186
للرياء والشهرة، سقَطَ معنويًّا إلى الدَّرْك الأسفلِ بنظر عمومِ أهل الحقيقة والإيمان، لأن المؤمن مهما يكنْ عامِّيًّا أو جاهلًا، فإنه بسرِّ: (اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، [أخرجه الترمذي في سننه برقم 3127 من حديث أبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا، وقال حديثٌ غريب؛ هـ ت] يرى قلبُه هؤلاء المرائين وأمثالَهم بعينِ الإعراض والنفور وإنْ لم يُدرك عقلُه ذلك، ويشمئزُّ منهم معنى.
فهكذا هي حال ذلك الرجل الثاني المفتون بحبِّ الجاه، المولَعِ بالشهرة، فإنه يسقط إلى أسفل سافلين في نظرِ جماعةٍ عظيمةٍ لا تُحَدّ؛ وينال موقعًا مشؤومًا مؤقتًا بنظرِ قلةٍ من الأراذل التافهين المستهزئين من أهل اللغو والسَّفَه؛ ويجد بعض الأصدقاء المزيَّفين الذين يعودون عليه بالضرر في الدنيا، والعذابِ في البرزخ، وينقلبون أعداءً له في الآخرة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67].
أما الرجل في الصورة الأولى، فإنه وإن لم يَخْلُص قلبُه من حب الجاه، ينال مقامًا معنويًّا مشروعًا، ويحظى بمنزلةٍ مهيبة، بحيث يلبِّيان ما عنده من نزعة حب الجاه، شريطة أن يتخذَ الإخلاصَ والرضا الإلهيَّ أساسًا له، ولا يجعل حبَّ الجاه هدفَه.
فهذا الرجل يَفقد شيئًا يسيرًا بل تافهًا، لكنه يجد بالمقابل أشياء قيِّمةً كثيرةً بل كثيرةً جدًّا لا ضرر فيها، فهو كمن يطرد عن نفسِه بعض الأفاعي، ويجد بدلًا منها مخلوقاتٍ مباركةً كثيرةً يأنس بها كأنها أصدقاؤه، أو يدفع عن نفسه الدبابير اللاسعة المؤذية، ويجلب بدلًا منها النحلَ التي هي سُقاة شراب الرحمة المبارك؛ فمثلما يَطعَم منها العسل، يجد له أصدقاء يوالونه ويُمِدُّونه من شتى أنحاء العالَم الإسلامي بدعواتهم المتوالية كأنما يَسقون روحه شرابًا عذبًا كالكوثر، وتُحفَظُ دعواتُهم هذه في صحيفة أعماله».
غير أن «مصطفى كمال باشا» لم يوافق على ما قاله بديع الزمان، بل لم يُخْفِ نواياه وطموحاته، وحاول أن يستميله إلى صفِّه ويستفيدَ من نفوذِه، وقدَّم له عروضًا مغرِيةً،