58
بل عدُّوها إجابةً صحيحة، ولكنه تنبَّه للأمر عند انفضاضِ المجلس، فبادرهم قائلًا: عذرًا، لقد أخطأتُ في الإجابة عن أحدِ أسئلتكم ولم تنتبهوا لذلك، ثم سرد الإجابة الصحيحة؛ فقالوا له: لقد ألزمتَنا الحجةَ حقًا.
وبعد هذه المناظرة بدأ بعضُهم بقراءة الدروس عليه، كما وفَّى «مصطفى باشا» بوعده فشرع بإقامة الصلاة، وأهداه بندقية «ماوْزَر».
وبالإضافة إلى ما كان عليه المُلَّا سعيد من استعدادٍ علميٍّ منقطع النظير، كان كذلك صحيح البدن قويَّ البُنْية، يحب المصارعة، وكان يصارع الطلبة في المدارس فلا يغلبُه أحد.
وقد ذهب يومًا مع «مصطفى باشا» إلى سباق الخيل، وكان الأخير قد أمر بأن يُجَهَّز للمُلَّا سعيدٍ فرسٌ صعبُ المِراس لم يُروَّضْ ولم يُركَبْ، ولعل القصد من ذلك -والله أعلم- أن يقع عن ظهره فيموت؛ قدَّم الباشا الفرسَ للمُلَّا سعيد فامتطاه وجالَ به قليلًا، فلما أراد أن يعدوَ به جَمَحَ، فصار كلما أراد أن يُجرِيَه في وجهةٍ عدا في غيرها، ولم تفلِح محاولاته في السيطرة عليه، إلى أنْ جرى إلى موضعٍ يلعب فيه الصبيان، فرفس صبيًّا بين كتفيه فوقع يتخبَّط بين قوائمه، وكان الصبي ابنًا لأحدِ أغَوَات الجزيرة، فأسرع الناس للنجدة، فلما وجدوا الطفل لا يبدي حراكًا كأنه ميت، همُّوا بقتل المُلَّا سعيد، واستلَّ خدمُ الآغا خناجرَهم، فوضع المُلَّا سعيدٌ يده على مسدَّسه وقال لهم: بالنظر إلى الحقيقة فإن الله هو مَن أماتَه، وبالنظر إلى الظاهر فالفرس هو مَن قتَله، أما بالنظر إلى السبب فمصطفى الأقرع [يقصد الزعيم «مصطفى باشا» نفسَه؛ هـ ت] هو القاتل، لأنه هو مَن أعطاني هذا الفرَس؛ كُفُّوا أيديَكم ولننظر إلى الصبي، فإن كان ميتًا كان بيننا النِّزال.
ثم ترجَّل عن الفرس، وتناول الطفل بيديه فلم يجد به حراكًا، فغَطَسَه في ماءٍ باردٍ ثم أخرجه، ففتح الطفل عينيه وابتسم، وتعجَّب الناس مما شاهدوا.