67
كان لهذا الخبر الصاعق بالغُ الأثر في بديع الزمان، وهو المعروفُ باستعداده الوقَّاد، وأحاسيسه المُرهَفة ولطائفه اليقِظة، وهو المتميزُ بالعناية الربانية والسجايا الرفيعة كالعلم والعرفان والإخلاص والجرأة والشجاعة، فقال معلِّقًا على هذا الخبر: «لَأُثبِتَنَّ للعالم ولَأُظهِرنَّ له أن القرآن شمسٌ معنويةٌ لا يخبو سناها ولا يُطفأ نورُها»، وانطلقت من أعماق روحه عزيمةٌ لا تلين للقيام بهذا العمل [عندما تلقَّى سعيد النورسي قبل خمسٍ وستين سنة نبأ وزير المستعمرات وتصريحَه في البرلمان الإنكليزي، انبعثتْ في روحه همةٌ لا تعرف الكلل، وحماسٌ لا يعرف الملل؛ واتخذ قراره الحاسم بأن يَنشرَ معجزةَ القرآن في كل الجهات، ويُثبِتَ إعجازَها ويُسكِت كفَّارها.
لقد كان خلال السنوات الخمس عشرة من إقامته في «وان» يراجع باستمرارٍ ما ينوف على ثمانين كتابًا من محفوظاته، وكان في الوقت نفسه يطالع أحوال العالَم الإسلامي الحاضرة، فيعرف منها ما ينبغي أن يُعرَف؛ وإذا كان قد عُرِف عن هذا العلَّامةِ المنقطعِ النظير علمُه وذكاؤه النادر وهو بعدُ في مقتبل الشباب، فإنه قد عُلِّم الحكمةَ القرآنية دون سائر أقرانه، وكان فوق هذا يتمتع بالثبات والأمل والتضحية والاستعداد ليبرهن ويُثبِت للعالَم أن القرآن معجزةٌ تفوق علوم العصر وآدابَه.
فكما أن انبثاقَ شجرةٍ عظيمةٍ كالجبل، من بذرةِ صنوبرٍ صغيرةٍ بحجم حبةِ قمحٍ، يجلِّي القدرةَ الإلهية أيَّما جلاء؛ فكذلك ظهورُ فتحٍ معنويٍّ كُلِّيٍّ يغير الأذهان ويترك أثره الملموس لا في تركيا فحسب، بل في العالَم الإسلامي ومعظم أرجاء الدنيا، في حقبةٍ زمنيَّةٍ بالغةِ الشدة من تاريخنا، من خلال خدمة بديع الزمان وحياته الشبيهة بتلك البذرة، مع أنه لا يملك شيئًا من القوة المادية، بل هو على العكس مضطهَدٌ مقيَّد، فظهور هذا الفتح إنما يُجلِّي للقلب والعقل قدرةً مطلقةً واستخدامًا إلهيًّا وتوجيهًا ربانيًّا.
والحقُّ أن بديع الزمان كان يحدِّث بنعمة الله عندما تحدَّث في أحد كتبه عن العنايةِ الإلهية التي نالتها الخدمة الإيمانيَّة فقال:
رأيتُ في واقعةٍ صادقةٍ قُبيل الحرب العالمية الأولى أو في أوَّلها، رأيتُني تحت جبل «أغري» المعروف بجبل «أرارات»، وإذا به ينفجر انفجارًا يثير الهول والفزع فتترامى أجزاؤه العظيمة كالجبال على أنحاء الدنيا، فنظرتُ وأنا في هذا الهول الذي غشيني، فإذا بأمي رحمها الله إلى جانبي، فقلتُ لها: لا تخافي يا أماه.. إنه أمرُ الله، وإنه حكيمٌ رحيم؛ وبينما أنا في هذه الحال إذا بشخصٍ جليلٍ مَهيبٍ يخاطبني آمِرًا: بيِّنْ إعجازَ القرآن.
فاستيقظتُ وفهمتُ أن ثمة انفجارًا وتحوُّلًا عظيمًا سيقع، وستتهدم على إثره الأسوارُ من حول القرآن، فيدافع عن نفسه بنفسه، وستُشَنُّ عليه الهجمات، وسيكون إعجازُه درعَه الفولاذي؛ وفهمتُ أنَّ شخصًا مثلي سيكون مرشَّحًا بما يفوق حدَّه لإظهار نوعٍ من ذلك الإعجاز في هذا الزمان، وأنني أنا ذلك المرشَّح؛ المُعِدّون].