235

جنديٍّ، وصارا سواءً في إقبال الناس عليهما واحترامهم ومحبتهم لهما؛ أقول: متى تساوى هؤلاء أمكنكم حينئذٍ أن تقولوا لي بمقتضى قانون مساواتكم هذا: لا تسَمِّ نفسك عالمًا.. لا تَقبلِ احترام الناس لك.. أنكر فضيلتَك.. اخدُم خادمك.. عاشِرِ الأراذل.

فإن قلتم: إن هذا الاحترام والمقام والإقبال إنما هو خاصٌّ بالموظفين، ومخصوصٌ بوقتِ قيامهم على رأس عملهم، والحال أنك امرؤٌ لا وظيفةَ رسميةً لك، فليس لك أن تَقبل احترام الناس كما يفعل الموظفون!!

فالجواب: لو كان الإنسان مجرد جسدٍ فحسْب، وكان باقيًا في الدنيا خالدًا مخلَّدًا لا يموت، وأُغلِقَ باب القبر، وقُتِلَ الموت، وصارت الوظائفُ لأجلِ ذلك محصورةً في الأعمال العسكرية والإدارية لا غير، فعندئذٍ سيكون لكلامكم معنى.

لكن لما لم يكن الإنسان مجرَّد جسد، ولم يكن ممكنًا أن يُقتطَع القلب واللسان والعقل والدماغ فيُجعَلوا طعامًا لذلك الجسد يَتغذى به، ولم يكن ممكنًا القضاء على هذه الجوارح أصلًا، بل كانتْ هي نفسُها تحتاج إلى إدارة؛ ثم ما دام باب القبر لا يُغلَق، وما دام القلق من المستقبل الذي في الطرف الآخر من القبر أهمَّ قضيَّةٍ تشغل بال كلِّ إنسان؛ لم يكن ممكنًا بحالٍ أن تنحصر الوظائف القائمة على طاعة الناس وتقديرهم في وظائفَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ تخص حياة الناس الدنيوية.

أجل، فكما أن تزويد المسافرين بالوثائق اللازمة للسفر يُعدُّ وظيفةً من الوظائف، فإن تزويدَ المسافرين إلى ديار الأبد بوثائق السفر، ومَنحَهم نورًا يُبدِّد ظلمات الطريق، لَوظيفةٌ جليلةٌ لا تدانيها في أهميتها أيَّةُ وظيفةٍ أخرى؛ وإن إنكار مثلِ هذه الوظيفة لا يصحُّ إلا بإنكار الموت وتكذيبِ شهادة ثلاثين ألفَ شاهدٍ يصدِّقون كلَّ يومٍ ويختمون بخاتَمِ جنائزهم على الدعوى القائلة: «الموت حق».

فما دامت توجد وظائفُ معنويةٌ تستند إلى حاجاتٍ ضروريةٍ معنويةٍ، وما دام أهمُّ هذه الوظائف وظيفةَ الإيمان وتعليمِه وتقويتِه، إذ هو جواز السفر في طريق الأبد،