55
زِيَّ الدراويش، ويضع على كتفَيه كساءً من جلد الغنم، ثم لبس فيما بعد زيَّ طلاب العلم، وألزَمَ جميعَ العلماء في المناظرة؛ فلما سمع المُلَّا سعيد قولَ الرجل علِم أنه يتحدث عنه، وأدرك أن حاله التي كان عليها قبل سنةٍ قد شاعت في القرى المجاورة، فعاد أدراجَه ولم يُجِب الدعوة.
وبعد حينٍ من الزمن ذهب إلى قصبة «تِلُّو» التابعة لـ«سِيْرْت»، واختلى فيها تحت قبةِ ضريحٍ مشهور، ومن العجائب التي جرتْ له هناك أنه حفِظ عن ظهر قلبٍ شطرًا من «القاموس المحيط» من أوَّلِه حتى باب السين، فسُئِل عن هذا فقال: إن القاموس يُورِد معاني الألفاظ، وأرغب أن أضع معجمًا يورِد ألفاظ المعاني.
وكان أخوه الأصغر «محمد» يأتيه بالطعام طَوالَ خلوته هناك، فكان المُلَّا سعيد ينثر الحَبَّ الذي في طعامه للنمل، ويكتفي بغمس الخبز في المَرَق، فقيل له: لِمَ تعطي الحَبَّ للنمل؟ فقال: لقد شاهدتُ عندهم التزامًا بنظام الحياة الاجتماعية، واجتهادًا في العمل ودأبًا فيه على نحوٍ عجيب، فأردتُ أن أُعيْنَهم مكافأةً لهم على حبِّهم للنظام الجمهوري [سُئِل في محكمةِ جناياتِ «أسكي شَهِر» في العام 1935م: ما رأيك في النظام الجمهوري؟ فأجاب: إن سيرة حياتي التي بحوزتكم تُثبت أنني جمهوريٌّ متديِّنٌ مِن قَبْلِ أن تولدوا أنتم جميعًا باستثناء رئيس المحكمة؛ ثم سرد قصته مع النمل المذكورةَ آنفًا وقال لهم: لقد كان كلُّ واحدٍ من الخلفاء الراشدين خليفةً ورئيسَ جمهوريَّةٍ في الوقت نفسه، فالصِّدِّيق الأكبر رضي الله عنه كان بلا شك بمثابة رئيسِ جمهوريةٍ فيها العشرة المبشرون بالجنة والصحابةُ الكرام رضي الله عنهم؛ إلا أنهم لم يكونوا رؤساء اسمًا بغير مسمًّى، أو شكلًا بغير مضمون، بل كانوا رؤساء جمهوريةٍ متديِّنين، يحملون معاني العدالةِ والحرية الشرعية بحقيقتها؛ المُعِدّون].
وذات ليلةٍ رأى في منامه الشيخَ عبد القادر الجيلاني قُدِّس سِرُّه [هو أبو محمدٍ، عبدُ القادر بنُ موسى بنِ عبد الله، إمامٌ عالِمٌ زاهدٌ من أئمة الشريعة والحقيقة، ولد بـ«جيلان» سنة 470هـ، طلب العلم ببغداد، وتلقى على أيدي كبار شيوخها، وتفقه على المذهب الحنبلي؛ تصدَّر للوعظ والتربية والإرشاد، وتاب على يديه خلقٌ كثير من الفساق وأهل الضلال، وأسلم على يديه آلافٌ من النصارى واليهود؛ كان من أعظم مشايخ زمانه تعظيمًا للشرع وتمسُّكًا بالسنة واجتنابًا للبدعة؛ نُقِلت عنه كراماتٌ لا تحصى، توفي سنة 561هـ؛ أشهر مؤلَّفاته: «الغُنيَة لطالبي طريق الحق»، و«فتوح الغيب»، و«الفتح الربَّاني»؛ هـ ت] يخاطبه قائلًا: