24
فمثلًا: لم يكن اقتصادُ الأستاذ في مجرّد المأكل والمشرب والملبس، بل كان عبقريًّا يزِن بميزانٍ دقيقٍ المعنوياتِ والقيمَ المجرَّدةَ كالفكر والذهن والوقت والقابليَّة والاستعداد، بل حتى النَّفْس والنَّفَس، لئلا يقع فيها إسرافٌ أو هدر.
وقد لقَّن جميعَ طلابه أصولَ هذه المراقبة الصارمة والمحاسبة الدقيقة التي أخذ بها نفسَه مدى حياته وغدتْ سجيةً له؛ ولهذا فليس من السّهل أن يقرأ طالبُ النور كتابًا كيفما اتفق، أو يُلقيَ سمعه لكلِّ مقولة؛ ذلك أن قلبه يدور على كلمةٍ تُدير شؤونه بحساسيةٍ فائقة هي: «انتبهْ»!!
وهكذا أثبت بديع الزمان -على نحوٍ فعليٍّ- بما ربَّى من جيلٍ طاهرٍ أنه مربٍّ فريد ومصلحٌ قدير، وأنَّه نادرةٌ بشريةٌ أضافت لتاريخ الاقتصاد صفحةً ناصعةً مسطورةً بسطورٍ من نور.

 تواضعُه وفناؤه عن نفسه:

لقد كان لهاتين الخصلتَين عظيمُ النفع وعميق الأثر في انتشار رسائل النور انتشارًا فريدًا على نطاقٍ واسعٍ في أنحاء العالَم؛ ومَرَدُّ ذلك أن الأستاذ لم يتَّخذْ لنفسه في شيءٍ من دروسه أو مؤلَّفاته ألقابًا كـ«قطب العارفين» و«غوث الواصلين»؛ فتوجَّهتْ إليه القلوب بدافئ المشاعر، وأحبَّتْه أنقى وأصدقَ ما يكون الحُب، وتمثَّلتْ من فورها غايتَه العُلويَّة السامية.
فمثلًا نجده في حديثه ودروسه في الأخلاق والفضيلة والحِكَم والعِبَر يوجِّه الكلام إلى نفسه مباشرةً، ويضعها موضعَ المخاطَب الأول والوحيد في خطاباته اللاذعة الملتهبة؛ وعندها ينتشر النور من هناك، من المركز إلى المحيط، حيث القلوب المتلهِّفة إلى النور والسرور، والسعادة والحضور.
لقد كان في حياته الشخصية في غاية الحِلْم والموادعة، وفي منتهى درجات التواضع، يبذل عظيم التضحيات في سبيل ألا يؤذي إنسانًا، بل حتى ذرةً، محتملًا ما لا