلها].([3])

س: هناك عتاب كبير على العلماء حتى…

ج: إنه ظلم عظيم وعدم إنصاف شديد.

س: لماذا؟

ج: لأنه حماقة كحماقة من يحمل ذنب العدم على الوجود.

س: ماذا تعني؟.

ج: إن إدانة العلم، بذنب ناشئٍ من عدم الحلم، لشخص اقترن علمُه بعدم الحلم كم هي حماقة وبلاهة، كذلك فإن إدانة العلماء المساكين -وهم المرشدون دومًا إلى قدسية الإسلام وسموّه، والمبلّغون لأحكام الدين، حسب طاقاتهم والذين يستحقون احترامًا ومحبة أكثر ورحمة في الوقت الحاضر- إدانتهم بذنب وخطأ ناشئٍ من عدم وجود علماءَ بمستوى لائق لهذا العصر، ثم إلقاء ذلك الذنب وتلك الخطيئة على كاهل هؤلاء المساكين، إن لم تكن هذه حماقة أعظم وبلاهة أكبر فما هي إذن؟!…

نعم، إن الضرر لم يصبنا من «وجودهم» بل من «عدم وجودِ» ما نبتغيه من العلماء الأفذاذ، لأن أغلب الأذكياء قد اتجهوا إلى المدارس الحديثة، والأغنياء أنِفوا من نمط المعيشة في المدرسة الدينية، والمدرسة نفسها -لعدم وجود الانتظام وفقدان الاستزادة من العلوم وانقطاع سبل التخرج- لم تتمكن من تهيئة علماءَ بمقتضى هذا العصر…

احذروا! إن كُره العلماء وبغضهم خطر عظيم.([4])

س: فإن كانت نيتك خالصة توفَّقْ، وقليل من يخلص النية، فانظر إلى نيتك.

ج: لله الحمد ولا فخر([5]).. إن عناصر الأغراض الشخصية ومصالحها المخلّة بإخلاص النيّة -من نسب ونسل وطمع وخوف- لا تعرفني ولا أعرفهن، بل لا أريد أن أتعرّف إليهن، ذلك لأني لست صاحب نسب شهير كي أجدّ في صون ماضيه، ولست صاحب أولاد كي أسعى لضمان مستقبلهم، ولكن لي جنون -أيّ جنون- حتى أعْجَزَ المحكمةَ العسكرية بهيبتها ورهبتها في علاجه، ولي جهل مطبق -وأيّ جهل- حتى جعلني أميًا لا أستطيع قراءة المكتوب على الدينار والدرهم. أما التجارة الأخروية… فقد آليت على نفسي ألّا أتراجع عن طريقي التي أسلكها ولو ضيّعتُ فيها رأس مالي. وإني على وشك خسارتها منذ الآن، إذ أَسْقُطُ في آثام كثيرة… فلم يبق إلّا الشهرة الكاذبة… ولقد مللت منها، وأهرب منها، لأنها تحمِّلني ما لا يمكن أن أتحمله من وظائف..

س: لِمَ تحسن الظن -كلما أمكنك ذلك- بحكومة المشروطية وأفرادِ «جون تورك» غير الملحدين؟.

ج: لأنكم تسيئون الظن بهم كلما تيسّر لكم ذلك، فأنا أُحسِنُ الظن بهم، فإن كانوا بمثل ما أقول، فبه ونِعمَ، وإلّا فأنا أرشدهم إلى الصواب كي يسلكوه.

س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.

ج: مع أنني أثمّن قيمتهم إلّا أنني أعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم([6]) وأهنئ في الوقت ذاته وأستحسن-إلى حدٍّ ما- فروعهم وشُعَبَهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.

* * *

سؤال: ما الذي ألقانا في غياهب الضياع وأقعدنا عن معالي الأمور؟

الجواب: إن الحياة حركة وفعاليةٍ، أما الشوق فجوادُها، وهو مطية الهمة. فحالما تمتطي همتُكم صهوة جواد الشوق ناشدةً معاليَ الأمور في ميادين معركة الحياة، إذا بـ«اليأس» أول ما يصادفها، هذا العدو الألد هو الذي يفتّ من قوة الهمة.. فعليكم أن تضربوه بسيف الآية الكريمة: ﴿لَا تَقْنَطُوا (الزمر:53).

ثم يشن «حـبُّ الظهور وميل التـفـوق» هـجـومَـه، هـذا الميـل المغروز في الإنسـان يحاول التحكم على خدمة الحق الخالصة من الحسد والمنازعة، فيهوي بضرباته على رأس الهمة ويطرحها على الأرض مِن على جوداها.. فعليكم أن تبعثوا إليه حقيقة الآية الكريمة: ﴿كُونُوا قَوَّامينَ لِلّٰهِ (المائدة:8).

ثم يبرز إلى الميدان «الاستعجالُ» فيُزِلّ قدم الهمة ويقلبها على عقبيها بطفراته خطوات ترتب الأسباب والمسببات. فيشوش مراحل العلل التي وضعها الله سبحانه في سننه الكونية.. فعليكم أن تحتموا منه بالخندق الأمين للآية الكريمة: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا (آل عمران:200).

ثم يتصدى لها «الرأي الشخصي» المستبِد والتفكير الانفرادي الذي يبدد آمال الإنسان، رغم أنه مكلّف -بفطرته- برعاية حقوقه ضمن رعايته لحقوق الآخرين.. فعليكم أن تصدوه بالحقيقة الشامخة في الحديث الشريف: «خير الناس أنفعهم للناس».

ثم يخرج إلى ساحة المعركة عدوٌ آخر وهو: «التقليد» فيجد الفرصة سانحة لتقليد الكسالى والمتخلفين، وبه يقصم ظهر الهمة.. فعليكم تحدّيه بالحقيقة الشاهقة، تلك هي حكمة الآية الكريمة: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ اِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة:105). كيلا تبلغ يدُ العدو أذيال الهمة.

ثم يلوح العدوّ الغدّار وهو: «التسويف» الناجم من العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ منه تأجيل الأعمال الأخروية من اليوم إلى الغد، وهكذا حتى يمسك يد الهمة ويقعدها عن النهوض.. فعليكم الاقتداء بسر الآية الكريمة: ﴿وَعَلَى اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (إبراهيم:12). على الله لا على غيره. فاجعلوا التوكل عليه سبحانه حصنًا للهمة.

ثم يدخل الساحةَ العدو الملحد وهو: «التدخل في ما هو موكول أمره إلى الله» فينزل هذا التدخل بضرباته القاسية ولطماته الموجعة على وجه الهمة حتى يُعمي بصرَها… فعليكم أن ترسلوا عليه الحقيقة الدائبة والرابحة دومًا وهي الآية الكريمة: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ (هود:112). كي تقفه عند حدّه، فلا يتجاوزه، إذ ليس للعبد أن يتأمّر على سيده.

وأخيرًا يُقبِل «حب الراحة والدعة» الذي هو أم المصائب ووكر الرذائل فيصفّد الهمة الكريمة بسلاسله وأغلاله ويقعدها عن طلب معالي الأمور ويقذفها في هاوية السفالة والذلة.. فعليكم أن تُخرجوا على ذلك السفاح الساحر، البطلَ المجاهد في الآية الكريمة: ﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى (النجم:39).

[حقًا إن لكم في الجهاد وتحمّلِ المشاق راحة كبرى، وإن الذي يملك فطرةً حساسةً راحتُه في السعي والعمل].

* * *

كان الذين لا يعرفونني في أثناء تجوالي ينظرون إلى ملابسي ويحسبونني تاجرًا، ويسألون:

أأنت تاجر؟

– نعم، وكيمياوي كذلك!

– كيف؟

– هناك مادتان، أمزجهما معًا، فيولدان ترياقًا شافيًا، وضياء كهربائيًا.

– أين هما؟

– في سُوق المدنية والفضيلة صندوقٌ يمشي على رجلين مكتوب عليه: «الإنسان»، فيه جوهر ساطع أو أسود قاتم وهو القلب.

– وما المادتان.

– الإيمان والمحبة، والوفاء والحمية.

الجريدة السيارة

أبو لاشيء، ابن الزمان، أخو العجائب، رفيق الغرائب.

بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] من أمثال تلك القياسات الفاسدة: قياس المعنويات على الماديات، واتخاذ ما تقوله أوروبا حجة في المعنويات، أي كما أنهم ماهرون في الماديات، ويقتدى بهم فيها، فهم ماهرون في العقائد أيضًا. وثانيتها: رفض أقوال العلماء -ممن لم يطّلعوا على بعض العلوم الحديثة- في العلوم الدينية أيضًا. ثالثتها: الاعتماد على النفس والاعتداد بها في الدين لاغتراره بمهارته في العلوم الحديثة. رابعتها: قياس السلف على الخلف والماضي على الحاضر، ثم شن الهجوم وتقديم الاعتراضات الباطلة (شقيق المؤلف عبد المجيد).

[2] لقد ألقيت هذه المباحث حول «مدرسة الزهراء» في السنة الثالثة من إعلان الحرية على صورة خطب للأهالي في كل مـن بتليـس ووان وديـاربـكـر وغيـرها مـن الأمـاكـن، وقابَلوني جميعًا بالموافقة وبأن هـذه المسـألة حقيقة وممكنة وقابلة للتطبيق، لذا أستطيع أن أقول: إنني مترجم لما كان يدور بخلدهم في هذه المسألة (المؤلف).

[3] تنبيه: يا أعضاء الحكومة وأهل السياسة الذين تعدّون أنفسكم من الخواص، لا تسلّوا أنفُسَكم بالاستناد إلى هذا الكتاب الذي يخاطب العوام ويلقنهم الدروس في تحطيم اليأس لأن سوء استعمالكم أسوأ تأثيرًا من سوء فهمهم، فلكي أرشـدكم جعلتُ الزمان وكيلًا، فلم تعيـروا إلى درس الزمـان بالًا، فـذقـتم صفعة تأديبية (المؤلف).

[4] يا أهل المدارس «الدينية»! لا تيأسوا إن العلوم الدينية والعلوم الحديثة في الوقت الحاضر هما المسيطرتان. وإن طريق التقدم والرقي سيكون بالعلم وبأنواعه كافة، وسوف يرتقي أرفعُه وأعلاه إلى أسمى طبقة (المؤلف).

[5] إن التحدث بنعم الله ضرب من الشكر، مثلما يحدّث الشيخ عن كرامته شكرًا لنعم الله عليه (المؤلف).

[6] يظهر الظلم عند عدم توزيع العدالة توزيعًا عادلًا. فلا يمكن جرح شعور ألف من الناس لأجل شخص واحد. فالشدة شيء والحمية شيء آخر، إذ لو التزم مغرورٌ معجب بنفسه بالحقَّ، يسوق الكثيرين إلى الباطل، وربما يرغمهم عليه (بما يستعمل من شدة) (المؤلف).