150
وفي غمرة تلك الليالي الطويلة المظلِمة، والغربة الحزينة، والحال الكئيبة، خيَّم عليَّ يأسٌ من الحياة، وتأمَّلتُ في عجزي ووحدتي فانقطع أملي، وبينما أنا في تلك الحال إذْ أتاني المدد من القرآن الحكيم، فردَّد لساني: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، وقال قلبي باكيًا: غريبٌ أنا.. ليس لي أحد.. ضعيفٌ.. بلا حولٍ ولا سَنَد.. أَنشُد الأمان.. أسأل العفو والغفران.. أطلُب المدد.. في بابك يا إلهي.
أما روحي التي تذكَّرتْ أحبائي القدامى في الوطن، وتخيَّلتْ موتي في الغربة، فراحتْ تبحثُ عن صديق، وتمثَّلتْ أبياتَ «نِيازي المصري»:
[هو محمد بن على جَلَبي، شاعر صوفي ولد في العام 1618م بقريةٍ قريبةٍ من «ملاطية» في وسط الأناضول، أكمل تحصيله العلمي بالأزهر، وأقام بمصر زمنًا طويلًا فاشتهر بـ«المصري»، له ديوان شعرٍ ومؤلَّفاتٌ بالعربية والتركية، منها: «تفسير فاتحة الكتاب»، «موائد العرفان»، «المجالس»، توفي عام 1694م؛ هـ ت]

بَسَـــطَ الجنـــاحَ إلى العَـدمْ
ومناديًا: أين الصَّديق؟ متجــــاوزًا دنيا الألم
وِرْدًا عــلى مَــرِّ الــدُّوَمْ

وهكذا ففي ليل الغربة الطويل ذاك، المفعَمِ بالحزن والأسى وألمِ الفراق، صار ضعفي وعجزي شفيعين عظيمين ووسيلتَيْن جليلتَيْن بباب الحضرة الإلهية، بحيث إني لا أزال مندهشًا من فراري بعد أيامٍ قليلة بصورةٍ غير متوقَّعة، واجتيازي بمفردي مسافةً تُقطَع سيرًا على الأقدام في سنة كاملة، مع عدم معرفتي باللغة الروسية؛ لقد نجوتُ بصورةٍ عجيبة، وبعنايةٍ إلهيةٍ شملتني لعجزي وضعفي، وأكملتُ رحلةَ الفرار الطويلة تلك محفوفًا بتيسيراتٍ وتسهيلاتٍ جمَّةٍ، مارًّا بـ«وارسو» ثم بالنمسا حتى بلغتُ اسطنبول، بحيث إن نجاتي بهذه السهولة الفائقة لا تتيسر حتى لأكثر الناس جرأةً ودهاءً ومعرفةً باللغة الروسية.
على أن حالتي في تلك الليلة التي قضيتُها في ذلك المسجد على ضفاف نهر «الفولغا» قد جعلتني أتخذ القرار التالي: «سأقضي بقيَّةَ عمري في المغارات.. كفاني اختلاطًا بحياةِ