20
لقد تناولنا بالبحث آنفًا عظمةَ إيمانِ الأستاذ التي لم تأخذ بألبابِ أصحابه وطلابه فحسب، بل حيّرتْ أعداءَه وألقتْ في قلوبهم الرَّوع؛ وكما أن لكلِّ شخصيةٍ مزاياها المختلفة وصِفاتِها المحدَّدة التي تكوِّنها، فللأستاذ كذلك مزايا وصِفاتٌ تكوِّن شخصيتَه، وسنتناول بالبحث أخلاقَ هذه الشخصية الفريدة ومزاياها وكمالاتها التي تَحُفُّ بها مثل هالةٍ من نور؛ فمنها:

 تضحيتُه:

إن أهم شرطٍ لنجاح صاحب أيةِ دعوةٍ -لا سيما إنْ كان داعيةَ إصلاحٍ- هو التضحية، فالأنظار والقلوب ميَّالةٌ لِتَتَبُّع هذه النقطة المهمة، تَلحَظُها بحساسيةٍ فائقة؛ وإن حياة الأستاذ بأجمعها لَتمتلئ وتفيض بأمثلةٍ رائعةٍ في التضحية.
ولقد سمعتُ يومًا من شيخ الإسلام العلّامة المرحوم «مصطفى صبري» أفندي كلامًا عن التضحية قال فيه: «إنَّ الإسلام اليومَ يتطلَّب مجاهدين أفذاذًا، مستعدين للتضحية لا بدنياهم فحسْب، بل حتى بآخرتهم»!!
ولأني لم أستوعب تمامًا هذا الكلام الصادر عن إنسانٍ جليل، فقد شبّهتُه بما يصدر عن الصوفية من أقوالٍ وأسرارٍ حال استغراقهم، ولم أقله لأحد، ولم أتطرق إليه في مجلس؛ إلى أن أتى زمانٌ قرأتُ فيه المقولةَ ذاتها في ثنايا عباراتٍ جَيّاشةٍ تتَّقِدُ نارًا لبديع الزمان، فأدركتُ عندها أن معيار التضحية يَعظُم بحسب العظماء.
نعم.. أيترك اللهُ -وهو ذو الكرَم تعالى وتقدس- المجاهدين المضحِّين بمُهَجِهم في سبيل الإسلام؟! أيتخلى عنهم وهو أرحم الراحمين؟! أيليق بشأنه أن يحرم عبدَه المضحّيَ من لطفه وكرمه وعنايته ورحمته؟!حاشا وألف حاشا.
وهكذا يتألق بديع الزمان كأسطع مثالٍ لهذا التجلي الاستثنائي، فقد عاش عمرَه كلَّه متجرِّدًا، محرومًا تمامًا من جميع لذائذ الدنيا ومباهجها المشروعة؛ لم يجد وقتًا ولا