خطابٌ إلى الحرية

أيتها الحرية الشرعية.. إنك تنادين بصوتٍ هادر، لكنه عذبٌ مبشِّر، فتوقظين بدويًّا غارقًا في سُبات الغفلة مثلي، فلولاكِ لبقيتُ أنا وعامَّة الشعب في زنازين الأسر.

إنني أبشِّركِ بعمرٍ أبديٍّ إنِ اتخذْتِ الشريعة التي هي عينُ الحياة منبعًا للحياة، وترعرعتِ في جنتها؛ كما أزفُّ البشرى إلى هذا الشعب المظلوم أنْ سيترقَّى ألفَ درجةٍ عما كان عليه في الماضي، إن اتخذكِ مرشِدًا، ولم يلوِّثْكِ بالأغراض الشخصية وفكر الانتقام.

يا رب! ما أسعدها من قيامةٍ!! وما أجمله من حشرٍ!! يُصوِّران لنا مثالًا مصغَّرًا عن حقيقة البعث بعد الموت في هذا الزمان!!

فها قد دبَّت الحياة في المدنيَّة القديمة المدفونة في زوايا آسيا و«الرُّوْمَلي» [«الرُّومَلي» أو «الرُّوم إيلي»: هي مناطقُ الدولة العثمانية الواقعةُ في قارَّة أوروبا، وكانت تمتد على مساحاتٍ واسعةٍ مما يُعرَف اليوم ببلغاريا واليونان ودول البلقان؛ هـ ت]، وها هم متمنُّو الاستبداد، المتحرُّون لمنافعهم في مضارِّ العباد، قد باتوا يردِّدون: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ:40].

وما دامتْ حكومتنا الجديدة -حكومة المَشْرُوطِيّة- قد ولدتْ كمعجزة، فسنكون في غضون سنةٍ إن شاء الله مَظْهرًا لسرِّ: ﴿نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم:29].

لقد فَتحت لنا جنَّةُ المدنيَّةِ والرُّقي أبوابَها ثوابًا بغير عذابٍ لرمضانِ السكوتِ الذي صُمناه ثلاثينَ سنةً صابرين متوكلين [إشارةٌ إلى تعليق العمل بالمَشروطِيَّة في العام 1878م، حيث كان السلطان عبدُ الحميد قد عَلَّق العملَ ببعض موادِّ الدستور وعطَّلَ مجلسَ النُّوّاب بعد أن كان هو نفسه مَن فعَّلَهما، وسبب ذلك أن المجلس بات أداةً بيد القوى الغربية تدسُّ فيه الأعضاء الموالين لها وتمرِّر من خلالهم مشاريعها لتفتيت الدولة العثمانية؛ هـ ت]، وها هو القانون الشرعي الذي هو براعة الاستهلال لحاكميَّة الأمة يدعونا كخازن الجِنان للدخول، فهلمُّوا ندخلْها يا إخوة الوطن المظلومين.. فبابُها الأول: اتحادُ القلوب في دائرة الشريعة؛ وبابها الثاني: التحابُّ بين أبناء الأمة؛ والثالث: العِلْم؛ والرابع: السعي الإنساني؛ والخامس: اجتناب الرذيلة؛ وأُحيلُ البقية على أذهانكم.

…….

فحذارِ يا إخوة الوطن أن تميتوها [يقصد الحريَّة؛ هـ ت] ثانيةً بالرذائل والاستهتار بالدين.

ولقد برز القانونُ الأساسيُّ [القانون الأساسي هو نفسُه ما يسمَّى الدستور؛ هـ ت] المؤسَّسُ على الشريعة الغرَّاء كمَلَكِ الموت في مواجهة الأفكار الفاسدة، والأخلاق الرذيلة، والحيل والمكائد الشيطانية، والتزلُّفات الدنيئة، فأماتها، فحذارِ أن تعيدوها إلى الحياة بالإسراف ومخالفة الشريعة والملذَّات غير المشروعة.

لقد كنا إذًا في القبر حتى وقتٍ قريب، وبَليَتْ عِظامُنا، ودخلْنا اليوم بالمَشْرُوطِيّة وباتحاد أبناء الأمة رحِمَ الحياة، وسننمو ونبلغ أشُدَّنا، وسنركب قطارَ القانون الشرعي الأساسي عملًا، ونمتطي بُراقَ الشورى الشرعية فكرًا، فنتجاوز بمعجزةٍ نبويَّةٍ مئةَ سنةٍ من تخلُّفِنا في مضمار الرُّقي، ونطوي هذه الصحراء الكبرى الموحشة في زمنٍ قصير، فنسابق الأمم المتمدِّنة جنبًا إلى جنب، فإنهم قد ركبوا العربات، أما نحن فسنركب وسائل كالقطار والمنطاد فنسبقهم؛ بل سنتجاوزهم بفراسخ كما فعلنا في الماضي، وذلك بفضلِ الحقيقة الإسلامية التي هي مجمع الأخلاق الحسنة، وبفضلِ الاستعداد الفطري، وفيضِ الإيمان، وسهولة الهضم التي تورثها شدة الجوع.

وإنني من موقعِ ما تمليه عليَّ وظيفتي كطالب علم، وما تُخوِّلني إياه شهادةُ الحريَّة، أُحذِّر وأنبِّه فأقول:

حذارِ يا أبناء الوطن أن تسيئوا تفسيرَ الحرية، وإلا فقدناها وجُرِّعْنا الأسرَ السالفَ المريرَ بكأسٍ أخرى جديدة [بلى، لقد جُرِّعنا كأسَ أسرٍ مريرٍ مسمومٍ من يدِ استبدادٍ أفظع؛ سعيد]؛ لأن الحرية إنما تنمو وتترعرع بالأخلاق الحسنة، وبمراعاة آدابِ الشريعة وأحكامها.

بديع الزمان

***