463

ثم إنَّه قد ظهرتْ منذ ذلك الزمان إلى يومنا هذا ملايينُ الكتب العربية، منها ما كتبه أولياءُ القرآن برغبةٍ في تقليده والتشبُّه به، ومنها ما كتبه أعداؤه بدافعٍ من معارضته وانتقاده، وهذه الكتب في متناول الأيدي، وما زالت تترقَّى بتلاحق الأفكار، لكنْ ما بلغَ واحدٌ منها شأوَ القرآن؛ حتى إنه لو استمع إليها شخصٌ من أبسط الناس لقال بلا تردُّد: إن هذا القرآنَ لا يُشْبِهُ شيئًا منها ولا هو بمرتبتها؛ إذًا فهو إما دُونها جميعًا، أو فوقَها جميعًا؛ وليس في الدنيا أحدٌ بل ولا كافرٌ أو حتى أحمقُ يقول عن القرآن: إنه دونَها جميعًا؛ وهذا يعني أن مرتبة بلاغتِه فوقها جميعًا.

ولقد قرأ رجلٌ آيةَ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:1]، فقال: لا أرى في هذه الآية ما يُعَدُّ بلاغةً فائقة!! فقيل له: اذهبْ إذًا كهذا السَّيَّاح إلى ذلك الزمان، واستمع إلى الآية هناك؛ فتخيَّلَ الرجلُ نفسَه هناك قبل نزول القرآن، وإذا به يرى موجوداتِ العالَم في حالةٍ مزريةٍ يخيم عليها الظلام في دنيا فانيةٍ لا تستقر على قرار، وهي فوق هذا جمادٌ بلا شعور، معطَّلةٌ بلا وظيفة، في فضاءٍ خالٍ مترامي الأطراف بلا حدود.

وما إن سمع هذه الآية من لسان القرآن حتى رآها تُميطُ حجابًا قاتمًا عن وجه الدنيا والكون فتُنيرُه، حتى شاهد هذا الخطابَ الأزليَّ والمرسومَ السرمديَّ يُلقي الدرس على ذوي الشعور المنتظمين الصافِّين بالتوالي على مَرِّ العصور، ويُظهِر هذا الكونَ كمسجدٍ كبير، فيه جميع المخلوقات -وفي مقدمتها السماوات والأرض- قائمةٌ على رأس عملها في حالةٍ من السعادة والامتنان، تؤدي وظيفتَها بهمةٍ ونشاطٍ في ذكرٍ وتسبيحٍ جَيَّاشٍ بالحياة.

فلما ذاق درجةَ بلاغةِ هذه الآية قاس عليها سائرَ الآيات، فوعى حكمةً واحدةً من بين آلافِ الحِكَم التي أدامتْ عظَمَةَ سلطَنَةِ القرآن بكمالِ الاحترام أربعة عشر قرنًا بلا انقطاع، وبسطتْ رصانة بلاغته على شطر المعمورة وخُمسِ النوع البشري.