155

حبيبٍ وحبيب، وليس لك منهم ها هنا سوى واحدٍ أو اثنين، وهما أيضًا ذاهبان إلى هناك؛ فليس الذهاب إلى اسطنبول بالنسبة إليك فراقًا حزينًا ولا افتراقًا أليمًا؛ ثم ها أنت قد أتيتَها، أفلم تَقَرَّ عينُك؟! لقد نجوتَ من بلاد الأعداء، من لياليها الطويلة الظَّلْماء، ومن شتائها القارس بعواصفه الهوجاء، وقدِمتَ إلى اسطنبول الجميلة كأنها جنةُ الدنيا.

وكذلك الأمر هنا، فلقد رحل تسعةٌ وتسعون بالمئة من الذين أحببتَهم منذ صغرك حتى الآن.. رحلوا إلى تلك المقبرة التي تَبعثُ فيك الرهبة والخوف، ولم يبق لك في هذه الدنيا سوى صديقٍ أو صديقين، وهما كذلك راحلان إلى هناك؛ فوفاتك في الدنيا ليست بفراقٍ، بل هي وصال، إنها جمعُ شملٍ مع أولئك الأحبة.

لقد ترك هؤلاء -أعني الأرواحَ الباقية- مأواهم المندرسَ تحت أطباق الثرى، فمنهم من يحلِّق بين النجوم، ومنهم مَن يَجُول بين طبقات عالَم البرزخ.

أجل، لقد أثبتَ القرآنُ والإيمانُ هذه الحقيقةَ إثباتًا قاطعًا، بحيث يُذعِن لها حتمًا كلُّ مَن لم يَعدَم قلبَه وروحَه، ولم تُغرِق الضلالةُ قلبَه، فيصدِّق بها تصديق مَن رآها؛ ذلك أنه حاشا لصانعٍ كريمٍ رحيمٍ زيَّنَ الدنيا بما لا يُحدُّ من أنواع اللطف والإحسان، وأظهر ربوبيَّتَه بهذه الرأفة والإكرام، حتى إنه لَيَحفَظُ أدنى الأشياء الجزئية قيمةً كالبذور.. حاشا له أن يَعمَد إلى أكملِ مصنوعاتِه وأجمعِها، وأحبِّها إليه وأهمِّها، ألا وهو الإنسان، فيُعدِمَه بلا رحمةٍ، أو يُفنِيَه أو يُضيِّعَه بلا عاقبةٍ كما يبدو في الظاهر، لا يفعل ذلك قطعًا وبداهةً، وإنما يَضَع الخالق الرحيم مصنوعَه الحبيبَ هذا تحت الترابِ الذي هو بابُ رحمة، يضعه هناك إلى أجلٍ كما يَبذُر المُزارِع البذار كي تتسنبل في حياةٍ أخرى. [أُثبِتتْ هذه الحقيقةُ في سائر الرسائل -خصوصًا في الكلمتين العاشرة والتاسعة والعشرين- إثباتًا لا يَمْتري فيه عاقل؛ سعيد]

وبعد أن تلقَّيتُ هذا التذكير القرآنيَّ غدَتْ تلك المقبرةُ آنَسَ لي من اسطنبول نفسها، وصرتُ أُسَرُّ بالخلوة والعزلة أكثر من سروري بالمجالسة والمعاشرة، ووجدتُ