158

فمن ذلك أن الظلمات الروحيةَ الناشئةَ عن علومِ الحكمة [أي الفلسفة؛ هـ ت] كانت تَخنُق روحي وتشدُّها إلى عالَم الكائنات، فكنتُ حيثُما قلَّبتُ نظري وبحثتُ عن النور في تلك المسائل لم أجده فيها، بل أجدني ضيِّقَ الصدر، إلى أن جاءني التوحيدُ الصادرُ من القرآنِ الحكيم، المُلقَّنُ بجملةِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة:163]، وانبثقَ نورًا ساطعًا فبدَّدَ الظلمات وشرحَ الصدر؛ غير أن النفس والشيطان هَجَما على العقل والقلب مستندَيْن إلى الدروس التي تعلَّماها من أهل الضلالة وأهل الفلسفة، لكنَّ المناظراتِ النفسيَّةَ في ذلك الهجوم حُسِمَتْ بانتصار القلب، ولله الحمد.

وقد دُوِّنَت بعضُ تلك المناظرات في العديد من الرسائل، فنكتفي بها؛ إلا أننا لأجل أن نعرِضَ انتصارًا قلبيًّا من ألوفِ تلك الانتصارات، سنبيِّنَ هنا برهانًا واحدًا من آلافِ تلك البراهين، عساه يُطهِّرُ أرواحَ شيوخٍ مُسِنِّين كانوا لوَّثوا في زمن الشباب أرواحَهم، وأسقموا قلوبَهم، واسترسلوا مع أنفسِهم: إما بالضلالة، وإما بالانشغال بما لا يعنيهم، وذلك حين أصابوا شيئًا مما يُسمَّى الحكمةَ الأجنبيةَ أو علومَ المدنيَّة؛ وعساه يُخلِّصُهم من شرورِ النفس والشيطان فيما يتعلَّق بالتوحيد؛ نبيِّن هذا البرهان على النحو التالي:

قالت نفسي نيابةً عن العلوم الفلسفية: إن الأشياء في هذا العالَم لها بطبيعتها ارتباطاتٌ مع الموجودات، فكل شيءٍ متوجِّهٌ إلى سبب، فينبغي أن تُطلَبَ الثمارُ من الأشجار، وينبغي أن تُطلَب محاصيل الحبوب من التراب، فما معنى أن يُتضَرَّعَ إلى الله ويُطلَبَ منه حتى أدنى الأشياء وأصغرُها؟!

وفي تلك اللحظة انكشَف سرُّ التوحيد وتبدَّى بنورِ القرآنِ بالصورة التالية:

قال قلبي لنفسي المتفلسفة: إن أصغر الأشياء وأدناها مَثَلُها كمثَلِ أكبر الأشياء وأعظمِها، إنما تأتي مباشرةً من قدرةِ خالقِ الكائنات، وتَصدُر عن خزينته، ولا سبيل