450

فكما تجري -مثلًا- أوامرُ السلطان ومكالماتُه بصورتين:

إحداهما: أن يرسل أحدَ مبعوثيه إلى أحد وُلاته باسم عَظَمةِ السَّلْطنةِ والحاكميَّةِ العمومية، وربما عقد مع هذا المبعوث الوسيط اجتماعًا، إظهارًا لأهميةِ الأمر وعَظَمةِ الحاكميَّة، ثم بلَّغه مرسومَه بعد ذلك.

والأخرى: أن يُجري مكالمةً لا بعنوان السلطنة ولا باسمها العمومي، بل بشخصه هو، فتكون مكالمةً خصوصيةً بهاتفه الخصوصي في معاملةٍ جزئيةٍ مع أحد خَدَمه الخاصِّين الذين تربطه بهم علاقةٌ خاصة، أو مع واحدٍ من عامَّةِ رعيته.

فكذلك السلطانُ الأزليُّ سبحانه؛ كما أنَّ له -باسمِ ربِّ العالمين وبعنوان خالقِ الكون- مكالمةً بالوحي وبالإلهامات الشاملة التي تقوم بمهمة الوحي؛ فإن له كذلك أسلوبَ مكالمةٍ بصورةٍ خصوصيَّةٍ مع كلِّ فردٍ وكلِّ ذي حياة من حيث هو ربُّهم وخالقُهم؛ إلا أنها مكالمةٌ من وراء الحُجُب وبحسَبِ قابليَّاتهم.

الفرق الثاني: أن الوحي صافٍ لا ظلَّ له، خاصٌّ بالخواص؛ أما الإلهام فله ظلٌّ، تخالطه الألوان، وعمومي؛ وله أنواع كثيرة كإلهامات الملائكة، وإلهامات البشر، وإلهامات الحيوانات؛ وهو بأنواعه الكثيرة جدًّا يُشكِّلُ أرضيةً لتكثيرِ الكلماتِ الرَّبَّانيَّة عددَ قطراتِ البحار؛ وفَهِم السائح أنّ هذا يفسِّر وجهًا من وجوه الآية: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ [الكهف:109].

ثم نظر إلى ماهيَّة الإلهام وحكمته وشهادته، فرأى أن ماهيَّتَه وحكمتَه ونتيجتَه تتركب من أربعةِ أنوار:

أولُها: ما يُطلق عليه: التودُّد الإلٰهي؛ فكما يتودَّد سبحانه إلى مخلوقاته فعلًا، يتودَّدُ إليهم كذلك قولًا وحضورًا ومَعِيَّةً؛ إذ هو مقتضى الوَدوديَّة والرحمانيَّة.