440

أُولاها: حقيقةُ الإيجادِ من العدم بحكمةٍ، والإبداعِ بإتقانٍ، والخَلْقِ والإنشاءِ باختيارٍ وعِلْم، والإحياءِ ونفخِ الروحِ الذي يدلُّ على تجلِّي العلم والحكمة والإرادة بعشرينَ جهةً؛ وهي حقيقةٌ لا يمكن ردُّها بأيِّ جهةٍ إلى المصادفة العشواء، أو القوة العمياء، أو الطبيعة الصمَّاء؛ بل تَنهَضُ برهانًا باهرًا مؤلَّفًا من شهودٍ بعددِ ذوي الأرواح يَشهَد على وجوبِ وجودِ الذاتِ الحيِّ القيوم وصفاتِه السبع ووَحدتِه.

ثانيتُها: حقيقةُ التمييز والتزيين والتصوير العظيمةُ القويَّةُ المشاهَدةُ في هذه المصنوعات غيرِ المحدودة، إذ يمتاز أحدُها عن الآخر بعلامةٍ فارقةٍ، وشكلٍ مزيَّن، ووزنٍ مقدَّرٍ، وتصويرٍ منتظم؛ بحيثُ لا إمكان ولا احتمال لأن يكون صاحبُ هذا الفعلِ المحيطِ الذي يُجلِّي آلافَ العجائب والحِكم بكلِّ جهةٍ إلا من هو القادرُ على كلِّ شيء، العليمُ بكل شيء.

ثالثتُها: حقيقةُ فتحِ صُوَرِ ما لا يُحدُّ من الحيوانات بمئاتِ آلاف الأنواع من قطراتٍ تُسمَّى نطفةً، ومن بيوضٍ وبُوَيضاتٍ محصورةٍ محدودةٍ، متماثلةٍ أو متقاربةٍ أو متشابهةٍ، بماهيَّةٍ معجزةِ الحكمة، وعلى هيئةٍ في غاية الانتظام والموازنة من غير خطأ؛ وهي حقيقةٌ ساطعةٌ تُنوِّرها أدلةٌ وأسانيدُ بعدد الحيوانات.

وهكذا رأى المسافرُ وتَلقَّى الدرسَ تامًّا، أنه باتفاقِ هذه الحقائقِ الثلاثِ تُدلي جميعُ أنواعِ الحيواناتِ بشهادتها قائلةً: لا إله إلا هو، بحيث إن الأرض تُردِّدُ بمقدارِ عَظَمتها وكأنها إنسانٌ هائل، وتُعلِن بماهيَّةٍ تُسمِعُ أهلَ السماوات: لا إله إلا هو.

وقد عَبَّرَتْ عن معنى هذه الحقائقِ المذكورةِ المرتبةُ السابعةُ من المقام الأول، فذُكِرَ فيها:

لا إله إلا الله الواجبُ الوجودِ، الذي دلَّ على وجوبِ وجودِه في وحدته اتفاقُ جميعِ أنواعِ الحيواناتِ والطيورِ الحامداتِ الشاهداتِ بكلماتِ حَواسِّها وقُواها وحِسِّيَّاتِها ولطائفِها الموزوناتِ المنتَظماتِ الفصيحات، وبكلماتِ جهازاتها وجوارحِها وأعضائِها وآلاتِها المكمَّلةِ البليغات، بشهادةِ عَظَمَةِ إحاطةِ حقيقةِ الإيجادِ والصنعِ والإبداعِ بالإرادة، وحقيقةِ التمييزِ والتزيينِ بالقصد، وحقيقةِ التقديرِ والتصويرِ بالحكمة، مع قطعيَّةِ دلالةِ حقيقةِ فتحِ جميعِ صورِها المنتَظَمةِ المتخالفةِ المتنوِّعةِ الغيرِ المحصورة من بيضاتٍ وقطراتٍ متماثلةٍ متشابهةٍ محصورةٍ محدودة.

ثم إن هذا المسافر المتفكر أراد الدخول إلى عالَم الإنسان ودنيا البشر، كي يمضي قُدُمًا في مراتب المعرفة الإلهية التي لا تُحَدّ، وفي أذواقها وأنوارها التي لا تتناهى، فدعاه أولَ مَن دعاه الأنبياء.

فدخل، ونظر أولًا في منازل الزمان الماضي، فرأى جميع الأنبياء عليهم السلام، وهم أكملُ البشر وأنورُهم، يذكرون مردِّدين معًا وبالإجماع: لا إله إلا هو؛ ويُعلنون دعوى التوحيد بقوةِ معجزاتهم الساطعة المصدَّقة اللامحدودة، ويعلِّمون البشر بدعوتهم إلى الإيمان بالله، ليرفعوهم من مرتبةِ الحيوانية إلى درجةِ الملَكيَّة.

فجثا على ركبتيه في هذه المدرسة النُّورانية ليتلقى الدرس من أساتيذها الذين هم أشهرُ مشاهير الإنسانية وأسمى أفرادها، فرأى في يدِ كلِّ واحدٍ منهم معجزاتٍ هي علاماتُ تصديقٍ أهداهم إياها خالقُ الكون، ورأى أنه قد صدَّقتْ بإخبارِ كلِّ واحدٍ منهم أمةٌ وطائفةٌ عظيمةٌ من البشر ودخلتْ في الإيمان، وعندئذٍ أمكنه أن يقدِّرَ مبلغَ القوَّةِ والقطعيَّةِ الذي تحظى به حقيقةٌ اتفقَ على تصديقها وأجمعَ على الحُكم بها مئةُ ألفٍ من هؤلاء السادة الكِرام الأجلَّاء الصادقين.

وأدرك عِظَمَ الجنايةِ والخطيئةِ غيرِ المحدودة التي اقترفها أهلُ الضلالةِ بإنكارهم حقيقةً أثبتَها ووقَّعَ عليها هؤلاء المخبِرون الصادقون بمعجزاتهم غيرِ المحدودة، كما أدرك شدةَ استحقاقهم لعذابٍ غير محدود؛ وعلِمَ عِظَمَ الحقِّ والحقيقةِ التي بلغها الذين آمنوا بهم وصدَّقوهم.