61
كانت فطرةُ سعيدٍ الشاب تأبى أن يُفرَضَ عليه قانونٌ ما، أو تُحَدَّ حركتُه بحدود، وكان يحب أن يكون حرًّا في تحركاته وأحواله، وكان يقول: «أنا لا أسمح لأيِّ قانونٍ مزاجيٍّ أن يحدَّ من حريتي واستقلاليتي».
ولهذا نجده قد أصرَّ أولَ ما قَدِم إلى اسطنبول على أن يبقى بعيدًا عن أيِّ قيد يقيِّده، وهذا ما نشاهده في مراحل حياته، وإن هذا العشقَ للحرية والاستقلالِ الكامنَ فيه هو الذي أثمر في الشطر الثاني من حياته صدَّه لهجومِ الضلالة والزندقة الرهيبِ القادم من أوروبا، وهو الذي أثمر أيضًا رفضَه وإباءَه الخضوعَ لمبادئ الاستبداد المطلَق الناشئةِ عن الفلسفة الطبيعية المخالِفةِ للقرآن الكريم، كما أثمر سعيَه ونضالَه لأجل المدنيَّة والحريَّة الإسلاميَّة التي هي الحريَّة الحقيقية المشروعة.
دخل المُلَّا سعيد في سن البلوغ وقارب السادسة عشرة حين كان في «بِتْليس»، ولم يكن يجد في تلك المرحلة ما يدعوه للقراءة المطوَّلة، إذْ كانتْ معلوماتُه حتى ذلك الحين من قبيل السُّنوحات، إلا أن هذه السُّنوحات كانت قد أخذتْ تتضاءل شيئًا فشيئًا من غيرِ أن يَعرِف سبب ذلك؛ أهو البلوغ؟ أم الاشتغال بالأمور السياسية؟ فأكبَّ من ذلك الحين على دراسة المتون من كلِّ العلوم، وحَفِظ في سنتَيْن أربعين متنًا من متون علوم الآلة (كالنحو والصرف والمنطق وغيرها)، والعلوم العالية (كالتفسير وعلم الكلام) فضلًا عن كتابَي «المَطالع» و«المَواقِف» [«مطالع الأنوار في المنطق والحكمة»، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرْمَوي، ت 682 هـ؛ و«المواقف في علم الكلام»، لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، ت 756 هـ؛ هـ ت]، وكان يراجع جميع محفوظاته بشكلٍ دوريٍّ، فيقرأ منها جزءًا كلَّ يوم، ويُتِمَّ مراجعتَها كلَّ ثلاثة أشهر.
وكانت له حالتان متضادتان: إحداهما حين يكون ذهنُه في حالةِ صفاءٍ وانشراح، وفيها يفهَم أيَّ كتابٍ يقع في يده فلا يَعسُر عليه شيءٌ منه؛ والأخرى حين يكون ذهنُه في حالةِ انقباض، فلا يطيب له التحدُّث فضلًا عن المطالعة.