219

وفي هذه الغربة انفتحتْ دائرةُ غربةٍ ثانية، إذْ شعرتُ بغربةِ افتراقٍ حين تركتْني معظمُ الموجودات التي لي علاقةٌ بها وارتحلتْ، كالربيع الفائت.

ومن هذه الغربة انفتحتْ دائرةُ غربةٍ ثالثة، إذْ شعرتُ بغربةِ فِراقٍ لبقائي وحيدًا نائيًا عن وطني وأهلي.

وفي هذه الغربة أشعرني حالُ الليل والجبال بغربةٍ بالغةِ الرِّقَّة.

ثم رأيتُ روحي التي توشك أن تُغادر هذا النُّزُل الفاني وتتوجَّه نحو أبَدِ الآباد واقعةً في غربةٍ أخرى مدهشة، فقلتُ فجأةً: سبحان الله! وفكَّرتُ: كيف يمكن تحمُّل كلِّ هذه الغُربات والظلمات؟!

فهتف قلبي مستغيثًا:

غريبٌ أنا يا ربي.. وحيدٌ.. ضعيفٌ.. عَليلٌ كَلِيل.. شيخٌ لا حول لي ولا اختيار.

أنا في بابك يا إلهي أَنشُد الأمان.. أرجو العفو.. وأطلب المدد.

وإذا بنورِ الإيمان وفيضِ القرآن ولطفِ الرحمن يُمدُّني، فيحوِّل تلك الغُربات الخمسَ الحالكةَ إلى خمس دوائر نورانية مؤنسة، فردَّد لساني: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، وتلا قلبي الآيةَ الكريمة: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة:129].

وقال عقلي مخاطبًا نفسيَ المستغيثةَ المضطربةَ رَوْعًا وألمًا:

دع الشكوى يا مسكين، وتوكَّل إذا نزل البلاء..

إنما الشكوى بلاء.. بلاءٌ في خَطَاء.. [الخطأ والخطاء بمعنى واحد؛ هـ ت]

متى عرفتَ المبتلي.. عادت البلوى عطاءً وصفاءً ووفاء.