بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نقدم أولًا ما يقدمه كلُّ ذي روح بلسان حال حياته من هدايا معنوية إلى خالقه، وما يقدمه كلٌّ منهم من الحمد والشكر بلسان حاله إلى ذلك الواجب الوجود الذي قال:
﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53)، ونصلي ونسلّم صلاةً وسلامًا لا منتهى لهما على نبيّنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي قال: «إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق» أي: إنما بعثني الله إلى الناس لتتميم الخصال الحميدة وإنقاذ البشرية من الطباع الذميمة.

أما بعد!

فيا إخواني العرب الذين يستمعون إلى هذا الدرس في هذا الجامع الأموي؛ إنني ما صعدت هذا المنبر وإلى هذا المقام الذي هو فوق حدي لأرشدكم؛ فهذا أمرٌ فوق طوقي، إذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء الأفاضل، فمَثلي معكم كمثل صبي يذهب إلى المدرسة صباحًا ثم يعود في المساء ليعرض ما تَعلّمه على أبيه، ابتغاء تصحيح أخطائه والتلطّف في تصويبه وإرشاده.

فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار، فنحن تلامذة بالنسبة إليكم وأنتم أساتذة لنا ولسائر أمة الإسلام. وها أنذا أعرض بعض ما تعلمتُه على أساتذتي:

لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية، وعلمتُ في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة أمراض جعلتنا نقـف على أعتاب القرون الوسطى في الوقت الذي طار فيه الأجانب -وخاصة الأوربيين- نحو المستقبل.

وتلك الأمراض هي:

أولًا: حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.

ثانيًا: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

ثالثًا: حبّ العداوة.

رابعًا: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.

خامسًا: سريان الاستبداد سريانَ الأمراض المُعدية المتنوعة.

سادسًا: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.

ولمعالجة هذه الأمراض الستة الفتّاكة، أبيّن ما اقتبستُه من فيض صيدلية القرآن الحكيم -الذي هو بمثابة كلية الطب في حياتنا الاجتماعية- أبيّنها بست كلمات، إذ لا أعرف أسلوبًا للمعالجة سواها.

الكلمة الأولى: «الأمل»

أي: شدة الاعتماد على الرحمة الإلهية والثقة بها.

نعم، إنه بناءً على ما تعلمته من دروس الحياة، يسرّني أن أزفّ إليكم البشرى يا معشر المسلمين، بأنه قد أَزِفَ بزوغُ أمارات الفجر الصادق ودنا شروقُ شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين، ولاسيما سعادة العرب الذين يتوقّف تقدمُ العالم الإسلامي ورقيُّه على تيقظهم وانتباههم، فإنني أعلن بقوة وجزم، بحيث أُسمِعُ الدنيا كلها وأنفُ اليأس والقنوط راغم:([1])

أن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده، وأن الحكم لن يكون إلّا لحقائق القرآن والإيمان. لذا فعلينا الرضا بالقدر الإلهي وبما قسّمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماضٍ مشوش مختلط.

فهذه دعواي، لي عليها براهين عدة، سأذكر واحدًا ونصفًا فقط منها، بعد أن أمهّد لها ببعض المقدمات.

أما المقدمات فهي:

أن حقائق الإسلام تمتاز باستعدادها استعدادًا كاملًا لدفع أهلها إلى مراقي التقدم المادي والمعنوي معًا.

أما أنه مستعد للرقي المعنوي:

فاعلموا أن التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية، أَصدقُ شاهد على حقيقة الأحداث؛ فها هو التاريخ يرينا.. أن القائد الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة الآتية في صدد عظمة الإسلام وحقانيته: «إنه بنسبة قوة الحقائق الإسلامية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق، يزدادون رقيًا وتقدمًا، هكذا يرينا التاريخ. ويرينا أيضًا أنه بقدر ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف والاضمحلال والوقوع في ألوان من الهرج والمرج والاضطرابات، ويُغلَبون على أمرهم». أما سائر الأديان الأخرى فالأمر فيها على عكس الإسلام، أي: بقدر ضعف تمسّك أتباعها وضعف تعصبهم وصلابتهم في دينهم يزدادون رقيًا وتقدمًا، وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم بدينهم يتعرّضون للانحطاط والاضطرابات.

هذا هو حكم التاريخ.. وهكذا مَرَّ الزمانُ إلى الآن.

وما أرانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد إلى الآن أن مسلمًا قد ترك دينه مرجِّحًا عليه -بالمحاكمة العقلية والدليل اليقيني- دينًا آخر، على حين أن كثيرًا من أتباع الأديان الأخرى -حتى المتعصبين منهم، كالروس القدامى والإنكليز- قد رجّحوا بالمحاكمة والدليل العقلي دين الإسلام على أديانهم فدخلوا في الإسلام. ولا عبرة هنا بتقليد العوام الذي لا يستند إلى دليل، كما لا عبرة بالمروق عن الدين والخروج على حقائقه، فهذه مسألة أخرى. علمًا أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالإسلام -بالمحاكمة العقلية- جماعاتٍ وأفواجًا يزداد يومًا بعد يوم.([2])

ولو أننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم أخـلاق الإسلام وكمال حقائـق الإيمان، لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعاتٍ وأفواجًا، بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للإسلام.

إن البشرية التي أخذت تصحو وتتيقّظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة أدركت كنه الإنسانية وماهيتها، وتيقّنت أنه لا يمكنها أن تعيش هملًا بغير دين، بل حتى أشد الناس إلحادًا وتنكرًا للدين مضطر إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف؛ لأن: «نقطة استناد» البشر عند مهاجمة المصائب والأعداء من الخارج والداخل، مع عجزه وقلّة حيلته، وكذا «نقطة استمداده» لآماله غير المحدودة الممتدة إلى الأبد مع فقره وفاقته، ليس إلّا «معرفةَ الصانع» والإيمان به والتصديق بالآخرة… فلا سبيل للبشرية المتيقّظة إلى الخلاص سوى الإقرار
بكل ذلك.

وما لم يوجد في صَدَفة القلب جوهر الدين الحق، فسوف تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر، وسيكون أشقى الحيوانات وأذلّها.

خلاصة الكلام: لقد تيقّظ الإنسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذُرِ الحروب والأحداث المذهلة، وَشَعَر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع، وأدرك أن الإنسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة إلى الأبد، وأن كل إنسان بدأ يشعر -حسب استعداده- أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لا تسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى إذا قيل لقوّة الخيال التي تخدم الإنسانية: «لك أن تعمَّري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظيرَ قبولك موتًا أبديًا لا حياة بعده إطلاقًا»، فلابد أن خيال ذلك الإنسان المتيقّظ الذي لم يفقد إنسانيته سيتأوه كَمَدًا وحزنًا -بدلًا من أن يفرح ويستبشر- لفقده السعادة الأبدية.

وهذا هو السر في ظهور ميل شديد إلى التحري عن الدين الحق في أعماق كل إنسان، فهو يبحث قبل كل شيء عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الأبدي. ووضعُ العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.

لقد بدأت قارات العالم ودوله -بعد مرور خمسة وأربعين عامًا وبظهور الإلحاد- تدرك إدراكَ كل فردٍ هذه الحاجة البشرية الشديدة.

ثم إن أوائل أكثر الآيات القرآنية وخواتمها، تحيل الإنسان إلى العقل قائلة: راجعْ عقلَك وفكرك أيها الإنسان وشاورهما، حتى يتبينَ لك صدق هذه الحقيقة؛ فانظروا مثلًا إلى قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُٓوا.. ﴿فَاعْلَمْ.. ﴿اَفَلَا يَعْقِلُونَ.. ﴿اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا .. ﴿اَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ.. ﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ.. ﴿فَاعْتَبِرُوا يَٓا اُو۬لِي الْاَبْصَارِ .وأمثالِها من الآيات التي تخاطب العقل البشري، فهي تسأل: لِمَ تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لِمَ تعصُبون عيونَكم وتتعامَوْن عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وأنتم عقلاء؟ أي شيء منعكم من التفكر والتدبّر في أحداث الحياة، فلا تعتبرون ولا تهتدون إلى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولا تحكّمون عقولكم لئلا تضلوا؟.

ثم تقول: أيها الناس انتبهوا واعتبروا! أنقذوا أنفسكم من بلايا معنوية تنزل بكم، باتعاظكم من القرون الخوالي.

يا إخواني الذين يضمّهم هذا الجامع الأموي، ويا إخواني في جامع العالم الإسلامي! اعتبروا أنتم أيضًا! وقيّموا الأمور في ضوء الأحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية، كونوا راشدين، يا من يعدّون أنفسهم من أولي الفكر والعلم.

نحصل مما سبق: نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان، ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الإيمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليدًا للرهبان كما هو دأب أتباع سائر الأديان!

وعلى هذا فإن المستقبل الذي لا حكمَ فيه إلّا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه إلى العقل والمنطق والبرهان.

وها قد أَخَذَت الحجبُ التي كانت تكسف شمس الإسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب، ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس وأربعين سنة، وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف أو هو على وشك البزوغ، وحتى إن كان هذا الفجر فجرًا كاذبًا فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عامًا إن شاء الله.

نعم، فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلاء حقائق الإسلام على الزمان الماضي استيلاءً تامًا وهي:

المانع الأول والثاني والثالث:

جهل الأجانب،

وتأخرهم عن عصرهم (أي بُعدهم عن الحضارة)،

وتعصبهم لدينهم…

فهذه الموانع الثلاثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي ومحاسن المدنية.

المانع الرابع والخامس:

تحكّم القسيسين وسيطرةُ الزعماء الروحانيين على أفكار الناس وأذهانهم،

وتقليد الأجانب لأولئك القسيسين تقليدًا أعمى.

فهذان المانعان أيضًا يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري إلى البحث عن الحقائق.

المانع السادس والسابع:

تفشي روح الاستبداد فينا،

وانتشار الأخلاق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة ومخالفتها.

فإن زوال قوة استبداد الفرد الآن يشير إلى زوال استبداد الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلاثين أو أربعين سنة. ثم إن فوران الحمية الإسلامية والوقوف على النتائج الوخيمة للأخلاق الذميمة كفيلان برفع هذين المانعين بل هما على وشك أن يُرفعا، وسيزولان زوالًا تامًا إن شاء الله.


[1] لقد أخبر «سعيد القديم» بإحساس مسبق منذ خمسة وأربعين عامًا بأن العالم الإسلامي -وفي مقدمته الدول العربية- سينجو من سيطرة الأجانب وتحكّمهم، وسيشكلون دولًا إسلامية سنة1371. ولم يفكر آنذاك في الحربين العالميتين ولا في الاستبداد المطلق الذي دام ما يقارب أربعين عامًا، فبشّر بما كان سنة 1371 وكأنه 1327 دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر الاعتبار. (المؤلف).

[2] والدليل على هذه الدعوى هو أنه مع قيام حربين عالميتين رهيبتين، وظهورِ استبداد مطلق قاسٍ نجد أنه بعد خمس وأربعين سنة:

  1. قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا تدريس القرآن في مدارسها، ليكون سدًا منيعًا أمام الشيوعية والإلحاد.
  2. قبول عدد من الخطباء الإنكليز المشهورين بإقناع الإنكليز وحملهم على قبول القرآن.
  3. موالاة أكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر-وهي أمريكا- لحقائق الدين بكل قواها، واعترافها بأن آسيا وإفريقيا ستجدان السعادة والأمن والسلام في ظل الإسلام. فضلًا عن تعاطفها مع دول إسلامية حديثة الولادة ومحاولتها الاتفاق معها.. كل ذلك يُثبت صدق هذه الدعوى التي قيلت قبل خمس وأربعين سنة، وشاهد قوي عليها.(المؤلف).