145
وبينما كان ذات مرةً يتحرَّك على خط المواجهة، إذْ أُصيب بأربع طلقات، فلم يتراجع، ولم يحتمِ بالخنادق، لئلا يُضعِف من عزيمةِ المتطوِّعين؛ حتى إن الوالي (ممدوح بك) والقائد (كَلْ علي) أرْسلا إليه وقد أدهشَهم أمره: أنِ انسحبْ؛ فردَّ قائلًا: لن تقتلني رصاصات هؤلاء الكفرة.
والحقيقة أن مواضع ثلاثٍ منها كان في مقتَل، إلا أن إحداها أصابتْ خنجره، واخترقتِ الأخرى علبةَ التبغ، فلم يُصَب بأذى.
وبعد أن غادرَ الأهالي والوالي والقائد «كَلْ علي» «بِتْليس» ليلًا، وانسحب منها الجنود والمتطوعون، بقي فيها المُلَّا سعيد وثلَّةٌ من طلابه الفدائيين مرابطين فلم يغادروها، وعزموا على أن يضحُّوا بأنفسهم دفاعًا عمَّن بقي فيها من الضعفاء؛ وفي الصباح تصدَّوا لفرقةٍ من الأعداء، فاستشهِد جمعٌ من أصحابه؛ واستشهد أيضًا تلميذُه الفدائيُّ وابنُ أخته «عبيدٌ» فداءً عنه، ثم اخترق هو ومن تبقى من طلابه ثلاثةَ صفوفٍ للأعداء فلم يَخلُص منهم سوى الأستاذ وثلاثةٌ من طلابه، واختبؤوا بصورةٍ عجيبة تحت جسرٍ مُقامٍ على جدولِ ماءٍ، وفي أيديهم البنادق، وبقي في الماء والطين ثلاثًا وثلاثين ساعةً بعد أن أصابته الجراح وكُسِرتْ رِجله، وبينما كانوا في ذلك الوضع العصيب، وفوقَهم مقرٌّ للعدو فيه ضُبَّاطه وجنوده، كان يَبُثُّ السُّلوان في نفوس رفقائه بقلبٍ مطمئنٍّ فرِحًا بنجاةِ الأهالي، فيقول: متى واجهَنا العدوُّ بجنودٍ كثيرين استخدمْنا سلاحنا، لن نبيع أنفسَنا رخيصة، ولن نطلق النار على مجرَّد عنصرٍ أو عنصرين منهم.
وكان من لطيف العناية الإلهية أنهم كانوا يرون الجنود الروس، بينما ظلَّ الجنود الروس يبحثون عنهم مدةَ ثلاث وثلاثين ساعةً دون أن يتمكنوا من العثور عليهم!
وفي نهاية الأمر قال بديع الزمان لطلابه: إخواني.. اذهبوا، لقد أحلَلْتكم حقي، اتركوني واسعَوا للنجاة بأنفسكم؛ إلا أنَّ هؤلاء الفدائيين الأبطال قالوا له: لن نتركك ونذهب وأنت على هذه الحال، فإن استشهدنا فلنستشهد ونحن لك ملازمون.