17
وسجنٌ وزنازين.. ونفيٌ وتشريد.. وتسميمٌ وأعوادُ مشانق.. وما لا يخطر بالبال ولا في الخيال من أنواع الظلم والاضطهاد.
وها هو بديع الزمان قد سار طَوالَ حياته بجهاده المقدس في هذا الطريق الشاقِّ أزْيَدَ من نصف قرن، ومضى كالبرق يجتاز آلاف العقبات، مُثبِتًا بصورةٍ عمليةٍ أنه عالِمٌ من ورثة الأنبياء.
إن أكثر ما يأسرني في علمه وأخلاقه وأدبه وفضائله ومزاياه الجمَّة: إيمانُه الراسخ رسوخ الجبال، العميق عمق البحار، السامي الرَّحب كالسماوات!
يا إلهي ما أعظمه من إيمان!! يالَه من صبرٍ لا ينفَد!! يالها من إرادةٍ صلبةٍ كالفولاذ!! ثم بالرغم من كل هذا العَسْف والتهديد وألوان الأذى والآلام التي يرتعد لذكرها الخيال.. بعدَ هذا كلِّه.. ياله من رأسٍ أشَمَّ لا ينحني!! وياله من صوتٍ هادرٍ لا يَـخْـفُت!! وياله من نَفَس لا يهدأ!!
إنني لِما انتابني من الوجد إثر وقوفي على الأشعار البليغة للشاعر الكبير «محمد إقبال»، نَظمْتُ قصيدةً عنوانها: «مــجــاهــد»؛ وقد قيل لي فيها: لقد بالغتَ فيما نظمتَ!! لكنّ من يقرؤها بعد أن يقرأ هذا الكتاب الفريد الذي أتشرف بكتابة مقدِّمته، سيدرك -والوجدُ يغمره مع الإعجاب- كم لله من عبادٍ صنع بهم كمالُ الإيمان الأعاجيب!

إنْ يَحْظَ عزمٌ بهذا القلب يحملُه
أنَّى قيودُ الردى يومًا تكبِّله؟!
يزيدُ قوَّتَه إلهامُ بارئنا
النورُ مِحرابُ قلبٍ، ما يكون هنا
وليس من قولِه ثلجُ الشتا عرَضٌ
يمضي مدى عمره لا شيء يُقلِقُه