152
يقول عنه ابنُ أخيه وابنُه المعنويُّ «عبدُ الرحمن»، وكان -رحمه الله- طالبَ علمٍ يتَّقِد ذكاءً وحماسةً وبطولةً: [هو ابن شقيقه الأكبر «عبد الله»، ولد بـ«نُوْرْس» سنة 1903م، صَحِب الأستاذَ وتتلمذَ له، وكان مساعدَه وابنَه المعنوي، توفي شابًّا بأنقرة عام 1928م ودُفِن قريبًا منها، ألَّفَ كتابًا موجزًا عن حياة الأستاذ النُّورْسِي ضَمَّنَه سيرتَه حتى ذلك الحين؛ هـ ت] بعد أن عاد عمي من الأسر سنة 1334رومي [يوافق ذلك العامَ 1336هـ، 1918م؛ هـ ت] عُيِّن عضوًا بـ«دار الحكمة الإسلامية» دون إخطاره، إلا أنه لم يستطع أن يداوم على الوظيفة لشدَّةِ ما قاسى من الأسر، فأُعفِيَ من الدوام مدَّةً من الزمن؛ ومع أنه حاول أن يستقيل منها مرارًا، إلا أن أصدقاءه لم يسمحوا له بالاستقالة، فباشر الدوام على إثر ذلك؛ وكنتُ أراقب حالَه، فلم يكن ينفق على نفسه أكثر مما تقتضيه الضرورة، وكان يُسأل: لماذا تعيش مقتصِدًا إلى هذا الحد؟ فيقول: أريد أن أعيش كما يعيش السَّواد الأعظم من هذا الشعب، فهم يدبِّرون أمورَ معيشتهم بهذا المقدار، ولا أريد أن أكون من الأقلِّية المسرِفة.
وكان من عادته أن يقتطع من راتبِ «دار الحكمة» مقدارَ الضرورة، ثم يدفعَ بالباقي إليَّ قائلًا: احتفظ بهذا، وحصل أنْ أنفقتُ المبلغَ الذي تجمَّعَ خلال سنةٍ دونَ أن أُخبِرَه، لِما أَعلمُه من شفقتِه بي ومن هَوانِ المالِ عليه؛ فلما عَلِم بذلك قال لي: إنما كان هذا مالَ الشعب لا مالَنا، فلماذا أنفقتَه؟! ما دام الأمر كذلك فقد عزلتُك عن منصب وكيل الصرف وعيَّنتُ نفسي.
وبعد مدَّةٍ من الزمن أراد أن يطبع اثني عشر مؤلَّفًا من مؤلَّفاته التي تتحدث عن الحقائق، فعَمَدَ إلى ما تجمَّع من مال الراتب فأنفقه على طباعة تلك الرسائل، ثمَّ وزَّعها مجَّانًا باستثناء رسالةٍ أو رسالتين، فسألتُه: لماذا وزَّعتَها مجَّانًا ولَم تجعلْها للبيع؟ فأجابني: إنما يجوز لي من الراتب ما يُقيم الأَوَد، أما ما زاد فللشعب، وإنني بهذا الشكل أردُّ مالَه إليه.
كان يؤدي مهمَّتَه في «دار الحكمة الإسلامية» على هذه الصورة من الجهد الشخصي كما تقدَّم؛ ذلك أنه واجه فيها عقباتٍ تمنع من القيام بعملٍ جماعي؛ ويَعلَمُ كلُّ مَن يعرف بديعَ الزمان أنه رجلٌ حَمَل روحَه على كفِّه، وجعلَ الموتَ نُصْبَ عينيه، ولأجل هذا كان في «دار الحكمة» مقاوِمًا صُلب المِراس، فلم تستطع التأثيرات الأجنبية أن تجعل منه أداةً في يدها، وتصدَّى بشجاعةٍ للفتاوى المُضلِّلة، وكان متى ظهر تيارٌ يستهدف الإسلام أو يحارِبه، أخرجَ كتابًا يفنِّد أفكارَه ويَنقُض بنيانَه.

***