223

وكنتُ قد نويتُ حين كنت أسيرًا في روسيا، وتضرَّعتُ إلى الله سبحانه، أن آويَ في آخر عمري إلى مغارةٍ، فجعل أرحمُ الراحمين «بارلا» تلك المغارةَ، ويَسَّر لي منافعَها من غير أن يحمِّل كاهلي الضعيف متاعبَها ومشاقَّها؛ غير أنه كان لدى اثنين أو ثلاثةٍ من أصحابي فيها هواجسُ وأوهامٌ سبَّبتْ لي الأذى، فقد كانوا يحسبون أنهم يعملون لراحتي، لكنهم عادوا بالضرر على قلبي وعلى خدمة القرآن من جرَّاء هواجسهم وأوهامهم.

ثم إن أهل الدنيا منحوا جميع المنفيين وثائق عودة، وأصدروا عفوًا عن المجرمين وأطلقوا سراحهم، إلا أنهم حرموني الوثيقةَ ظلمًا؛ لقد أبقاني ربي الرحيم في هذه الغربة البعيدة عن الصخب والضوضاء، وحوَّلها إلى رحمةٍ عظيمة، كي يستخدمني في مزيدٍ من خدمةِ القرآن، ويجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية المسماة «الكلمات».

وترك أهلُ الدنيا جميعَ الشيوخ والرؤساء ذوي القوة والنفوذ القادرين على التدخُّل في دنياهم، تركوهم في الحواضر والمدن الكبرى، وسمحوا لهم بالتواصل مع أقاربهم ومع مَن شاؤوا من الناس، ومنعوني من ذلك ظلمًا وعدوانًا، وأرسلوني إلى قريةٍ نائية، ولم يسمحوا لأحدٍ من أقاربي وأبناء بلدي بزيارتي عدا واحدٍ أو اثنين؛ فحوَّل خالقي الرحيم هذه العزلةَ إلى رحمةٍ عظيمةٍ لي، وجعلها وسيلةً يصفو بها ذهني ويتخلص من الشواغل والمشوشات، فينهل من مَعين القرآن الحكيم بصفائه ونقائه.

ثم إن أهل الدنيا استكثروا عليَّ في البداية أن أكتب رسالتين عاديتين خلال سنتين، بل هم إلى الآن يتحفظون من أن يزورني ضيفٌ أو ضيفان في زيارةٍ لأجل الآخرة، كلَّ عشرة أيام أو عشرين، أو حتى كلَّ شهر، فظلموني بذلك؛ لكنَّ ربي الرحيم وخالقي الحكيم حوَّل ذلك الظلم إلى رحمةٍ لي، إذ أدخلني في خلوةٍ مرغوبةٍ وعزلةٍ مقبولةٍ في هذه الشهور الثلاثة التي يفوز فيها المرء بعمرٍ معنويٍّ مقدارُه تسعون سنة، فالحمد لله على كلِّ حال.

هكذا هي حالي وراحتي.