466

وكذلك أخْذُ جميعِ طبقاتِ النوع البشري – مِن أغباهم إلى أذكاهم، ومن عامِّيِّهم إلى عالِمهم- أخْذُهم نصيبَهم كاملًا من درس القرآن، وفهمُهم أعمقَ الحقائق منه؛ واستخراجُ كلِّ طائفةٍ من مئاتِ طوائف العلوم والفنون الإسلامية، لا سيما كبارَ المجتهدين في الشريعة الكبرى، وجهابذةَ المحقِّقين في أصول الدين وعلم الكلام، استخراجُهم جميعَ الحاجات والمسائل المتعلقة بعلومهم واستنباطُهم إياها من القرآن؛ فإنما هذا إمضاءٌ على أن القرآن منبعُ الحق ومعدِنُ الحقيقة.

وكذلك استنكافُ مَن لم يُسلِم من بلغاء العرب -وهم أئمة الفصاحة- عن معارضته مع شدة حاجتهم إليها؛ وعجزُهم إلى الآن عن الإتيانِ بسورةٍ تضاهي وجهَ إعجازه البلاغي فحسب من بين وجوه إعجازه السبعة الكبرى؛ وسكوتُ مَن أتى من عباقرة العلماء ومشهوري البلغاء إلى يومنا هذا.. سكوتُهم عاجزين عن معارضته ولو في وجهٍ إعجازيٍّ واحد، مع رغبتهم في ذيوع صِيْتِهم بذلك؛ إنما هو إمضاءٌ على أن القرآن مُعجِزٌ، وأنه فوق طاقة البشر.

أجل، فإنه لما كانت قيمةُ الكلام وعُلْوِيَّتُه وبلاغتُه تتجلى بذِكْرِ: ممن جاء؟ وإلى مَن جاء؟ ولِمَ جاء؟ لم يكن من سبيلٍ لأنْ يماثلَ القرآنَ مماثلٌ أو يدانيه مُدان.

ذلك أنه خطابُ ربِّ العالمين، وكلامُ خالق الأكوان، ومكالمتُه التي ما مِن أمارةٍ تُشعِر بأنها مصطنعةٌ أو مقلَّدةٌ بأيَّةِ جهة.

والمخاطَبُ به هو المبعوثُ باسم جميع بني الإنسان، بل باسم جميع المخلوقات، أشهرُ نوعِ البشر وأرفعُهم ذكرًا، ومَن ترشَّح الإسلامُ العظيمُ من قوةِ وَسَعَةِ إيمانه، حتى عَرَجَ به إلى مقام قاب قوسين، ونزَلَ بمظهريَّةِ المخاطَبة الصمدانيَّة.

ثم إن هذا الخطاب يبيِّن ويوضِّح المسائلَ المتعلقةَ بسعادة الدارين، ونتائجِ خلق الكون وما فيه من المقاصد الربانية..