462

فلا ريب أنَّ كتابًا كهذا ليس له مثيل، بل هو كتابٌ استثنائيٌّ مُعْجِزٌ فريد.

النقطة الثالثة: إن القرآنَ قد أظهر منذ ذلك العصر إلى يومنا هذا بلاغةً جعلتْ قصائدَ أشهر الشعراء المعروفةَ بالمعلَّقات السبع الذائعةَ الصِّيت المكتوبةَ بالذهب المعلَّقةَ على جدار الكعبة؛ تهوي من عليائها أمامه؛ حتى إن ابنة الشاعر لبيد قالت حين كانت ترفعُ قصيدةَ أبيها عن الكعبة: أمَّا وقد جاءت الآيات فليس لمثلكِ ها هنا مقام.

بل إن أعرابيًّا من أرباب الفصاحة لما سَمِع آيةَ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحِجر:94] خَرَّ ساجدًا، فقيل له: أأسلمتَ؟ قال: لا، إنما سجدتُ لفصاحةِ الآية.

وفضلًا عن ذلك فإن آلاف الأئمة العباقرة والأدباء المتفنِّنين في علم البلاغة، كـ«عبد القاهر الجُرجاني» [هو أبو بكر، عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرجانيّ، برَعَ في علوم اللغة والأدب، ويُعَدُّ مؤسِّس عِلم البلاغة، وقد عُرِف بنظرية النَّظْم، أشهرُ مؤلَّفاته: «دلائل الإعجاز»، و«أسرار البلاغة»، و«إعجاز القرآن»، و«الإيضاح» و«الجُمَل» في النحو، توفي عام 471 هـ؛ هـ ت] و«السَّكَّاكي» [هو أبو يعقوب، يوسف بن أبي بكر السَّكَّاكي، من علماء العربية والبلاغة والأدب، أشهرُ مؤلَّفاته: «مفتاح العلوم»، و«كتاب الجُمَل»، توفي عام 626 هـ؛ هـ ت] و«الزمخشري»، [هو أبو القاسم جارُ الله، محمود بن عمر الزمخشري، إمامٌ في التفسير واللغة والبلاغة والأدب، أشهرُ مؤلَّفاته: تفسيرُه «الكشَّاف»، و«المُفصَّل في النحو»، و«أساس البلاغة»، و«الفائق في غريب الحديث»، توفي عام 538 هـ؛ هـ ت] قد قرَّروا بالاتفاق والإجماع أنَّ بلاغة القرآن لا تُنال، إذْ هي فوق طاقة البشر.

ثم إن القرآن ظلَّ منذ ذلك الحين يتحدى كلَّ مغرورٍ متبجِّحٍ من الأدباء والبلغاء، ويدعوهم إلى ميدان المعارَضة قائلًا لهم بأسلوبٍ يثير حفيظتَهم ويُحطِّم غرورَهم: ائتوا بسورةٍ من مثله، أو اقبلوا الذلَّ والهلاك في الدنيا والآخرة؛ فما كان من البلغاء المعاندين في ذلك الحين إلا أنْ تركوا الطريق الأقصر، وهي الإتيان بسورةٍ من مثله، واختاروا عليها الطريق الطويلة، طريقَ المحاربة التي تلقي بأنفسهم وأموالهم إلى التهلكة؛ وهذا يُثبِت أن المُضيَّ في تلك الطريق القصيرة غير ممكن.