211

من حقائق ساميةٍ لا تنالها الشبهات، والخدمةُ الإيمانيَّةُ التي تؤدَّى ابتغاء مرضاة الله وحده، والإخلاصُ العظيمُ الذي تحقق به الأستاذ بديع الزمان.

لبِثَ الأستاذ في «بارلا» ثماني سنين، وكان يقضي معظم أوقاته بين السهول والكروم والبساتين، ويختلي في الجبال الهادئة أو الكروم الواقعة على بُعدِ مسيرةِ ساعتين أو ثلاثًا، فكان في اليوم الواحد يذهب ماشيًا إلى أماكنَ يستغرق الذهابُ إليها والإياب منها قرابة خمس ساعات؛ يؤلِّف رسائل النور، ويخصص لها ثلاثَ أو أربعَ ساعات في اليوم، ويصحِّح الرسائل التي كانتْ تُستَنسَخ بخطِّ اليد في «إسبارطة» وما حولَها، فضلًا عن تحضيره طعامَه بنفسه في معظم الأحيان.

كانت الرسائل في تلك المرحلة تُستَنْسَخ في أربعين مكانًا على أيدي الرعيل الأول من طلابها، ثم تُرسَل إلى الأستاذ، فيأخذ هذه النُّسَخ على عاتقه، ويذهب بها إلى تلك الجبال أو السهول فيصحِّحها هناك، ثم يعود إلى بيته.

لقد حُكِمَ عليه بالنَّفي، وتعرَّض لأشنع أنواع الظلم في ذلك الحين، ولم يُسمَح له بمقابلة أي شخصٍ، لكنَّه برغم هذا الحرمان والعدَم حصل على ثروةٍ معنويةٍ لا تنضُب؛ إذْ كان يؤلِّف وينشر الحقائق الإيمانيَّة النابعة من القرآن، والتي تحمل للعالَم الإسلامي والإنساني النور والهدى؛ وقد صرف جُلَّ وقته على مؤلفاته، وسيأتي يومٌ تنتشر فيه هذه المؤلفات في أرجاء الأناضول، وتصل إلى مراكز العالم الإسلامي، وتلفت أنظار أهل السياسة، وستمزِّق عندئذٍ عقائد الكفر والإلحاد التي أُريدَ فرضُها على أمَّةٍ حملت راية الإسلام قرونًا طويلة، وستنهض سدًّا منيعًا تصد تيارات أهل الكفر والضلالة والرذيلة الذين يمثلون الشخص المعنوي لطواغيت الضلال في العصور المتأخرة، وتمنعهم من بسط نفوذهم على هذا الوطن، وستكون لأجيال المستقبل مصدر نجاتهم وسعادتهم الأبديتين.

كان الأستاذ أسعدَ مَنْ في الدنيا؛ إذ كان صاحب دعوةٍ قدسيةٍ عظيمةِ المعنى؛ يُحضِّر بإذنٍ إلهيٍّ وتدبيرٍ ربَّانيٍّ بدايةَ تحوُّلٍ تاريخيٍّ عظيم، فلم يتزلزل، ولم يَحِدْ ذرَّةً عن