449

أجل، إن الذي أنطقَ جميعَ ذوي الأرواح من مخلوقاته، ومَن هو العليم بما ينطقون، لا شكَّ أن من مقتضى ربوبيَّته أن يُخاطبهم بجنسِ كلامهم.

ثانيتُها: إن الذي -لأجل أن يعرِّف نفسَه- خَلَق الكون بمصاريفَ عظيمةٍ لا تُحَدُّ، وملأه من أوله إلى آخره بالروائع والبدائع، وجعله يتحدث عن كمالاته بآلاف الألسنة؛ لا بدَّ أنْ سيُعَرِّف نفسَه بكلماته كذلك.

ثالثتُها: إنه كما سمِعَ مناجاةَ الناس الحقيقيين وشُكرَهم -وهم صفوةُ الموجودات، وأحوجُها، وأرقُّها، وأكثرُها اشتياقًا- فأجابهم على مناجاتهم وشكرهم فعلًا؛ فإنَّ من شأن الخالقيَّة أن يجيبهم كلامًا.

رابعتُها: إن صفة المكالمة التي هي لازمٌ ضروريٌّ من لوازم العلم والحياة وظهورٌ وضَّاءٌ لهما، لا بدَّ أن توجد بصورةٍ محيطةٍ سرمديةٍ لدى مَن له علمٌ محيطٌ وحياةٌ سرمديَّة.

خامستُها: إن الذي أودع العجزَ والاشتياق، والفقرَ والاحتياج، والقلقَ من المستقبل، والمحبَّةَ والتَّوَلُّه، فيمَن هم أشدُّ مخلوقاتِه العاجزةِ الفقيرة محبةً ومحبوبيةً، وأشدُّهم قلقًا واحتياجًا إلى نقطةِ استناد، وأشدُّهم لهفةً لأنْ يجدوا مالكَهم وصاحبَهم، لا شك أن من مقتضى أُلوهيَّته أن يُشعِرهم بوجوده من خلال تَكلُّمه هو.

وهكذا فَهِم أن دلائلَ وجودِ واجبِ الوجود ووحدتِه التي أفادتْها بالإجمال عمومُ الوحياتِ السماويةِ المتضمِّنةِ لحقائقِ التنزُّلِ الإلٰهي، والتعرُّفِ الربَّاني، والمقابلةِ الرحمانيَّة، والمكالمةِ السُّبْحانيَّة، والإشعارِ الصَّمَدانيّ، هي حُجَّةٌ أقوى من شهادةِ أشعة الشمس على الشمس في رابعة النهار.

ثم نظر إلى جهة الإلهامات، فرأى أن الإلهامات الصادقة نوعٌ من المكالمة الربانيَّة، وأنها وإنْ كانت تشبهُ الوحيَ بجهةٍ ما، إلا أنَّ بينهما فرقَين اثنين:

أولهما: أن الوحي، وهو أعلى من الإلهام بكثيرٍ، إنما يحصل معظمُه بواسطة الملائكة، أما الإلهام فأكثر ما يحصل بغير واسطة.