149

فيما يلي يشرح بديعُ الزمان حياةَ الأسر في أحد مؤلفاته وهو الذي كان قائدَ فرقةٍ للمتطوعين في الحرب العالمية الأولى: [بعد مُضيِّ زمنٍ غير يسيرٍ على هذا الأسر، نُقِلَ الأستاذ إلى «بارلا» كأسيرٍ، فسطَّر بعضَ مُجريات حياته السابقة في «الرجاء الثالث عشر» من «اللمعة السادسة والعشرين»، ويمكن لمن شاء أن يراجع هذه الرسالة؛ المُعِدُّون]

قسمٌ من الرجاء التاسع
من اللمعة السادسة والعشرين

«إثرَ وقوعي في الأسر أثناء الحرب العالمية الأولى، لبثتُ زمنًا في ولايةٍ قَصيَّةٍ في شَمال شرقيِّ روسيا تدعى «كوسْتْروما»، [تقع مدينة «كوسْتْروما» الروسية على بعدِ نحوِ 350 كيلومتراً إلى الشَّمال الشرقيِّ من العاصمة موسكو، وهي قريبةٌ من إقليم سيبيريا ذي التاريخ الإسلامي العريق، وعليه فـ«روسيا» المذكورة في كلام الأستاذ لا تشمل إقليم سيبريا؛ هـ ت] كان هناك مسجدٌ صغيرٌ للتتار على ضفة نهر «الفولغا» الشهير، وكنت أشعر بالضيق بين رفقائي الضباط الأسرى، فأردت أن أخلو بنفسي، لكن لم يكن بمقدوري التجوال في الخارج بغير إذن؛ فأخذني أهلُ محلَّة التتار بكفالةٍ منهم إلى ذلك المسجد، فكنت أبيتُ فيه وحدي.
وكانت ليالي الشَّمال هناك تمتد وتطول مع اقتراب فصل الربيع، فكنتُ كثيرًا ما يصيبني الأرَق، وفي تلك الليالي الحالكة، والغربة الكالحة، إذا بخريرِ نهر «الفولغا» الحزين، وتساقُطِ قطراتِ المطر برقَّة، وأنينِ الفراق في صفير الرياح، توقظني مؤقتًا من نوم الغفلة العميق.
وبالرغم من أنني لم أكن أعدُّ نفسي شيخًا، لكنَّ الذي يرى الحربَ العالمية يَهرَم، ذلك أن أيامَها العصيبة يشيب لهولها الولدان، كأنما تجلَّى فيها سرٌّ من أسرار: ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزَّمل:17]؛ ومع أنني كنت في سن الأربعين، إلا أنني وجدت نفسي كأنني في الثمانين.