نفي بديع الزمان من الولايات الشرقية إلى غربيِّ الأناضول

في أثناء عزلة بديع الزمان في تلك المغارة آنفةِ الذِّكر، اندلعت حركة الثورة والعصيان في الشرق، وأرسل إليه أحد الشخصيات البارزة [هو الشيخ «سعيد بيران» عالِمٌ كبير، وشيخٌ من شيوخ الطريقة النقشبندية، وصاحب نفوذٍ واسع بين عشائر الأكراد، اندلعت على يده ثورة عصيانٍ مسلَّحةٌ في جنوب شرقيِّ تركية، انتهت بإخمادها وإعدامه مع عددٍ من رفاقه في العام 1925م؛ هـ ت] رسالةً يطلب فيها دعمَه وتأييدَه قائلًا: «إن لكم نفوذًا قويًّا»؛ فبعث الأستاذ إليه رسالةً جوابيَّةً يقول فيها: «إن التُّركَ قد خدموا الإسلامَ قرونًا طويلة، وأنجبوا الكثير من الأولياء، فما ينبغي أن تُشْهَرُ السيوف في وجوه أحفادهم، ولا تُشْهِروها أنتم كذلك، اِرجعوا عن قراركم، فإن الشعب بحاجةٍ إلى الإرشاد والتنوير».
وعلى الرغم من موقفه هذا اتخذت الحكومة قرارها بنفيه إلى غربيِّ الأناضول؛ [لم يكن قرار النفي خاصًا به وحدَه، بل طال كلَّ أصحاب النفوذ والمكانة الاجتماعية في الشرق، إضافةً لشيوخ الطرق الصوفية؛ هـ ت] فأرسلت مجموعةً من الدَّرَك إلى مغارته فأخرجوه منها ليُرسَل إلى منفاه، وبينما كانوا على وشك الانطلاق إذْ تجمهر حولَه الأهالي والوجهاء وجماعاتٌ يحملون السلاح وقالوا له باستعطاف: سيِّدَنا.. لا تذهب وتتركنا، اسمح لنا أن نمنعهم مِنْ أخْذِك.. إنْ شئتَ ذهبنا بك إلى بلاد العرب؛ لكنه هدَّأهم قائلًا: سأذهب إلى الأناضول، إنني أريد الناس هناك.
نُفي تحت حراسةٍ عسكريَّة إلى ولاية «بوردُر» [تقع ولاية «بوردُر» في جنوب غربيِّ تركيا؛ هـ ت] أولَ الأمر، وقضى هناك حياةَ أسرٍ مريرةً تحت ظلمٍ وعسفٍ ومراقبةٍ صارِمة، لكنه برغم ذلك لم يشأ أن يبقى مكتوف اليدين، فشرعَ بتدريس الحقائق لبعض أهل الإيمان، ثم ألَّف من ذلك كتابًا مكونًا من ثلاثة عشر درسًا سمَّاه: «المدخل إلى النور»، ومع أن الكتاب أُلِّف سِرًّا وبقي في نطاقٍ خاص، إلا أنَّ أهل الإيمان عَرَفوا قيمةَ ما فيه من جواهر الحكمة، وكانوا بأشدِّ اللهفة إليها، فأخذوا يستنسخونَه ويتداولونه فيما بينهم، إلى أن عَلِم بالأمر أعداءُ الدين العاملون في الخفاء، فرفعوا تقريرًا يفيد بأن سعيدًا النُّورْسِيّ لا يلتزم الهدوء في هذه المنطقة، بل يقوم بأنشطةٍ ودروسٍ دينية؛ فصدَرَ على إثر ذلك قرارٌ يقضي بإبعاده إلى بلدةٍ نائيةٍ منقطعةٍ بين الجبال تُدعى «بارلا» من أعمال «إسبارطة»، [ولايةٌ بجنوب غربيِّ تركيا، تحاذي ولاية «بوردُر» من جهة الشرق؛ هـ ت] على أملِ أن تطويَه الغربة والوحدة والحرمان، ويتلاشى في غياهب النسيان.
وحين كان بديع الزمان في «بوردُر» أتاها ذات يوم رئيسُ أركان الجيش المشير «فوزي جقمق»، فشكا إليه الوالي أن النُّورْسِيّ لا يطيع أوامر الحكومة، وأنه يعلِّم الدين لمن يأتونه!! لكن المشير كان يعلم جيدًا قدرَ بديع الزمان ومكانتَه واستقامتَه ورجاحة عقله، فقال للوالي: احترموه ولا تتعرَّضوا له، فإنه لا يتأتَّى منه أيُّ ضرر.
وحيثما نُفِيَ بديع الزمان كانت جهاتٌ رسميةٌ تَشنُّ ضده حملاتٍ مُغرِضةً بجهودٍ حثيثةٍ بغيةَ صرفِ أهل الإيمان عنه، ومَنْعِهم من الاستفادة من دروسه الدينية، لكن تأثير دروسه الإيمانية وقيمتها كانت تسري بين الأهالي من قلبٍ إلى قلب، مثلما كانتْ مؤلَّفاتُه تستولي على القلوب محبةً وعشقًا.